يوم وضع يده على القرآن الكريم لتأدية اليمين الدستورية، أقسم الرئيس التونسي قيس سعيد على الحفاظ على وحدة تونس واحترام الدستور والسهر على حماية مصالحها. مرت قرابة سنة ونصف على ذلك القسم لكن يبدو أن الرئيس حاد قليلًا عن قوله، فها هو يحاول فرض رؤيته الأحادية بطرق شتى وفي أماكن عدة اختار التونسيون في السابق أن تبقى مستقلة بعيدة عن التجاذبات الحزبية.
يتجول قيس سعيد من الثكنات العسكرية إلى المساجد، لتوجيه اتهاماته للطبقة السياسية والتشكيك في نظام الحكم والدستور الذي بفضله وصل سدة الحكم، ما جعل العديد من التونسيين يدقون ناقوس الخطر خشية على ديمقراطية بلادهم المهددة.
السياسة داخل الثكنات
لن نركز على صولات الرئيس وجولاته فهي كثيرة، بل سنأخذ الثكنات والمساجد كأمثلة، والبداية من الثكنات، فمنذ سقوط نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، لم يتجرأ أي رئيس تونسي ورئيس حكومة على إلقاء خطاب سياسي في ثكنة، لكن الآن تغير الأمر.
عند كل لقاء بالجيش، يحاول قيس سعيد مدح المؤسسة العسكرية مقابل الإمعان في ترذيل الأحزاب السياسية والتشكيك في نزاهتها وجدوى وجودها في ظل تواصل الأزمات التي تعرفها تونس منذ سنوات عدة.
يفهم بعض التونسيين، كلام الرئيس في الثكنات، محاولة منه للاستقواء بالجيش
خلال افتتاحه مستشفى عسكريًا ميدانيًا بمحافظة قبلي بالجنوب التونسي، في الـ11 من مايو/أيار 2020، تحدث سعيد عن البؤس السياسي، وعن إمكانية سحب الشعب الوكالة من نواب البرلمان، وهو ما أثار حفيظة العديد من التونسيين بشأن نوايا الرئيس.
بعدها بأيام قليلة، وجه قيس سعيد – خلال زيارته للثكنة العسكرية بفندق الجديد من محافظة نابل الساحلية – سهام نقده لخصومه من الأحزاب السياسية، متهمًا إياهم بالكذب والرياء، دون أن يقدم أي مبادرة لتحسين عمل الجيش المنهك في التصدي للإرهاب.
في شهر يوليو/تموز الماضي، عاد الجدل مجددًا فخلال زيارة ليلية لثكنة فيلق القوات الخاصة بمنطقة منزل جميل من محافظة بنزرت، صرح قيس سعيد أن الجيش قادر على التصدي للمؤامرات الخارجية والداخلية والمتربصين بالشرعية، دون أن يفصح عن أسماء هؤلاء المتربصين.
هذه الخرجات ليست استثناءً، فالرئيس التونسي يستغل كل لقاء مع القيادات العسكرية للحديث عن المناكفات السياسية ودور الجيش في الحفاظ على الشرعية، الأمر الذي عدته جهات حزبية استقواءً بالمؤسسة العسكرية ومحاولةً للزج بها في معارك السياسة.
ليس هذا فقط، فقد عبر في العديد من المرات عن وجود رغبة لديه في تحويل وجهة الجيش التونسي من الثكنات وحماية الحدود إلى التدخل في الشأن العام والقطاعات المدنية، وظهر هذا خلال إشرافه على اجتماع المجلس الأعلى للجيوش – في أكتوبر/تشرين الأول الماضي- عندما كشف طلب بعض الوزراء منه السماح بتدخل الجيش للمساعدة في تسيير قطاعات مدنية كالصحة والتعليم، واصفًا تدخلات المؤسسة العسكرية بأنها الأسرع والأنجع.
يفهم بعض التونسيين، كلام الرئيس في الثكنات، محاولة منه للاستقواء بالجيش رغم أنه يعلم يقينًا أن الجيش التونسي، الذي لم يعمل سابقًا في السياسة وبقي محايدًا عكس باقي الجيوش في المنطقة العربية كمصر وسوريا، لن يُغامر بالتدخل في الشأن السياسي وسيظل وفيًا لعقيدته العسكرية التي تُحجر عليه التدخل في العمل السياسي وتفرض عليه واجب الحياد.
