في ضوء رسائل التهدئة التي بدأت تبعث بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإيران، في سبيل خلق مساحة ثقة للعودة إلى طاولة المفاوضات النووية، التي كانت مقدمتها إعلان الإدارة الأمريكية إيقاف الدعم العسكري للعمليات العسكرية في اليمن، تواجه هذه الإدارة بتصريحات مثيرة للاهتمام أدلى بها وزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني محمود علوي الذي ألمح إلى أن بلاده قد تضطر في نهاية المطاف لامتلاك أسلحة نووية إذا لم تقدم الإدارة الأمريكية نوايا حقيقية لرفع العقوبات عنها، وهي تصريحات ملفتة للانتباه، تعارض ما تعهدت به إيران سابقًا بأن برنامجها النووي للأغراض السلمية فقط.
هذه التصريحات جاءت مترافقة مع تقارير استخبارية إسرائيلية تتحدث بأنه إذا اختارت إيران صنع قنبلة نووية، فستحتاج إلى عامين على الأقل، لأنها تفتقر إلى جميع المكونات والقدرة التقنية، كما أنها جاءت مترافقة أيضًا مع هجمات بالطائرات المسيرة شنتها جماعة الحوثي على مدينة أبها السعودية، فضلًا عن مناورات صاروخية إيرانية، وهو ما قد يضع مزيدًا من العقبات أمام الإدارة الأمريكية التي ستكون محكومة في هذا الإطار بخيارين: الأول كبح جماح إيران، والثاني طمأنة الحلفاء، وهي مهمة صعبة جدًا في ضوء الوضع المعقد الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط.
فتوى خامنئي النووية
أكدت إيران في أكثر من مناسبة أنها لا تطمح لامتلاك القنبلة النووية، وهذا التأكيد كان نابعًا بالأساس من الفتوى النووية التي أعلنها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي (الولي الفقيه والقائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية)، إذ أكد في فتواه الشهيرة، حرمة حيازة وتخزين الأسلحة النووية، إلا أن حديثه أمام مجموعة من علماء الدين المقربين منه في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بدا أنه قد تماهى بعض الشيء عن فتواه الشهيرة، عندما قال “…على الرغم من أنه كان بإمكاننا السير في هذا الطريق، قررنا العدول عنه استنادًا إلى فتوى ديننا الإسلامي، فمن الخطأ صنعها ومن الخطأ تخزينها لأن استخدامها محظور”.
صرح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في 7 من فبراير/شباط 2021، أن إيران لن تقيّد برنامجها النووي مرة أخرى، بالامتثال لالتزامات الاتفاق النووي
أشار علوي إلى أن مرشد الثورة قال بوضوح في فتواه إن بناء القنبلة النووية، يتعارض مع الشريعة، وإن إيران لن تسعى لها وتعتبرها محرمة، لكن إذا استمروا في هذا الاتجاه، فإنه لن يكون خطأ إيران، وإنما خطأ من دفع إيران إلى ذلك”، وفي هذا الإطار يمكن القول إن تصريحات علوي يمكن أن تكون اختبارًا لفرضية جديدة في الدبلوماسية النووية “تكون فيها الولايات المتحدة والغرب هما السبب في دفع إيران نحو بناء القنبلة النووية”، بل إن هذه التصريحات قد تكون إشارة نادرة إلى مدى اهتمام إيران بحيازة أسلحة نووية.
ومن ثم فإن السؤال المهم الذي يطرح هنا: هل سيتراجع خامنئي عن فتواه النووية، بناءً على الإشارات التي قدمها علوي؟ من المهم القول هنا إن الفتوى في الفقه الشيعي تحديدًا، تكون مبنية على أساس وجود المسبب وزوالها ينتهي بانتهاء السبب، أي أنها محكومة بفقه الضرورة الذي تحدث عنه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني، وعلى هذا الأساس يمكن التوضيح بأن الحالة النووية في إيران محكومة بواقع السياسة وليست الإيديولوجيا الجامدة.
