لا ندخل شارع الحبيب بورقيبة بسهولة كل يوم، وندخله كمواطنين عنوة مع كل احتجاج، رغم أنه من أكبر الشوارع لكنه أضيقها كسجن مفتوح، يحضر تاريخ السلطة في هذا الشارع، رغم أن تاريخًا يُكتب كل يوم بطريقة محايثة من فئات تحاول أن تفتك الفضاء من رموز السلطة، فعليًا نحن لا ندخله كمواطنين إلا عندما نحتج، إن الاحتجاج هو أحد دلالات الفعل الأدائي لبناء شارع الثورة.
من الأسماء الأولى للشارع الرئيسي في العاصمة هو شارع “البحرية”، مرتبطًا بذلك بالبحر الذي يطل عليه انطلاقًا من باب المدينة العربي: باب بحر، ومرجعية البحر كفضاء أزرق طبيعي مفتوح انتهت إلى فرض جول فيري كرمز مصطنع للسلطة الاستعمارية.
وبعد الاستقلال، حمل الشارع اسم الحبيب بورقيبة مع تمثال خاص به على ظهر حصان، في صورة رمزية للوطني الذي أنهى أمجاد البايات مع انقضاء الفترة الاستعمارية. استبعد النظام السابق التمثال لكنه عاد مرة أخرى ليواجه ابن خلدون معطيًا ظهره للبحر المتوسط، فهو اليوم تحت اسم الحبيب بورقيبة لكنه فعليًا مُسمى وعنوان لهدر بناء الفضاء المواطني في دولة ومجتمع ديمقراطيين.
لا يمكن اعتبار الشارع اليوم واجهة مشرفة للعاصمة بسبب الفوضى والاختناقات المرورية اليومية دون أن ننسى الأوساخ التي تتراكم بعد رفعها، وكل حضور السلطة الأمني والعمل البلدي المحلي المنتخب فوضى تسلطية غير قادرة على ضمان نظافة أولى الوجهات السياحية للأجانب في تونس.
رفعت الثورة في 14 يناير/كانون الثاني اختناقًا سياسيًا عبر التظاهر والاحتجاج، لكن أسباب الاختناق المتعددة تتواصل كل يوم، إذ تفرض جدران الشارع وصدى التلوث الصوتي والرمزي رغبة مغادرته مباشرة، فهي تنتقص من حضورنا فيه لأننا لا نشعر أننا أحرار، حيث توجد أعين الرقابة الأمنية البشرية والإلكترونية في كل مكان، ناهيك بالعيون الغائمة لمارين يتملصون منه بحثًا عن غاية خارجه. يمر منه كل يوم الآلاف من المارة بغية العمل والخبز اليومي في نقل لا عمومي، هو عبارة عن كتل لحم بشرية متراصة.
في مواجهة كل هذا الهدر لمحاولة بناء فضاء عام في أهم شوارع العاصمة، تحول الأخير إلى فضاء ذي طابع احتجاجي بامتياز تحاول السلطة إخفاءه بقوة، وبين عمليات الهدر والتصفية لعمومية الشارع بما تعنيه من مجال حضور حر ومتساوي للجميع، والفعل الإنشائي والخلاق للاحتجاج، تبرز للعيان محاولات التونسيين اليوم للتحرر رغم كل شيء فيه.
يروم الاحتجاج اليوم، خاصة لدى فئة الشباب، إعادة ترتيب محيطه المادي والمعنوي انطلاقًا من وعي متقدم في ظرف صعب ويركز على مطالب تجاوزت المطلبي المعيشي إلى حرية التعبير والتفكير والضمير، تلك المطالب التي يجب أن تنعكس على محيطه الذي ينخرط فيه ويشكله.
شارع الحبيب بورقيبة فضاء عمومي مهدور
هندسة الفضاء في هذا الشارع تحيلنا إلى السلطة سيئة التأسيس، إذ يحتل مبنى السفارة الفرنسية الشارع بأسلاك شائكة تفرض على المارة مجاورة السيارات وسط الطريق. كانت السفارة مقرًا للمقيمين العامين والقناصل الفرنسيين وهي اليوم مقر عمل السفير.
على الطرف الآخر منه توجد وزارة الداخلية بمبناها قاتم اللون ونوافذه الحديدية، فانتقل التونسيون فعليًا من الاستعمار إلى الدولة البوليسية التي هدرت ممكن الاستقلال الحقيقي.
قبل 2011، كان مجرد المرور أمام وزارة الداخلية يُثير خوف التونسيين، وهي لا تزال اليوم أكثر حضورًا، فحضورها المعنوي الذي فرض نظامًا ما في المشهد، احتاج اليوم إلى احتلال الشارع بحواجز حديدية متقدمة استهلكت ثلثه تقريبًا، ويعاضد الحضور الحديدي أعوان أمنيون مدججون بالسلاح وسيارات حديثة في جميع مفاصله، وهو الحضور الذي اعتدى على المواطنين وزج بالشباب في السجون مؤخرًا.
