قبل عشر سنوات من الآن، وبالتحديد صبيحة 14 من فبراير/شباط 2011، عند دوار اللؤلؤة وسط العاصمة البحرينية، المنامة، تجمعت بعض المسيرات الاحتجاجية الرافضة لممارسات التنكيل والانتهاكات التي يتعرض لها البحرينيون على أيدي السلطات الحاكمة، بجانب التعديلات الدستورية الجائرة في 2002، هذا بخلاف الفساد الذي نخر في عظم المملكة فأصابها بالشلل التام، حتى باتت مرهونة بالمنح المقدمة لها من جيرانها.
قوبلت تلك الاحتجاجات التي تباينت تصنيفاتها بين انتفاضة وثورة بموجة كاسحة من الاعتقالات والقمع، فيما تدخلت السعودية بقواتها لوأد هذا الحراك الذي كان امتدادًا لقطار الربيع العربي، وهو ما دفع الرياض إلى إجهاضه مبكرًا خشية نقل العدوى الثورية للشارع السعودي.
عشر سنوات مضت على هذا الحراك الذي هز أرجاء الحكم في المملكة رغم قلة أعداد الغاضبين وقتها، لكن الرسالة كانت واضحة والتهديد بلغ أشده، وهو ما دفع بالنظام هناك إلى بذل الغالي والنفيس لسحق المعارضة عن بكرة أبيها وتشديد القبضة الأمنية حتى لا يتكرر هذا المشهد مرة أخرى، بعدما أثبت الشباب البحريني أنه قادر على التغيير في أي وقت رغم الصعاب والعراقيل.
راهنت السلطات البحرينية على عنصري الزمن والقبضة الأمنية المشددة في محو آثار ما حدث قبل عقد من الزمن، غير أنه ومع كل ذكرى سنوية لهذه الثورة تتجدد الروح مرة أخرى، كأن آلة الزمن توقفت عند تلك اللحظات التي حلم فيها البحرينيون ببلد يليق وطموحاتهم السياسية والحقوقية والاقتصادية، لا بلد يعيش على أكتاف جيرانه فتُرتهن إرادته السياسية.
ورغم الطعن المستمر لجسد المعارضة الثورية الذي على إثره دخلت خلال السنوات الماضية غرف الإنعاش أكثر من مرة، فيما عانت من موت إكلينيكي لفترة طويلة، فإنها لم تمت بعد، وهو ما تفسره النشاطات الثورية – حتى إن كانت متباعدة وعلى فترات طويلة -، لكن يبقى السؤال: أي المسارات تواجه المعارضة البحرينية بعد 10 سنوات من ثورة 14 من فبراير/شباط 2011؟
ثبات حتى النصر
تحت شعار “ثبات حتى النصر” أعلنت قوى المعارضة في البحرين بدء فعاليات الذكرى السنوية العاشرة لانطلاق الثورة، داعية للاستعداد والتأهب لإحياء هذه الذكرى التاريخية على جميع الأصعدة الميدانية، في محاولة للإبقاء على جذوة الحراك حيًا رغم القيود والتضييقات.
ويحرص ائتلاف المعارضة (المكون من عدد من القوى أبرزها: جمعية الوفاق الإسلامية وتيار الوفاء الإسلامي وائتلاف شباب ثورة 14 فبراير وحركة حق وحركة أحرار البحرين وجمعية أمل وتيار العمل الإسلامي وحركة خلاص)، على إحياء الذكرى السنوية للثورة منذ العام الأول لها، بعدما فشلت محاولات إسكات الثورة وإجبار الثوار على وقف أي فعاليات من هذا النوع.
ومن ضمن الفعاليات التي استحدثتها المعارضة لإحياء الذكرى العاشرة للثورة، نظمت منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” في البحرين (ADHRB) بالتعاون مع منظمة “WordBeyondWar” ندوة إلكترونية من العاصمة الأمريكية، واشنطن، بمشاركة عدد من النشطاء الحقوقيين بالمملكة.
المدير التنفيذي لمنظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” حسين عبد الله، استهل كلمته الافتتاحية في الندوة قائلًا: “على الرغم من أن البحرين دولة صغيرة، كانت ردة فعل السلطات شديدة جدًا، حيث اعتقل المتظاهرون وتعرضوا للتعذيب والإخفاء القسري والنفي خارج البحرين. ومع ازدياد عدد المتظاهرين، أوفقت السلطات العنف الممارس ضدهم”.