ويعد الجيش التونسي ذو العقيدة الجمهورية الاستثناء العربي الوحيد، بانحيازه لإرادة الشعب والتزامه الثكنات وتعففه عن السلطة عكس بعض الجيوش العربية التي اختارت الانقلاب على إرادة شعوبها عوض حمايتها والذود عنها.
تسييس المساجد
لم يقتصر الرئيس قيس سعيد على الثكنات العسكرية فقط، بل حد المساجد أيضًا، ففي مشهد لم يألفه التونسيون من قبل، تحول رئيس البلاد إلى أحد المساجد بحي التضامن بمحافظة أريانة (تونس الكبرى) لأداء صلاة الجماعة.
كان المشهد سيكون جيدًا واستثنائيًا لو اكتفى قيس سعيد بالصلاة فقط، كان سيحييه التونسيون ويصفقون له، لكن اختار عكس ذلك، فقد انتظر انتهاء الإمام من الصلاة حتى انتفض وأخذ المايكروفون من الإمام وبدأ خطبته.
تحدث الرئيس عن السياسة وكالعادة توعد بمحاسبة المنافقين من السياسيين والخونة، دون أن يحدد هويتهم، فهو يهوى الحديث في العموميات والغموض منذ توليه منصب الرئاسة في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
يؤكد الغموض المخيم على محيط الرئيس قيس سعيد وبعض الارتباك الذي ساد أداء مؤسسة الرئاسة وجود تجاذبات كبيرة تحدث في قصر قرطاج
إلقاء سعيد خطبة سياسية في مسجد أعاد إلى الأذهان مسألة تحييد المساجد في تونس، حيث ينص الفصل السادس من الدستور أن “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد و الضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي”، لكن الرئيس لم يحترم ذلك.
تعقيبًا على ما حصل في المسجد كتب الباحث التونسي سامي براهم، “منذ سنوات ونحن ندرب الأئمة ونؤطرهم من خلال دورات حوار ونقاش حول محور المواطنة والتعايش واجتناب خطاب التكفير والتفسيق ونشر الكراهية والتباغض بين المواطنين من أجل تجديد الخطاب المنبري والمسجدي عمومًا، لتكون المساجد فضاءً لنشر قيم الإسلام على منهج أمة الوسط وثقافة التسامح والتضامن وتوحيد القلوب مع إمكان تناول قضايا الشأن العام بضوابط وحدود لا تؤدي إلى تقسيم المجتمع وإثارة الفتن”.
يضيف براهم في تدوينته “مئات الدورات والمحاضرات وعشرات المدربين والمؤطرين الجامعيين على امتداد البلد حركت السواكن وساهمت في تثوير الخطاب المنبري والدفع نحو تحييده عن كل التجاذبات المذهبية والسياسية”.
ختم بالقول “اليوم نجد أنفسنا في حرج أمام هؤلاء الأئمة مع ما صدر من رأس الدولة القدوة والمستأمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في أحد المساجد من خطاب تقسيم وتحريض ووعيد، عقبه عنف استهدف أحد المصلين في حرم الجامع بل في محرابه من طرف الأمن المرافق له مهما كان سوء ما أتاه بحقه.. مخجل ما وقع ومنبئ بالمخاطر إذا لم تقرأ عواقبه”.
حوصل سامي براهم، ما يختلج داخل العديد من التونسيين وعبر صراحة عن خشيتهم من أن نراجع سنوات إلى الوراء وأن نرجع للحديث عن تحييد المساجد بعد التقدم الكبير الذي حصل في هذا الشأن، وكثيرًا ما شكت أحزاب محسوبة على التيار اليساري والليبرالي من توظيف ممنهج للفضاءات الدينية من الأحزاب الإسلامية في أثناء حملاتها الانتخابية واتهمتها بحشد أصوات المساجد، ما جعل المشرعين يسنون فصلًا في الدستور يؤكد حيادية دور العبادة.
لا يؤمن بالعملية الديمقراطية؟
حديث سعيد المتكرر عن المؤامرات الداخلية والتقزيم من الأحزاب والاستنجاد بالثكنات والمساجد، يحمل في طياته، وفق الإعلامية التونسية جهاد الكلبوسي ازدراءً للديمقراطية التي ضحى مئات التونسيين بحياتهم في سبيل تحققها.