رعت الدولة الفرنسية الأنظمة الأمنية المتعاقبة في تونس، وأول شواهد هذه الرعاية الموصولة هو تصريح جاك شيراك إبان زيارته لتونس سنة 2003، إذ اعتبرت جريدة ليبيراسيون الفرنسية هذا التصريح تبييضًا لنظام بن علي، ومما جاء فيه “أول حق من حقوق الإنسان هو تناول الطعام والعلاج وتلقي التعليم والحصول على مسكن، ومن وجهة النظر هذه، يجب الاعتراف بأن تونس تتقدم بكثير عن العديد من البلدان”، في فترة كانت فيها تونس تعاني من قمع بوليسي ممنهج اختارت فرنسا دعم النظام رغم احتجاجات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي أدانته.
أما ساركوزي فقد اعترف بعد هروب بن علي بأن فرنسا لم تحسن تقدير الموقف في تونس، وهو ما دعاه لتغيير السفير. يُذكر أن رئيس الوزراء فرانسوا فيون في عهده أقر بأنه تم منح تصاريح بتصدير الغاز المسيل للدموع إلى تونس بتاريخ 12 من يناير/كانون الثاني 2011.
لم يكن الاستبداد في تونس وليد الأنظمة فقط، بل هو حصيلة تركيبة اقتصادية وسياسية واجتماعية تاريخية. لم تنجح دولة الاستقلال في بناء اقتصاد وطني منتج بعيدًا عن الشراكات والاتفاقيات المفروضة. تواصل الحضور الفرنسي كشريك اقتصادي أول لتونس كما كانت عليه قبل الاستقلال. يعتبر السفير السابق أحمد بن مصطفى أن تونس لم تخرج من دائرة النفوذ الفرنسي رغم محاولات دولة الاستقلال إلى حدود السبعينيات، وهو ما كرس سياسة التبعية والانفتاح الاقتصادي والتجاري غير المتكافئ مع فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى اليوم.
إن الحضور الرمزي التاريخي لفرنسا في شارع الحبيب بورقيبة بعيد عن رمزية التنوير والتحرر التي أصبحت احتفاءً خطابيًا من الأنظمة القعمية لتحلّ في الأصوات المعارضة والمثقفة في تونس. يقع التونسيون اليوم في تناقض مفروض لا يمكن رفعه بين فرنسا السياسة وفرنسا الثورة.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه قيم الحداثة والتنوير مهددة، ظهرت تيارات شعبوية تحت شعار طرد فرنسا و”الحثالة الفرنكفونية”، ومن المفارقة أن جزءًا من وهم الشعبوية حقيقي، فحتى الكذب يحتاج إلى شيء من الصدق حتى يمر، فلم تستثمر فرنسا في الاستقلال الوطني لمستعمراتها السابقة كما لم تستثمر في الثورات، ويضيف الدور العسكري لفرنسا في الثورة الليبية حجة أخرى تربك المدافعين عن الحداثة وقيمها في أفقنا الخاص.
يتواصل “اللعب” الرمزي للسفير الفرنسي في تونس بعد الثورة، ضمن سياسة اتصالية تفرضها خلفيته الصحفية حرص السفير أوليفي بوافر دارفور على ارتداء الأزياء التونسية وتناول “عصيدة الزقوقو” في المولد النبوي والرقص على أنغام المزود، بالإضافة إلى تنقلات عديدة في جهات البلاد.
اعتبر البعض أن ذلك يدخل في عمله الدبلوماسي (؟) لكن لا يمكن التغاضي عن تملكه لما هو تونسي وحضوره في الإعلام والمشهد العام، فلا يمكن للسفير أن يكون تونسيًا ما لم يتح للتونسي ما هو له سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
المسرح والبنوك: الثقافة المحاصرة
يكاد ألق المسرح البلدي ينطفئ في منتصف شارع الحبيب بورقيبة، فقد تجاوز عمر المبنى الـ100 سنة، وتكاد المسرحيات التي تعرض فيه تقتصر على مسرحيات وان-مان-شو رديئة تُعتبر شاهدًا على انتقال فرجوي يكرس استهلاك المنتج الترفيهي.
عرف هذا المبنى حراكًا ثقافيًا تونسيًا ضد الاستعمار وانطلقت منه حركة مسرحية رائدة مع فرقة مدينة تونس للمسرح، وعلى ركحه عرف تجربة المسرح الجديد، وحسب الأستاذ عبد الحليم المسعودي، حاول المثقفون الأوائل تثبيت هوية محلية بإزاء المستعمر ومنه ما قام به المسرحيون التونسيون قبل الاستقلال، من أجل تقديم مسرح باللغة العربية الفصحى التي كانت موضع هجوم من السلطة الاستعمارية، ومنذ تلك الفترة، كان هاجس الذوق الفني مطروحًا على أهله، حيث هاجموا “المسرحيات التافهة”، وأصبح الجهد المركزي في الدولة واضحًا مع نشأة دولة الاستقلال، رغم وجود تجارب جهوية محلية، بإطلاق سياسة توجيه رسمية، لكن مع تطور الحياة السياسية، طور المسرح أدواته ليصبح جزءًا من الفكر النقدي والمعارض.
