“بدءًا من اليوم، يجب علينا تفكيك المنصات الإلكترونية التي تمزق أمريكا والبلدان في جميع أنحاء العالم، وعلينا أن نفرض قوانين مكافحة الاحتكار التي لدينا بالفعل، بينما نضغط من أجل الإصلاح التشريعي، ديمقراطيتنا لا تستطيع الانتظار”.
هذه الكلمات كانت من ضمن التقرير الذي أعده الكونغرس الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2020 المنصرم، للحد من تغول كبرى شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون، فما السبب وراء ذلك؟
أضحت شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي جهات فاعلة عالميًا، وتؤثر قراراتها على حقوق وحريات مليارات الأشخاص حول العالم، ليس ذلك فحسب، بل إنها تسير بخطى متسقة لتطرح نفسها ككيانات توازي حكومات العالم!
بشكل عام، يقول 72% من البالغين الأمريكيين إن شركات وسائل التواصل الاجتماعي لديها الكثير من القوة والنفوذ في السياسة اليوم، وفقًا لاستطلاع أُجري في الفترة من 16 إلى 22 من يونيو/حزيران من العام الماضي.
فيروس كورونا أثبت قوة عمالقة التكنولوجيا
في السنوات التي سبقت ظهور الفيروس التاجي “كوفيد-19“، بدأ النقاد في التنبؤ بأن حفنة من شركات التكنولوجيا ستصبح قريبًا أقوى من حكومات دول العالم، حجمها وتأثيرها وقدرتها على التلاعب بالرأي العام وتشكيل الأسواق، سيسمح لها بالحكم دون عوائق.
وعندما تفشى الفيروس في أصقاع الأرض، أثبتت الشركات صدق تلك التنبؤات، فبينما كانت جميع الشركات والمؤسسات الحكومية في جميع بلدان العالم تنزلق من خسارة إلى أخرى، جنى عمالقة وادي السيليكون أرباحًا مضاعفة، وعندما بدأت المصانع الحكومية والأهلية بتسريح آلاف العمال، استقبلت شركات مثل أمازون أعدادًا كبيرةً من العاملين وطرحت العديد من فرص العمل.
يمكن للإعلان عبر الإنترنت أن يدعم الصحافة إلى حد كبير كما فعلت الإعلانات العادية في الماضي
قال سكوت جالوي أستاذ التسويق في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك ومؤلف كتاب “الحمض النووي المخفي للأربعة، أمازون وآبل وفيسبوك وجوجل”: “هناك حقًا أمريكتان في الوقت الحاليّ، هناك شركات التكنولوجيا الكبيرة وهناك الحكومة، إذ يمكن لتلك الشركات وحدها أن تلعب وسط الوباء”.
تلك القوة التي صنعتها تلك الشركات كان وراءها المستخدمون لمنصات تلك الشركات، على سبيل المثال، طور كل من فيسبوك وجوجل قُدراتهما على جمع البيانات من خلال سلسلة من عمليات الاستحواذ على الشركات الأخرى.
عزز جمع البيانات الخاصة بهم قوتهم الاحتكارية وهو سبب هيمنتهم على مورد مهم من موارد التمويل – أساس كل قوة – وهو “الإعلانات الرقمية”.
يمكن لجميع المنصات تتبعك، ومن ثم السماح للأطراف الأخرى – الشركات المعلِنة – استهدافك بالإعلانات والمحتوى بشكل مفرط بناءً على تلك المراقبة.
إن البنى التحتية لجمع البيانات في فيسبوك وجوجل واسعة بالفعل، إذ تحتوي المنصات على آراء شاملة عما يقرأه الناس ويفكرون فيه ويفعلونه ويؤمنون به ويشترونه ويشاهدونه وأين يذهبون ومع من هم.
في العصر الرقمي، يمكن للإعلان عبر الإنترنت أن يدعم الصحافة إلى حد كبير كما فعلت الإعلانات العادية في الماضي.
لكن فيسبوك وجوجل يمثلان 85% إلى 90% من نمو سوق الإعلانات الرقمية في أمريكا الشمالية وأوروبا بأكثر من 150 مليار دولار، وهي نسبة أكثر من 90% من مصدر تمويل تلك الشركات.
غالبًا ما يدعي مارك زوكربيرغ أن فيسبوك ملتزم بـ”حرية التعبير” لكن حرية التعبير مستحيلة عندما تتحكم شركة واحدة في تدفق الكلام إلى ما يقرب من 3 مليارات شخص، باستخدام خلاصات فردية وموجهة للمحتوى الذي يهدف إلى جعل الناس يتفاعلون.
شركات التكنولوجيا رقم صعب في السياسة الدولية
في كتابها “The Information Trade: How Big Tech تغزو البلدان وتتحدى حقوقنا وتحول عالمنا” كتبت أليكسيس ويتشوفسكي عن كيف أصبحت شركات التكنولوجيا الكبرى أكثر بكثير من مجرد مزودي التكنولوجيا، وماذا يعني ذلك لمواطني العالم عندما صارت تنافس الحكومات بقوتها، وأضحت أشبه بالدول.
تقول الكاتبة: “على سبيل المثال، واحد من هذه المجتمعات – فيسبوك – تجاوز ملياري مستخدم، إذا كان فيسبوك دولة، فإن عدد سكانها يتفوق حتى على الصين بنحو 40%”.
