شهد السودان موجة جديدة من الاحتجاجات خلال الأيام القليلة الماضية، تخللتها أعمال سلب ونهب لبعض المحال التجارية، الأمر الذي دفع بولايات جنوب وغرب وشمال وشرق دارفور (غربي السودان) وولايتي شمال وغرب كردفان وولاية سنار، لإعلان حالة الطوارئ.
الداخلية السودانية تشير إلى أن الأمور باتت تحت السيطرة، وتم تشكيل لجنة لزيارة تلك الولايات ومتابعة الأمر، فيما لا تزال أصداء تلك الاحتجاجات تخيم على المشهد لا سيما أنها الأولى من نوعها بهذا التصعيد العنيف منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 2019.
الاحتجاجات تأتي تزامنًا مع إعلان التشكيل الوزاري الجديد، بعد سيطرة اليأس على السواد الأعظم من السودانيين الذين أعلنوا سخطهم على الأوضاع الاقتصادية الراهنة، محملين حكومة عبد الله حمدوك مسؤولية ما وصل إليه الحال من تدنٍ، في ظل الفشل في التعاطي مع الملفات الحياتية الحساسة.
حالة من تباين الرأي بشأن تفسير ما جرى، ففريق يصفها بأنها ثورة جياع قادمة، فيما ذهب آخرون إلى أنها محاولة تخريبية من فلول حزب المؤتمر الوطني المنحل، ومحاولة لاستغلال الأوضاع الاقتصادية المتراجعة للانتقام من السلطة الانتقالية عبر تأليب الشارع ضدها.
احتجاجات غاضبة في منطقة الرهد في ولاية شمال #كردفان تنديدا بتردي الأوضاع المعيشية.. واشتعال النيران في فرع أحد البنوك#السودان pic.twitter.com/wKRNrNTa0S
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 9, 2021
الاقتصاد.. المحرك الأساسي
كان الاقتصاد هو العامل الأكثر حضورًا حين اندلعت ثورة الـ19 من ديسمبر/كانون الأول 2018، حيث وصلت الأوضاع الاقتصادية إلى صورة غير مسبوقة، وهو ما انعكس على الحالة المعيشية للمواطنين، الذين نزلوا بدورهم إلى الشارع مطالبين – عبر شعارات ثورية – بتحسن الأوضاع التي يرون أنها بفعل الفساد والديكتاتورية في ظل ما تتمتع به البلاد من موارد وإمكانات كبيرة.
ومع قدوم السلطة الانتقالية، بشقيها العسكري والمدني، زاد منسوب التفاؤل لدى قطاع كبير من الغاضبين، لا سيما بعدما تعهد رئيس الحكومة، حمدوك، بوضع الاقتصاد على قائمة أولويات عمل الحكومة منذ الأيام الأولى، وها هي الأوضاع تزيد من سيئ إلى أسوأ رغم مرور ما يقرب من عام ونصف على أداء الحكومة اليمين الدستورية.
الفشل في التعاطي مع الملف الاقتصادي، بجانب التخبط الواضح في إدارة المشهد، وتأرجح أداء بعض الوزارات ذات الصلة الوثيقة باهتمامات الناس المعيشية، كالتجارة والتموين والطاقة، كل هذا زاد من احتقان الشارع ضد السلطة الانتقالية، الأمر الذي تم توثيقه في صورة احتجاجات بين الحين والآخر تحت شعارات “تصحيح المسار”.
ورغم التنازل السياسي الكبير الذي قدمه السودان من خلال إبرام اتفاق “أبراهام” التطبيعي مع “إسرائيل”، ضاربًا بـ”لاءاته الثلاث” عرض الحائط، بدعوى الحصول على حزمة من المكاسب والمغريات السياسية والاقتصادية تنقذ البلاد من مأزقها الحاليّ، فإن الوضع لم يتغير، ولم يحصل السودان على دولار واحد من الخارج حتى كتابة هذه السطور.
الانزلاق في وحل التطبيع دون مقابل، عزز الغضب الشعبي ضد السلطة الانتقالية التي يحملها السودانيون الفشل في تحقيق أي إنجاز يذكر على المسارين الاقتصادي والسياسي، هذا بخلاف تخليها عن المرتكزات القومية للبلاد التي كانت شوكة في حلق الاحتلال على مدار عقود طويلة.
كان الله في عون الأسر السودانية التي تعاني من الهبوط الكارثي للعملة الوطنية.. الوضع غير محتمل بالمرة
لا توجد أي مبررات لهذا التدهور وما يحيرني الصمت التام الذي تلوذ به الحكومة من رئيس مجلس السيادة ونائبه الذي يقود لجنة الطوارئ الاقتصادية إلى رئيس الوزراء وأعضاء المجلسين#السودان
— Mohamed Mustafa (@Moh_Gamea) February 7, 2021
نظرية المؤامرة
في المقابل، تتهم الحكومة السودانية فلول النظام السابق بتأجيج الوضع، في محاولة لتحقيق بعض المكاسب من وراء تلك الاحتجاجات المناهضة للسلطة الانتقالية، حيث اتهم والي ولاية شرق دارفور محمد عيسىى، أنصار المؤتمر الوطني بتزعم تلك الفعاليات التي صاحبها تخريب وسرقة وحرق لبعض المقار الحكومية.