على شاكلة الاستبداد السياسي في تونس تشكل المشهد الثقافي، فقد انسحب الفن المفاهيمي (العبارة لإريك هوبزباوم) لصالح فن اللحظة المشهدية، وتتأثث الأخيرة في برامج الترفيه الرخيصة بإيعاز من منتجي ومقدمي برامج يركزون على دعم وإثارة ظواهر صوتية وموسيقية دون موهبة، وهي عادة محملة بوابل من الرداءة الفكاهية السيئة الميزوجينية والمهينة للمرأة والأجانب.
تساهم الفنون في بناء الـAgora السياسي، باعتبارها رافدًا للتعبير وشكلًا من أشكاله، لكن الأغورا التونسي خيّر دعم الاستبداد والفساد المالي والاقتصادي وزوائده الثقافية، ومثلت سياسة التوجيه والتمويل الرسميين ومركزية الثقافة في إدارة السلطة مرحلة لاستتباع الثقافة، وتتحالف مع جميع أنماط التسلط والفساد في كل القطاعات.
لا يختلف افتتاح المؤسسات والمشاريع بقص الشريط الأحمر بيد الزعيم، عن وصايته على الثقافة ومؤسساتها حين يصبح مثقفًا ويفتتحها، فخرجت الثقافة، كتعبير حر مؤسس للدولة الحديثة من خارج الثقافات التقليدية المهيمنة، من المسارح التي تديرها الدولة: أصبح هناك فن الشارع ومسرح الشارع، واحتضن شارع الثورة عدة نماذج منها.
أسماء البنوك تتجاوز العشرة وفروعها أكثر منها بالإضافة إلى وكالات الصرف في شارع الحبيب بورقيبة، تحاصر جميعها المسرح البلدي الذي تقلص طابعه المعماري الإيطالي أمام بنايات حديثة بواجهات بلورية، لكن هذا التحول لا يكشف عن ذائقة جمالية لطابع موحد للشارع، فهي مجرد فورة إسمنتية تتحدى فيها المبادرة الخاصة المسؤولية العمومية في هذا الخصوص.
بمراجعة عمليات تهيئة شارع الحبيب بورقيبة من بلدية تونس، لا يطرح الجانب المعماري التاريخي نفسه كأولوية لدى البلدية، إذ يركز عرض البلدية لتوجهها العمراني على أبعاد باردة: طول وعرض الرصيف والشارع وتسهيل الحركة المرورية، بالإضافة إلى غايات عامة مرتبطة بالحركية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لا يتجاوز مثال التهيئة العمرانية نفسه لفرض تصور معماري موحد تاريخي على سبيل المثال يُذكر أن الشارع كان له طابع فرنسي وإيطالي قديمًا لكنهما اندثرا تدريجيًا بسبب عمليات التجديد، فلا نجد أن البلدية مثلًا تفرض طابعًا خاصًا على هذه العمليات.
ورغم أن مثال التهيئة العمرانية مبني أساسًا على التوفيق بين التدخلات العمومية ومساهمة الخواص بخصوص الواجهات، لكن يبدو أن للأخير اليد العليا، وفي ذلك، يمكن أن نسوق مثال مبنى بنك الـBIAT الذي يحاصرالمسرح البلدي منذ سنة 2015، ويمثل طابعه الحديث اعتداءً على الطابع التاريخي للمسرح البلدي وتشويهه للمشهد العام الفوضوي أصلًا.
لعل المعطى الوحيد للتناسق في مثال التهيئة العمرانية واحترامه لتاريخ الشارع ظهر فقط في محاولة البلدية وضع أعمدة تنوير متشابهة انطلاقًا من الأعمدة الموجودة أمام المسرح البلدي، وهو ما كان له، لو كان معطًا عامًا وشاملًا لتفاصيل الفضاء سواء العام منها تحت مسؤولية البلدية أم تحت مسؤولية الخواص (بإطار قانوني خاص)، أن يجعل الشكل المادي ذا مضمون ومعنى متفرد.
تهدف عمليات الصيانة، وفقًا لمثال التهيئة العمرانية، إلى إعادة النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لما اصطلحت عليه البلدية بـ”الوسط المركزي” لمدينة تونس، وذلك في إطار تصور عن مدينة للألفية الثالثة، لكن المفارقة أن الموقع الرسمي نفسه سيئ الإخراج تقنيًا ومن حيث الألوان، ولا يوفر المعلومة الكافية بهذا الخصوص.
يطرح هذا التصور هدفًا بعيدًا في المستقبل لكن لا أصل له في الماضي، حيث تندثر هوية الشارع تدريجيًا بسبب غياب تصور كامل ذي طابع رمزي وهوياتي متكامل، الأمر الذي جعله اليوم فاقدًا للطعم والذوق والحميمية والمعنى، هو فقط وسط مركزي جغرافيًا.
إن غياب المعنى في المشهد المادي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بغياب عمليات إنتاج معنى حر، والمثال الواضح هنا هو المسرح البلدي نفسه، ففي ظل تراجع الحركة المسرحية في تونس، لا يُتوقع أن يكون للمسرح البلدي موقع متقدم في الحركة الثقافية، وآليًا، لا يمكن توقع أن يكون لمبناه قيمة رمزية في المشهد العمراني.