علاوة على ذلك، فإن الفتاوى ليست ثابتة، فيمكن تغييرها وفقًا للظروف، فقد غيّر مؤسس الجمهورية الإسلامية الخميني، موقفه وأصدر فتاوى متناقضة عن عدد من القضايا من بينها الضرائب والتجنيد العسكري وحق المرأة في التصويت وشرعية النظام الملكي للشاه محمد رضا بهلوي، وبالمثل يمكن للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أن يعكس فتواه النووية إذا رأى ذلك ضروريًا، واعترافًا بهذه الحقيقة، اقترح بعض المسؤولين الإيرانيين السابقين أن يمرر البرلمان تشريعًا يقر قانون الفتوى النووية، من أجل الحفاظ على قيمتها كإجراء لبناء الثقة مع الغرب.
وفي هذا الإطار، في أحد خطاباته القليلة التي يلقيها بشكل مباشر منذ بدء جائحة كورونا، صرح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في 7 من فبراير/شباط 2021، أن إيران لن تقيّد برنامجها النووي مرة أخرى، بالامتثال لالتزامات الاتفاق النووي، ما لم ترفع أمريكا العقوبات كافة، هذه هي سياسة الجمهورية الإسلامية النهائية التي لا رجعة فيها، وهي مسألة إجماع بين مسؤولي الدولة.
بالإضافة إلى ذلك، نصح خامنئي المسؤولين الإيرانيين بألا يخافوا من قوة العدو، مخصصًا “أولئك الذين لديهم تقييمات غير واقعية عن قدرات أمريكا وبعض الدول الأخرى”، وفي رأيه، تشير التطورات الفاضحة الأخيرة في الولايات المتحدة بوضوح إلى تراجع مصداقية أمريكا وقوتها ونظامها الاجتماعي.
لا تقدم حقيقي قد يحصل قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، فهي انتخابات يعول عليها خامنئي في إزاحة التيار الإصلاحي عن الواجهة السياسية
خامنئي ومستقبل المفاوضات النووية
تواجه الدبلوماسية النووية بين إيران والقوى الكبرى، تعقيدات كبيرة متمثلة بالموقف المتصلب الذي يتبناه المرشد الأعلى بدعم من التيار المحافظ والحرس الثوري، حيث تنظر الأطراف الثلاث إلى الصفقة النووية على أنها سبب الواقع الاقتصادي والاجتماعي السيئ الذي تعيشه إيران اليوم، لذلك رغم التصريحات الدبلوماسية التي أعلنها الرئيس الإيراني حسن روحاني في 12 من فبراير/شباط 2021، بأنه لا توجد مشكلة من التفاوض مجددًا مع الأعداء، فإن هناك رغبة إيرانية على ما يبدو إلى تأجيل الحديث عن أي عودة للاتفاق النووي، قبل رفع العقوبات، فهاجسها الوحيد اليوم هو رفع العقوبات قبل الحديث عن أي خطوة.
فالتصعيد العسكري على الجبهة اليمنية وزيارة رئيس السلطة القضائية الإيرانية إبراهيم رئيسي للعراق وتصريحات زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله عن وصول صواريخ إيرانية متطورة للحزب، تشير أن لا تقدم حقيقي قد يحصل قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، فهي انتخابات يعول عليها خامنئي في إزاحة التيار الإصلاحي عن الواجهة السياسية وفسح المجال لرئيس ثوري متشدد على ما يبدو، لخلق مزيد من ردات الفعل السياسية لدى الإدارة الأمريكية من أجل إجبارها على رفع العقوبات.
إن التصعيد السياسي الذي اعترى مواقف خامنئي الأخيرة، سواء عبر الحديث عن إمكانية التراجع عن فتواه النووية كما أشار علوي، فضلًا عن منع أي عودة للاتفاق النووي دون رفع العقوبات، يشير إلى تحول مهم في سياسة إيران الخارجية مع الولايات المتحدة، وذلك عبر التحول من فكرة الصبر الإستراتيجي إلى المضايقة الإستراتيجية، من أجل تضييق هامش المناورة أمام القوى الكبرى في الاتفاق النووي، سواء عبر إجبارهم على التعامل مع رئيس ثوري أقل دبلوماسية من روحاني، وكذلك إخضاعهم لمزيد من الضغوط عبر خلق حالة عدم يقين في تصرفات حلفاء إيران في المنطقة، وهو ما قد يجعلهم أكثر استعدادًا لتقديم التنازلات حسب رؤية خامنئي الإستراتيجية.