الرأي ذاته ذهب إليه الكاتب الصحفي السوداني طاهر المعتصم، الذي اتهم قيادات في النظام السابق بالضلوع وراء تلك الاحتجاجات، لافتًا أن فرض حالة الطوارئ جاء “لإيقاف مخططات الاستفادة من الاحتجاجات”، محملًا خلال مداخلة له على “الجزيرة” التأخر في إنشاء جهاز الأمن الداخلي التابع للحكومة الجديدة مسؤولية توغل فلول الإنقاذ داخل العناصر الغاضبة لإثارة الفوضى.
وردًا على ما حدث، أصدرت “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” تعليمات مشددة بفروع اللجنة بالولايات (ولاة الولايات)، باتخاذ كل الإجراءات القانونية عبر النيابة العامة في مواجهة رموز المؤتمر الوطني المحلول وكوادره النشطة وقيادات واجهاته في المركز والولايات.
اللجنة في بيان لها قالت: “امتلكت اللجنة معلومات كافية عن نشاط أعضاء الحزب المحلول وتنظيمهم لأعمال حرق ونهب وإرهاب للمواطنين العزل، يجافي نسق الاحتجاج الذي درجت قوى الثورة الحية بتنظيمه، فالسلمية كانت السلاح الأمضى الذي هزم العنف ورسخ أدبًا نبني عليه لإكمال التحول الديمقراطي”، مضيفًا “في لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو نقوم بواجبنا في تفكيك بنية النظام المحلول سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، سندنا في ذلك إيمان شعبنا بما نقوم به وما تواثقنا على شهدائنا عليه”.
من جانبه قال المرصد السوداني للحريات وحقوق الإنسان إن سلطات ولاية القضارف (شرق البلاد) اعتقلت أكثر من 6 ناشطين، بينهم إمام مسجد وعميد كلية الطب بجامعة القضارف، على خلفية الاحتجاجات الأخيرة، فيما وصفت تلك الممارسات بالسلوك غير القانوني المخالف للوثيقة الدستورية والعهود والمواثيق الدولية”.
قالت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في #بريطانيا إن توسع السلطات #السودانية في حملات الاعتقال التعسفية التي تشنها ضد معارضيها من أصحاب التوجهات المختلفة هو أمر يثير مخاوف عدة حول أوضاع حقوق الإنسان المتدهورة بالفعل
البيان كاملًا: https://t.co/DOX8lSAwYq pic.twitter.com/6qtmez880A
— المنظمة العربية لحقوق الإنسان (@AohrUk_ar) February 13, 2021
السقوط في فخ الإنقاذ
لم تأت السلطة الحاليّة للحكم إلا عبر احتجاجات شعبية جارفة أطاحت بنظام الإنقاذ، حينها كانت تواجه التظاهرات السلمية بقائمة مطولة من التهم التقليدية “الفوضى – التأمر – التخريب – تنفيذ أجندات خارجية” وهي الاتهامات التي أسرعت بسقوط البشير.
هناك مخاوف من السقوط في هذا الفخ مرة أخرى، فعدم تفهم مطالب المحتجين والتقوقع داخل جدران الاتهام بالفوضى وإحداث البلبلة دون الاستماع لأصوات الغاضبين، ربما يعيد سيناريو 2018 مرة أخرى، إن لم يتدارك حمدوك ورفاقه الموقف سريعًا قبل الخروج عن السيطرة.
الكاتب السوداني خالد التيجاني، الباحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية، يرى أن تحميل مسؤولية الاحتجاجات الأخيرة لقيادات النظام السابق، اتهامات غير واقعية، لافتًا إلى أن تلك التهم ذاتها كان نظام المعزول يطلقها على المحتجين قبل عامين ونصف.
التيجاني – في حديثه لحلقة (2021/2/12) من برنامج “ما وراء الخبر” الذي يبث على الجزيرة – طالب السلطات بدراسة الأسباب الرئيسية وراء تجدد الحراك بصورته العنيفة تلك، مضيفًا “هناك مشكلة اقتصادية حقيقية يجب معالجتها، وهو الأمر الذي أقر به رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، الذي حذر من انهيار السودان، وهو ما يشي بوجود أسباب حقيقية للاحتجاجات في الشارع”.
الباحث في قضايا التنمية يحذر من الإفراط في الاعتماد على الحلول الأمنية لمواجهة الاحتجاجات، كونها تتعارض مع التحول السياسي الذي شهدته البلاد منذ أبريل/نيسان 2019، منوهًا إلى تراجع مكانة الملف الاقتصادي في التعديل الحكومي الجديد وهو ما أصاب الشارع بالإحباط، الأمر الذي دفعهم للخروج للاحتجاج.
ومع تشكيل الحكومة الجديدة التي شهدت انتقالًا ملحوظًا من حكومة تكنوقراط، إلى حكومة حزبية أوسع شملت معظم الأطراف السياسية، تتأرجح طموحات الشارع صعودًا وهبوطًا بشأن قدرتها على تقديم أداء جيد – مقارنة بالحكومة السابقة – يسهم في حلحلة مشكلاتهم المعيشية الملحة، في ظل أوضاع اقتصادية متفاقمة.
وفي الأخير فإن غض السلطة الانتقالية الطرف عن مطالب المحتجين واستسهال أدوات المواجهة بالتشكيك في النوايا والأهداف وما تلاها من توسيع دائرة الاعتقالات، سيقودها حتمًا إلى نفق أكثر إظلامًا من المواجهات المباشرة مع الشارع، وهي القشة التي قصمت ظهير الرئيس المخلوع ونظامه.. فهل يعي حمدوك الدرس أم سيقع في الفخ ذاته؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.