يطرح الفضاء في دلالاته الاجتماعية الواسعة تحدي ترابطنا البنائي، فلا يمكن فعليًا أن نشكل الفضاء العام ما لم يكن إنتاجنا الثقافي، فيما يخصنا هنا، حرًا ومعممًا، فعندما اختفي المضمون المفاهيمي من فن المسرح اختفى المسرح البلدي من المشهد العام في شارع الحبيب بورقيبة لصالح المؤسسات المالية والاقتصادية، والأخيرة، بلا شك، عرض لسياسة الدولة الرسمية في المجال الاقتصادي.
تخترق خاصرة الشارع عدة أنهج تفيض بالبضائع الصينية والتركية الرديئة التي أصبحت حلًا اقتصاديًا لهوامش العاطلين عن العمل وصغار التجار، كما لا يخفى على مرتاديه باعة “الصرف” الذين يختفون ويظهرون فجأة.
تتحرك بلدية تونس مع ما يتوافر لها من قوة عامة بين مدة وأخرى لطرد الباعة بهدف صيانة جمالية الشارع، وهو استعراض موسمي سياسي يعود بعده الباعة إلى أماكنهم المعتادة. إن الهامش المطرود دائمًا من السلطة الرسمية هو مطرود في الأصل من الاقتصاد الرسمي الفاشل، وعناوينه البنوك الرابحة دائمًا حتى خلال الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس منذ سنة 2011.
يمثل حضور الهوامش احتجاجًا سببه فشل الاقتصاد في إدماجهم، هم ليسوا مخالفين للقانون بقدر ما هم محتجون يبحثون عن موقع لهم تحت الشمس في الفضاء العام، هؤلاء يدفعون بأنفسهم كبناة لهذا الفضاء المحتكر من كبار المؤسسات المالية والاقتصادية والشركات.
يمثل قرع الجرس كما هو الأذان من المساجد أداةً لتشكيل الفضاء حولها زمنيًا ومكانيًا، ويعني إقصاؤها أو تغييرها تشكيلًا للفضاء ومعناه حولها
الكاتدرائية: علمنة دون علمانية
تحضر الكنيسة في شارع بورقيبة كواجهة للحضور المسيحي في تونس منذ سنة 1890 على يد الكاردينال لافيجوري، وقد حملت معها آثار الفترة الاستعمارية وسيطرة فرنسا عليها واستغلالها.
مما يُستفاد من أول زيارة للرئيس الحبيب بورقيبة للفاتيكان، بتاريخ 19 من يوليو/تموز 1956، حرصه على علاقة مباشرة معه لتجاوز الوساطة الفرنسية، وأكد في تصريح له أوجزته الصحافة التونسية لاحقًا على العلاقات المباشرة أكثر من مرة.
بعد ثلاث مراحل من المفاوضات مثّل فيها الجانب التونسي كل من الطيب السحباني والمستشار القانوني للحكومة التونسية تم توقيع الـmodus vivendi بين تونس والفاتيكان بتاريخ 9 من يوليو/تموز 1964، وتعتبر هذه الاتفاقية من أول مؤشرات العلمنة في دولة الاستقلال.
تنص الاتفاقية في فصلها الثالث على امتناع الكنيسة عن أي نشاط سياسي في البلاد، وقد تم طبقًا للاتفاقية نفسها تأميم مجمل أملاكها، وانتهت الفصول التالية إلى تحديد علاقة الكنيسة بالمؤمنين وطرق التواصل معهم وطرق نشر الرسائل والوثائق الداخلية، وفرضت المادة الخامسة على الكنيسة إرسال نسخة منها إلى السلطات، فيما يخضع كل منشور آخر للقوانين الجاري بها العمل في تونس.
ينص الفصل الثاني من الاتفاقية على أن الكنيسة تجمع المسيحيين الكاثوليك “المقيمين”، وهي إحالة على الأجانب فقط، ويغيب في أفق تأسيس دولة الاستقلال أي تصور لمواطن تونسي غير مسلم، بل وتوضح المراسلات التركيز من الطرفين على هذا الجانب، باعتبار تونس دولة مسلمة.
يجدر التذكير في هذا المستوى بالفصل الخامس من دستور 1959 الذي ينص على أن: “الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام”، لكنها عمليًا، أي الجمهورية وفي إطار العلمنة، أفقدت العلمانية جوهرها، أولًا، سحبت الدولة معها استغلال الحضور المسيحي منذ الفترة الاستعمارية لتجعل من التأكيد على الطابع الإسلامي رد فعل وطني، لكن هذا المستوى أفقد أفق تشكيل المواطنة حريته التأسيسية، فقد تحول المعطى الديني الإسلامي مطابقًا للمواطنة، لا يحضر في أفق تشكل الفرد والمواطن التونسي إمكانية أن يختار كونه مسيحيًا رغم أن الدستور يقر ذلك في الفصل المذكور أعلاه، وتعتبر هذه الاتفاقية غير دستورية من حيث المبدأ.