كما حمّل السعودية مسؤولية ارتفاع منسوب التنكيل بحق السياسيين والحقوقيين بعد تدخلها العسكري لنصرة النظام البحريني ووأد الحراك، متسائلًا: أين نحن اليوم؟ نحن في بلد تحكمه الشرطة، نحن في بلد قد تسجن فيه بسبب تغريدة ما تنتقد فيها الدولة وقراراتها وقد رأينا سابقًا مدنيين ونشطاء يسجنون بسبب تغريداتهم.
قلق سلطوي
رغم عشر سنوات كاملة مضت على موجة الاحتجاجات الأولى في 14 من فبراير/شباط، فإن شبح هذا الحراك لا يزال يخيم على أجواء السلطة الحاكمة في البحرين، التي استبقت الذكرى العاشرة بحملة اعتقالات موسعة في رسالة تهدف إلى ترهيب كل من يفكر في المشاركة بفعاليات الإحياء استجابة لبيانات قوى المعارضة.
معهد البحرين للحقوق والديموقراطية (بيرد) قال في بيان له إنه تلقى تقارير تفيد أن ما لا يقل عن 18 بالغًا و11 طفلًا جرى توقيفهم خلال عمليات أمنية، قبيل إحياء الذكرى العاشرة للثورة البحرينية، لافتًا إلى أن “أحد المعتقلين لا يتجاوز الـ11 عامًا، جرى توقيفه لسبعة أيام في إجراءات قمعية تهدف إلى ردع المتظاهرين عن إحياء الذكرى”.
الاحتجاجات التي اندلعت قبل عشر سنوات كانت بسبب حالة من السخط المتصاعد على نظام الدولة الاستبدادي، والنزعة الطائفية التي اعترت التوظيف الحكومي، وغير ذلك من المزايا، والتقاعس عن مساءلة مرتكبي أعمال التعذيب والضالعين في الاعتقالات التعسفية”
هذا بخلاف مواجهة طفلين لم يتجاوز عمرهما الـ13 عامًا عقوبة السجن لمدة تصل إلى عشرين عامًا، بتهم المشاركة في الاحتجاجات، فيما نقل المعهد عن أهالي الطفلين أنهما “تعرّضا لساعات من الاستجواب دون حضور محامٍ أو والديهما” ما أثار مخاوف إجبارهما على الاعتراف تحت وطأة التعذيب وبالإكراه.
الباحثة في قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش” آية مجذوب، أكدت هي الأخرى حالة السعار السلطوي قبيل الذكرى العاشرة، قائلة: “السلطات تخنق المعارضة قبل أن يتظاهر الناس، لتوجيه رسالة واضحة بعدم التساهل”.
ميدانيًا.. كثفت السلطات الأمنية من وجودها وانتشارها في الطرق الرئيسية والميادين العامة، تحسبًا لأي فعاليات احتجاجية متوقعة، هذا فيما تواصل وزارة الداخلية رسائل التهديد المتواصلة من المشاركة في مثل تلك التظاهرات أو الاستجابة لدعوات المعارضة في الداخل والخارج.
عشر سنوات من القمع
تحت عنوان “تبدّد أحلام الإصلاح بعد عشرة أعوام من الانتفاضة” أصدرت منظمة العفو الدولية الخميس 11 من فبراير/شباط بيانًا بمناسبة ذكرى الثورة العاشرية قالت فيه “إن اشتداد وطأة الظلم الممنهج في البحرين، بعد مرور عشرة أعوام على الانتفاضة الشعبية، والقمع السياسي الذي استهدف المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان ورجال الدين وجمعيات المجتمع المدني المستقلة قد أغلق فعليًا أي مجال أمام الممارسة السلمية للحق في حرية التعبير أو مُباشَرة النضال السلمي”.
المنظمة أوضحت أن الاحتجاجات التي اندلعت قبل عشر سنوات كانت “بسبب حالة من السخط المتصاعد على نظام الدولة الاستبدادي، والنزعة الطائفية التي اعترت التوظيف الحكومي، وغير ذلك من المزايا، والتقاعس عن مساءلة مرتكبي أعمال التعذيب، والضالعين في الاعتقالات التعسفية”.
مؤكدة أن “السلطات لا تزال تتجاهل توصيات اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق المعروفة بلجنة “بسيوني”، وأهمها الدعوة إلى إجراء تحقيق عاجل بشأن جميع المزاعم عن إساءة معاملة أشخاص على أيدي خبراء طب شرعي مستقلين، مع تحمّل الدولة عبء إثبات امتثالها للقانون، والمُطالبة بإبعاد جهاز المخابرات الوطني عن عملية إنفاذ القانون داخليًا، وتخفيف وإتاحة الفرص أمام المعارضة السياسية للوصول إلى وسائل إعلام الدولة”.