وترى الكلبوسي في حديث لنون بوست، أن تأكيد قيس سعيد في كل مناسبة على أنه رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية يشير إلى عدم تجاوزه بعد دستور 1959، الذي رماه التونسيون سنة 2011، وانتفضوا عليه.
ويسعى سعيد، وفق محدثتنا إلى “تأكيد أن له صلاحيات واسعة لأنه غير مقتنع بالصلاحيات التي منحها له دستور الثورة”، وتقتصر صلاحية الرئيس وفق الدستور التونسي على تعيين مفتي الجمهورية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب.
تضيف “الرئيس الذي لا يحترم صلاحياته ولا يؤمن بالدولة الوطنية، ويعمل لتفكيك مؤسساتها وضرب الديمقراطية، فهو يسعى لإيصال رسالة للجميع مفادها أنه يحكم البلاد بالعسكر والأمن كما كان عليه الوضع زمن بن علي وبورقيبة، ولا أحد له أن يعترض ذلك”.
وأكدت الكلبوسي أن الرئيس التونسي “لا يؤمن بالعملية الديمقراطية، وها هو يستعمل آخر سلاح عند الثورة المضادة، وهو إقحام العسكر في السياسة، وتسييس المساجد في مشهد لم تأنسه تونس منذ سنوات عدة، ففكره من البداية كان ربح الانتخابات والموافقة على الصلاحيات التي يمنحها له الدستور ومن ثم العمل على توسيعها”.
يذكر أن قيس سعيد أقام خطابه منذ البداية على نقيض المنظومة الحزبية، حيث وضح وبين في أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي، وأنه يسعى للقضاء عليها، حيث قال في تصريح صحفي إبان حملته الانتخابية الانتخابي: “فليرحلوا جميعًا”.
لم يعاد سعيد الأحزاب فقط بل كل الطبقة السياسية ومنظومة الحكم ككل، حيث سبق أن قال في وقت سابق إنه لا يملك برنامجًا، كما قال إنه معارض لكامل المنظومة القائمة بأحزابها ونظامها السياسي ونظامها الانتخابي.
وتقوم رؤية الرئيس المنافية للديمقراطية التونسية الناشئة وفق عدد من المتابعين على أربع مراحل: أولها ترذيل الأحزاب والجمعيات وأغلب الفاعلين السياسيين وإثبات فشلهم بل وخطرهم على الدولة، ومن ثم تغيير النظام السياسي، أو حل البرلمان وتعليق العمل بالدستور والذهاب للعمل بالمناشير، وصولًا إلى إنهاء منظومة الأحزاب (بالقانون)، والسيطرة على الحياة السياسية.
الخطر في حاشية الرئيس
رغم الأخطاء الاتصالية والهنات التقديرية، لا يرى المحلل السياسي التونسي سعيد عطية أن الرئيس مهدد للديمقراطية فهو دائم الحديث عن التشبث بالقانون والدستور، وفق حديث عطية لنون بوست، ويؤكد محدثنا أن “سعيد كان واضحًا منذ الحملة الانتخابية، فهو يمارس السياسة بشكل مختلف عن البقية وكل ما أتاه منذ توليه الرئاسة لليوم يندرج في هذا الإطار والسياق”.
لكن الخطر وفق سعيد عطية، يكمن في محيط الرئيس، فهناك خشية من أن يتسرب إلى محيط سعيد بعض الراغبين في استعمال الرئيس لتحقيق مآرب معينة وخاصة مواجهة الخصوم السياسيين وتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه عبر الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي”.
يضيف “شعار الرئيس يبقى دائمًا هو الالتحام بالشعب والتواصل معه في الشوارع والأسواق والمساجد لإحراج بقية الطيف السياسي العاجز تمامًا عن التواصل مع المواطنين، فإن قرأنا حسن النية فإن الأمر لا يهدد مدنية الدولة وفق سعيد عطية.
يؤكد الغموض المخيم حول محيط الرئيس قيس سعيد وبعض الارتباك الذي ساد أداء مؤسسة الرئاسة وجود تجاذبات كبيرة تحدث في قصر قرطاج، فلا نعرف إلى الآن من يحرك حجر الشطرنج في كواليس الرئاسة، في ظل وجود فريق غامض وضعيف يعمل مع قيس سعيد.