حملت هذه السياسة المُعلمنة (بكسر الميم) مؤشرات على التعاطي مع الشأن الديني عمومًا، وفيما يهمنا هنا، أثر ذلك على الحضور المادي للكاتدرائية في شارع الحبيب بورقيبة، كانت الكنيسة تضم 5 أجراس تزن في مجملها 7 أطنان و500 كيلوغرام، ويختلف وزن كل منها حسب النوتة الموسيقية المراد إصدارها عند قرعها، وأُزيلت جميعًا بعد الاستقلال.
يمثل قرع الجرس كما هو الأذان من المساجد أداةً لتشكيل الفضاء حولها زمنيًا ومكانيًا، ويعني إقصاؤها أو تغييرها تشكيلًا للفضاء ومعناه حولها، فقد حرص مسار العلمنة في دولة الاستقلال، على حصر الحضور المسيحي في جدران الكنيسة، وهو ما يرتبط من حيث الأصل بما نصت عليه الاتفاقية بعدم إخراج الطقوس أو المظاهر الاحتفالية إلى خارجها.
على أرض الواقع، يمكن ملاحظة الحضور الأمني الدائم في محيط الكنيسة، فيمكن دخولها كسائح ومتفرج لكن لا يمكن لك دخولها كتونسي مسيحي بسهولة، وهو مؤشر على تعاطي أمني له جذوره ومؤشراته البعيدة منذ الاستقلال.
بالنتيجة، إن تشكل شارع الحبيب بورقيبة كفضاء عمومي بُني على الإقصاء الديني وتغييب لممكن البناء الحر في أفق تشكيل الفردانية، وليس تعاطي الدولة الاستبدادية مع الشأن الديني عمومًا مختلفًا عن هذا التوصيف، فلا يزال التونسيون إلى اليوم يواجهون سؤال الدين وحرية المعتقد، ليعود الدين من بوابة الأيديولوجيا الإسلاموية بدل أن يكون جزءًا من الفضاء العام أين يخضع للتداول الحر، وحتى حضوره في مجلس النواب هو حضور إشكالي وجدالي لا غير.
توجد مؤشرات أخرى لهدر الفضاء العمومي في شارع الحبيب بورقيبة لكن تم التركيز هنا على أبرزها رغم أهمية الحانات وقاعات السينما وتاريخها مثلًا، إن تغير روادها وفضاءاتها يمثل نوعًا آخر من الهدر، وفي مواجهته ظهرت أشكال احتجاجية بنائية تسعى إلى إعادة ترتيب الفضاء وتشكيله عبر استعادة ما هُدر من حقوق وحريات لصالح السلطة المستبدة.
شارع الثورة: الفعل البنائي للاحتجاج
انهار يوم 14 من يناير/كانون الثاني حاجز الخوف الذي بناه النظام البوليسي في تونس باصطفاف الثائرين أمام مبنى الداخلية، لكن عمق الدلالة الاحتجاجية سابقة عليه زمنيًا ومكانيًا لأنها نبعت من داخل البلاد.
17 من ديسمبر/كانون الأول 2010 هو بداية الثورة في سيدي بوزيد، ومنحت الأخيرة الدلالة الثورية للشارع ولكل البلاد. أطلقت جهات الداخل المسار الثوري بدءًا باحتجاج المفقرين والمهمشين وصولًا إلى ضرب النظام في رموزه الأمنية ورمز رموزه على سدة السلطة، فوضع بن علي قدمه على مدرج الطائرة للمغادرة يوم خرج الثائرون في القصرين وسيدي بوزيد، ولم يكن ذلك ممكنًا لو لم ينفتح شارع الثورة على مدى أكبر منه هو ما يربطه بالتراب الوطني ككل.
يوم 14 من يناير/ كانون الثاني هو تاريخ مغادرة الرئيس السابق لكنه عنوان ومرحلة مهمة في المسار الثوري ككل، وكما تتواصل الاحتجاجات في الداخل يحافظ شارع الثورة على طابعه الاحتجاجي رغم كل الحضور السلطوي وروافده التي أرادت لملمة شتات النظام أو تجديد النظام.
احتج الشباب يومها بملابس مختلفة وألوان أجساد وشعور مختلفة، بل رموا الألوان على الأزياء السوداء للأمنيين
كان الحضور الحزبي كثيفًا لفترة طويلة في شارع الثورة، وكل منها ادعى وصلًا بها، خاصة في المناسبات الانتخابية، فقد سعت الأحزاب بذلك إلى استثمار الثورة في تشكيل السلطوي الجديد عبر طرح نفسها كواسطة وآلية لتحقيق هذا التشكُل، لكن بتقدم المسار السياسي في تونس تراجعت في الأثناء الأحزاب إلى فضاءات أخرى، ليبقى شارع الثورة فضاءً للاحتجاج ضد كل شيء وخاصة الأحزاب الحاكمة.