إن كانت تعاني المعارضة منذ عشر سنوات مضت من تضييق سلطوي فإن الوضع اليوم أكثر شراسة، يتساوى في ذلك معارضة الداخل والخارج
نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية، لين معلوف، قدمت كشف حساب للعقد الذي مر على الثورة، أبرزه حظر الأحزاب المعارضة بالكامل وخنق المجال السياسي بصورة غير مسبوقة وسن قوانين تزيد من سوداوية المشهد وقتامته، هذا بجانب استمرار قادة احتجاجات 2011 في غياهب السجون، حيث الأوضاع المزرية التي تتعارض مع مواثيق حقوق الإنسان شكلًا ومضمونًا.
وكالة آسيوشيتد برس نشرت هي الأخرى يوم الخميس 11 من فبراير/شباط مقال للكاتبة إيزابيل ديبرة بعنوان “عقد من احتجاجات 2011، البحرين تقمع كل المعارضة” استعرضت فيه أوجه التنكيل السلطوي بالمعارضة، بكل تياراتها السياسية، مختتمة إياه بأنه “بعد عقد من الاحتجاجات البحرين تقمع كافة أشكال المعارضة في البلاد الذين يسعون لمزيد من الحقوق السياسية في البلاد، والتي تعد حليفًا غربيًا رئيسيًا وموطن الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية”.
وبعيدًا عن دعوات الطائفية والدور الإيراني في الاحتجاجات البحرينية، وهي الحجج التي استندت إليها المنامة لتبرير انتهاكاتها المستمرة لكل من شارك في الحراك أو عدمه بالقول أو الفعل، ذهبت إيزابيل إلى أن السلطات البحرينية لم تستهدف فقط الزعماء الشيعة منذ 2011، لكنها وسعت دائرة الاستهداف لتشمل نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين والمعارضين على الإنترنت.
المعارضة.. إلى أين؟
إن كانت تعاني المعارضة منذ عشر سنوات مضت من تضييق سلطوي فإن الوضع اليوم أكثر شراسةً، يتساوى في ذلك معارضة الداخل والخارج، في ظل القبضة الأمنية المشددة التي تستهدف الدائرة الواسعة من المقربين من المعارضة، الأمر الذي دفعها إلى مزيد من التقزيم.
وفي الوقت الذي كانت تواجه فيه قوى المعارضة أزمات داخلية في ظل تباين الأيديولوجيات والتوجهات في 2011، الأمر الذي أضعف تأثيرها، فإنها اليوم في 2021 تواجه شروخات حادة، وضعتها في مسارات متضاربة، ليس بين مختلف التنظيمات وبعضها البعض، بل داخل التنظيم الواحد كذلك.
وضع أجندة مشتركة وواقعية وقابلة للتنفيذ هو أول تحرك عملي يجب أن تقدم عليه المعارضة إذا أرادت أن تمسك بتلابيب حلمها المسلوب
ورغم التغيرات الطفيفة التي شهدتها الساحة السياسية بتعيين ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رئيسًا للحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد وفاة عمه، خليفة بن سلمان آل خليفة، صاحب السمعة السيئة والتاريخ المشوة من استهداف الإصلاح والتخطيط للقمع، هذا التغير الذي استبشر البعض به خيرًا، لكنه لم يحرك ساكنًا في مياه المشهد الراكدة، لتواصل السلطة هوايتها المفضلة في القمع والتنكيل.
الوقت لم يكن في صالح المعارضة بشتى توجهاتها، فالإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة، حتى إن كان اشتعالًا خافتًا، يتطلب زلزالًا مدويًا في هيكلتها، الإدارية والتنظيمية، فضلًا عن الأيديولوجية والسياسية، ما يعني ضرورة الجلوس على مائدة نقاش مجمع، وأن يعود كل فصيل خطوة للخلف، متخليًا عن بعض الثوابت المثيرة للشقاق والخلاف.
وضع أجندة مشتركة وواقعية وقابلة للتنفيذ هو أول تحرك عملي يجب أن تقدم عليه المعارضة إذا أرادت أن تمسك بتلابيب حلمها المسلوب، كما عليها كذلك وضع برنامج مرن، قادر على التعاطي مع تعقيدات الموقف الراهن، ولديه من المقدرة ما يؤهله لبلورة خياراته المستقبلية.
وفي المحصلة.. يرى كثير من المؤمنين بالتغيير والإصلاح في البحرين أن الأحلام لا تسقط بالتقادم، وأن صوت الثورة لا يمكن أن يخفت مهما كان سوط التنكيل والاستهداف مرتفعًا، غير أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر وترتيب الأوراق مجددًا بما يدحض عراقيل النجاح وأولها معالجة حالة التشظي التي تعصف بالعقلية الثورية.