انتهى الاستعراض السياسي الحزبي الذي فقد مصداقيته وبالتالي قدرته على الحشد، ومثلت مظاهرات 13 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 بعد انتخاب قيس سعيد لرئاسة الجمهورية مؤشرًا على طبيعة الحشد السياسي، كانت الحشود بالأساس غير حزبية أو رافضة للأحزاب المعهودة بالإضافة إلى هيمنة الشباب على المشهد، وهو ما يُحيلنا إلى أن الحشد الجماهيري ينظر إلى أبعد من رؤى الأحزاب ودورها.
تتعلق الحشود بنماذج مختلفة عن السائد سواء فيما يرتبط بالشخصية السياسية أم بالتنظيمات السياسية، وتعتبر الجماهير أن مطالبها نقطة انطلاق وأفق تشكُل الشخصيات والتنظيمات، وهي بذلك قد وضعت قواعد جديدة للعرض والطلب السياسي، حتى إن كانت استتباعاتها غير ملاحظة بصفة مباشرة أو ذات مردودية عالية لغياب التغيرات الجدية على مستوى السلطة.
يمكن القول إن الصدمة الحقيقية للحشود هي المفارقة التي تعيشها في ظل الانتقال الديمقراطي في تونس، فقد انتقلت الحشود من “الحلم الثوري” إلى الانخراط في الصراع على ترجمته، وهو ما جعلها في موضع رد الفعل، لكن لا بد من التأكيد أنه حتى في موضع رد الفعل ثمة فعل بصدد التشكل والخروج للعيان.
سيهيمن هذا المعطى على جل الاحتجاجات في شارع الحبيب بورقيبة، ولا تزال الشعارات فيه تجدد الوصل بالثورة ومطالبها، فلا غرابة في أن يبقى إسقاط النظام، “Dégage”، والشغل والحرية والكرامة الوطنية، شعارًا مؤطرًا لغيره من المطالب الجديدة، وهي التي تجدد الحلم الذي يبحث عن فرض نفسه في كل ما هو بصدد التشكل، إن من طبيعة الاحتجاجات الجديدة وصلها بالحراك المجتمعي القديم الجديد.
سمت مجلة Foreign Policy سنة 2019 كسنة الاحتجاج عالميًا، والمعطى المشترك بينها هو انطلاقها من مطالب محدودة ثم تحولها إلى المطالبة بتغيير الأنظمة والدساتير والحكام، إذ تتحرك الاحتجاجات بناءً على فهم صورة أكبر للأوضاع وأسبابها، وهو ما يُذكرنا بما يتحدث عنه سلافوي جيجيك عن الربيع العربي وميدان التحرير في مصر وحركة احتلوا وول ستريت، ومحاولات النظام القائم والإعلام وأد التحرر الجذري في هذه الأحداث. هي فعليًا احتجاجات متجاوزة لما يتم حصرها فيه، هي محاولات تحرر.
في الأثناء، في تونس، أصبح المعطى الشبابي المختلف حاضرًا بقوة خاصة بدخول عنصر جديد على الساحة، إن الجيل الذي عايش الثورة يلتحم بجيل تربى بعدها، ولعل المطلوب هنا أن لا يتواصل مأزق الأجيال السياسية المطروح في تونس بهيمنة عدم الفهم والاستيعاب المتعالي من السابق للاحق أو الوصاية والأحكام المسبقة.
يمكن ملاحظة المشهدية الاحتجاجية التي كانت قيد التشكل منذ حركة “مانيش مسامح” التي بدأت في وقت مبكر في رسم ملامح احتجاجية مختلفة، ولعل من أهم العناصر المحددة للمشهدية الاحتجاجية هو العنصر الرقمي. يعتبر الاحتجاج الرقمي في “الشارع الافتراضي” مدخلًا رئيسيًا لفهم هذه الظاهرة، حيث تجاوز التراتبيات والعلاقات العمودية كما أتاح فرصة الالتحاق التلقائي الفردي بالحراك الاحتجاجي، فقد ساهم التنظم الرقمي في خلق شبكية احتجاجية قادرة على التعبئة بسرعة، ورغم أنها لا تحمل صلبها عناصر ديمومتها، لكنها تؤكد أنها مفتوحة على كل السيناريوهات دون حدود.
تنوعت الاحتجاجات في شارع الثورة وانطلاقًا من المسرح البلدي بدءًا بمظاهرات الأقلية المثلية وأصحاب البشرة السوداء والحركة النسوية والمظاهرات المطالبة بالتشغيل وغيرها، إذ ينزع المحتجون إلى الالتحام بكل القيم التي تثير الخلاف، رافضين وضع جداول توقيت للاحتجاج (موش وقتو أي ليس وقته) أو قبول السقف القانوني. هي بالأساس ما فوق قانونية ومستعدة لخرق النواميس المفروضة، وليس رفض القوانين المتعاقب في احتجاجات كثيرة، إلا دليلًا على ذلك.
يعود الانفتاح الرقمي للاحتجاج إلى طبيعة “جيل الإنترنت” (المسلح بكل الأدوات الرقمية)، فهو محمل بقيم منفتحة ومتخففة من واقعها المحدود الذي تدافع عنه جميع الهياكل والأطر القائمة بأنواعها، يمكن أن نتخيل حجم الاختلاف بين الأفق الاحتجاجي الذي يدخله الشباب، الواسع جدًا وضيق ما يُطرح أمامه. يبقى الاحتجاج وفيًا للحلم الثوري التحرري ليرفض صيغ التلفيق والتوافق التي يتبناها التحول الديمقراطي. ثمة في جذر الاحتجاج رفض لانتقال أقل ثورية مما يجب، وهو ما يفرض العودة دائمًا للشارع.
لا يزال شارع الثورة وفيًا لنفسه بعرض العلاقة الصدامية بين الشباب المحتج والبوليس، فقد مثلت الأشكال الاحتجاجية في مظاهرات يوم 30 من يناير/كانون الثاني الأخيرة رفضًا صريحًا للقمع البوليسي القديم-الجديد، وكان هدفها العودة مرة أخرى أمام وزارة الداخلية إلا أن حواجز الأمنيين منعتهم من ذلك.
من المهم، في هذا المستوى، التركيز على جانب حضور هوياتي مختلف ومستند إلى قيم خاصة، حيث يعيش الأفراد في فضاءات مختلفة (العائلة/المدرسة/المهنة…) تتشكل فيها الهوية الفردية، غير أن الأخيرة، مما لاحظناه واشتبكنا معه في لقاءات خاصة، ترفض الفضاء الموجود والفضاء الموروث رغم تأثيرهما. هي فعليًا هوية عابرة للفضاءات.
احتج الشباب يومها بملابس مختلفة وألوان أجساد وشعور مختلفة، بل رموا الألوان على الأزياء السوداء للأمنيين. هؤلاء رجعوا بعدها للفضاء القيمي للاحترام والأخلاق والدين معلنين رفضهم للمثليين ولقيم الشباب الجديد، وهي عودة لفضاء موروث أصبح الشباب يضعه موضع الشك منذ وقت بعيد، ولا يمكن لذلك، فيما يخص الأمن الذي لم يصبح جمهوريًا إلى الآن، إلا أن يكون إستراتيجية تستجلب التعاطف من الفضاءات التقليدية في المجتمع وجبهاتها السياسية المتقدمة في السلطة.
على العكس من ذلك، تحرك الشباب المحتج لرفض الفضاءات الموجودة والموروثة للعودة إلى الفضاء الثوري الرمزي، في شارع الثورة، ولعل ما يأتي لاحقًا كمثال من أحد الأمثلة من اليومي والمعتاد المعيش الذي نمر بجانبه في كل وقت يؤكد ذلك.
يقول مال الزغدودي: “الاحتجاجات الشبابية تحرر الفضاء العام وتعيد تشكيل العلاقة معه وتحديد معايير القوة. الفضاء العام في تونس لولا الشباب لبقي مسيجًا وملكًا للبوليس. يمكن اعتبار الحبيب بورقيبة المخبر الصغير ومسرح الصراع بين مؤسسة أمنية تحن للقمع وشباب ثائر عاش عقدًا من الحرية من المستحيل أن يُفرط فيه”.
مالك الزغدودي
فن الشارع: صوت حر
يقول Kamel Ring أحد فناني الشارع الموهوبين ممن جلبوا انتباه المارة في كل مرة وقف فيها بقيثارته وأجهزته الخاصة: “فن الشارع بالنسبة لي أولًا أسلوب حياة لأن فنان الشارع هو من يختار أن يعزف في الشارع. وفن الشارع هو بالنسبة لي مهنتي وأعتبر نفسي محظوظًا لأن عملي هو نفسه غرامي، شارع الحبيب بورڨيبة بالنسبة لي هو أول مسرح عزفت فيه وأحب دائمًا أن أعزف هناك لأن كل مرة كأنها أول مرة”.
في إجابته عن سؤال: هل تعتبر فنك شكلًا من أشكال الإحتجاج على الوضعية في تونس ووضعيتك كفنان؟ اعتبر كمال أنه لا يرى فنه كنوع من الاحتجاج على الوضعية في تونس لأنه ببساطة تلقى ما يزيد على 750 رسالة في الفيسبوك بعنوان “بجاه ربي توا وقت غناء”، الاحتجاجات في ذهن أغلبية الناس ليست بالفن، بل بالعراك والغاز لا غير حسب كمال.
يُذكر أن كمال تعرض لاعتداء من شرطيين في شارع الحبيب بورقيبة، حيث تم تكسير أدواته وأجهزته الموسيقية، ورغم أنه أظهر ترخيص مزاولة نشاطه تمسك أعوان الأمن بطرده، وعندما اجتمع الناس حوله، وصف كمال المشهد بالمسرحية المثيرة للسخرية والبكاء، لذلك يقول: “لماذا أغني لمن يعتبرون أن الوقت ليس للغناء، وهم من لا يساعدونه بأي شكل من الأشكال”.
“احمل أجهزتك وعد إلى بيتك أو سنكسرها لأن الموسيقى ممنوعة” بصوت بوليسي قمعي رددت الشرطية هذه الكلمات على مسامع كمال، إن منع موسيقى الكنائس يلتحق بمنع الموسيقى الشبابية في الشارع، كما هو حال إفراغ المسرح البلدي من الفن المفاهيمي.
رغم ما سبق، يواصل كمال الغناء في جميع شوارع تونس الكبرى ويعود دائمًا إلى شارع الثورة. يعيش هذا الشاب من فنه، وهو متمسك به رغم كل الصعوبات، فيرفض هذا الفنان الالتحاق بدلالة الاحتجاج السائدة والخاضعة في أذهان من راسلوه، لكنه يحتج بطريقته من أجل ما يعيشه ويريده، يصنع شاب مماثل توجهه الفردي الذي يفرض نفسه في فضاء مادي ومعنوي معادٍ، يتعاضد فيه الأمن مع الأذهان والمفاهيم الضيقة لدى فئة من المجتمع.
يتحرك فنان الشارع بفضائه الخاص (قيمي/معنوي) ويُلقي به في الفضاء العام بجميع تفاصيله، وفي تجربة شارع الثورة هو يلتحق بالحالة التثويرية أو التغييرية التي يعيشها الشباب المحتج منذ 2011 وقبلها.
متزلجون على أعتاب البنوك
يحضر، تقريبًا بشكل دوري، عدد من المراهقين والشباب تتراوح أعمارهم بين 12 سنة و16 سنة بألواح تزلج خاصة، يمارس هؤلاء هوايتهم محاولين تطوير مهاراتهم على أعتاب بنك الـBIAT في غفلة من الجميع، فتلاحقهم النظرات كما يوجه البعض لهم العبارات المستهجنة التي لا تلقى ردًا منهم.
تمتاز أزياء الفتيات بتنسيق خاص يعرض جسدًا فتيًا يفتخر بعرض أجزاء منه (البطن، اليدين، الصدر)، ويحرص الفتيان على ارتداء لباس واسع بألوان متعددة. يفرض الطابع المختلف لهذه الفئة نفسه على الأعين دون مبالاة حقيقية بالغير.
قدم بعضهم من الأحياء والضواحي، من المروج وحي ابن سينا على سبيل المثال، ويلتحق بهم آخرون من الأحياء القريبة، لا تختلف هذه الفئة عن الكثيرين من رواد الشارع بأزياء وملابس تذكرنا باجتماعات الشباب المسائية في الساحات والحدائق العامة المجاورة كجان دارك القريبة.
متزلجة في شارع الثورة
لا يمكن الجزم في هذا المقام بامتداد هذه الفئة لغياب المصادر الإحصائية والسوسيولوجية الدقيقة، لكن الملاحظ هو توسع تطور محاولات التفرّد، لا على أساس الفترة العمرية فقط لكن لبداية رسوخ مرجعيات ثقافية مختلفة تتجاوز الحدود القيمية والمادية.
تتعدد الأشكال الاحتجاجية في شارع الثورة، وهي لا تقتصر على المظاهرات كبيرة العدد بل تبدأ من الحضور الفردي لفئات عديدة ومختلفة، وثمة لغة خاصة مضادة للغة الفضاء كما تشكل تاريخيًا ويتواصل اليوم ليحافظ على نهجهه القمعي.
تُعتبر اللغة الخاصة بالشباب المحتج لغة فوضوية لرفضها بصورة صريحة لأشكال السلطة المختلفة، وهي لغة تتحدى اللغة الرسمية التي تحتل الجدران والأفكار والعلاقات، فيعيد الشباب عبر الاحتجاج بناء الشارع معنويًا وماديًا بضخ رموزه الخاصة.
ومن شارع الثورة يذهب بعيدًا نحو المطالبة بتغيير المنظومة القائمة وتجلياتها في حياته اليومية، كما يرفض التواطؤ والتطبيع مع القمع على اختلاف مصدره وطبيعته، ما يجعله مستعدًا للعودة إلى الشارع الذي يحافظ على اسمه وسماته القديمة، محاولًا تفجيره رمزيًا وإحلال رموز الحرية والتحرر والمساواة والعدل والإنصاف فيه، وهو مسعى متواصل لا بد من الدعوة له والالتحام به فرديًا وجماعيًا.
إن التعدد والاختلاف في داخل الحراك الاحتجاجي نفسه دليل آخر على الأفق الذي يبنيه الشباب ويتحركون نحوه بدءًا من التجارب الفردية الخاصة، يقول مالك الزغدودي في هذا الصدد: “الاحتجاجات الأخيرة أشبه بسفينة نوح الجبلية بين شباب مراهق وشباب في أواخر الثلاثينيات على أبواب الكهولة، شباب أولتراس، شباب أحياء شعبية، ناشطين يساريين طلابيين، مجتمع مدني، ناشطين كوريين تقاطعيين”.
بنت السلطة فضاءها الخاص وجعلت الشارع الرئيسي مرآةً له، لكن الاحتجاج يرفض الصورة المنعكسة فيها، لأنها مغلوطة، فالشباب المحتج ذوات متفردة تفتك حقوقها وحرياتها من التاريخ المادي والمعنوي للسلطة، وتحرك الحدود المفروضة، وفي التفرد ومنه يبدأ ممكن المواطنة القادرة على الاستجابة لمطالب 2011 التي رفعتها الأصوات في شارع الثورة.