في مؤتمر ميونيخ للأمن لهذا العام، شارك ممثلو شركات التكنولوجيا الكبرى كمتحدثين في جلسات عن العلاقات عبر الأطلسي وتدابير حل النزاعات
في يناير 2020، أعلنت مايكروسوفت إنشاء وفد دائم لها في الأمم المتحدة بمدينة نيويورك. الهدف بحسب الشركة هو تعزيز أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في القضايا الرئيسية المتعلقة بالتكنولوجيا والإنسانية والبيئية والإنمائية والأمنية.
وفي الوقت نفسه، أنشأت IBM مؤخرًا معملًا لسياسة التكنولوجيا يشارك أعضاؤه في بعض أهم اجتماعات صنع القرار السياسي، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن لهذا العام، شارك ممثلو شركات التكنولوجيا الكبرى كمتحدثين في جلسات عن العلاقات عبر الأطلسي وتدابير حل النزاعات.
أيضًا، في هذا المؤتمر، طرح مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، فكرة الحاجة إلى تحسين نظام إدارة الإنترنت وكيف يجب أن تنظم الشركات تدفق الإنترنت حول العالم.
لكبح جماحها.. دعوات لرفع الحصانة عن شركات وادي السيليكون
كانت وسائل التواصل عند إطلاقها متنفسًا للمظلومين، إذ أسست منبرًا حرًا لكل من يريد إيصال صوته لأي فئة في أي مجال حول العالم.
والسرعة التي يمكن أن تنتشر فيها المعلومات أتاحت لشبكات الاحتجاج وغيرها من الحركات أن يكون لها تأثيرات غير مباشرة مذهلة.
لقد لعبت منصات التواصل دورًا واضحًا في كشف وثائق “ويكيليكس” وانتفاضات الربيع العربي والحركات المناهضة للتقشف في أوروبا.
وعلى مدار العقد الماضي، ازدهرت علامات التصنيف مثل #BlackLivesMatter و #MeToo في حملات شاملة للتغيير، حيث شارك النشطاء قصصهم وصورهم المقلقة للعنف والتمييز والكراهية.
القانون لا يحمّل شركات التكنولوجيا أي مسؤولية عما يتم طرحه على منصاتها، الأمر الذي تسبب في ازدياد شعبية تلك المنصات بشكل مهول
لكن رغم الدعم الذي قدمتته منصات التواصل في شتى المجالات، لا يعني ذلك أن لها وجهًا آخر سيئًا ممكن أن ترينا إياه، إذ باتت أرضًا خصبة للمعلومات المضللة والشائعات الكثيرة ونظريات المؤامرة.
ولعل المسؤول البارز الوحيد الذي صرح علانية بخطورة الوضع الجديد الذي خلقته منصات التواصل وعمالقة التكنولوجيا كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إذ ألقى عليهم اتهامات عديدة بشأن عدم اكتراثهم بالخصوصية ودورهم في انتشار المعلومات الخاطئة وعلاقتهم الحميمة مع الصين وإنشاء منتجات تسبب الإدمان وخطط تجنب الضرائب، وما إلى ذلك.
ويعد القسم “230” من قانون آداب الاتصالات الذي تم تشريعه عام 1996 هو الحصن الذي تختبئ خلفه تلك الشركات، هذا القانون الذي هدد ترامب أكثر من مرة بإلغائه، هذا القانون لا يحمّل شركات التكنولوجيا أي مسؤولية عما يتم طرحه على منصاتها، الأمر الذي تسبب بازدياد شعبية تلك المنصات بشكل مهول.
جرت داخل أروقة الكونغرس عدة مشاورات ومطالبات لإلغاء قانون القسم 230 أو تعديله، لكن الاتهامات والمناكفات المستمرة بين الجمهورين من جهة والديمقراطيين من جهة أخرى حالت دون ذلك.
مكافحة الاحتكار.. أول خطوة للحد من قوة الشركات
بدأت اللجنة القضائية بمجلس النواب الأمريكي تحقيقها في عمالقة التكنولوجيا الأربعة في يونيو/حزيران 2019، وأجرت مقابلات مع مئات المنافسين والعملاء التجاريين للمنصات، والمقصود بالاحتكار هنا هو سيطرة الشركات الكبيرة على الشركات الصغيرة السابقة وإلغاء روح المنافسة.
على سبيل المثال:
كان لفيسبوك قوة احتكارية في سوق الشبكات الاجتماعية، بينما احتكرت جوجل البحث والإعلان عبر الإنترنت، وتمتلك أمازون قوة سوقية كبيرة ودائمة في التسوق عبر الإنترنت، من جهتها مارست آبل سلطة احتكارية عبر متجر التطبيقات الخاص بها، التي استفادت منها لإنشاء وفرض حواجز أمام المنافسة والتمييز ضد المنافسين واستبعادهم مع تفضيل عروضها الخاصة.
أمازون وآبل وفيسبوك وجوجل كان لهم دور كحراس في الأسعار الخاضعة للرقابة وتوزيع السلع والخدمات
في يوليو/تموز، أدلى الرؤساء التنفيذيون للتكنولوجيا، جيف بيزوس من أمازون وتيم كوك من شركة آبل ومارك زوكربيرغ من فيسبوك وسوندار بيتشاي من جوجل، بشهادتهم في جلسة استماع للدفاع عن شركاتهم.
الشركات الأربعة، التي تبلغ قيمتها السوقية مجتمعة أكثر من 5 تريليونات دولار، تعمل إلى حد كبير في أعمال رقمية مختلفة، وقال التقرير إن أمازون وآبل وفيسبوك وجوجل كان لهم دور “كحراس” في الأسعار الخاضعة للرقابة وتوزيع السلع والخدمات.
قال كريس ساجر من جامعة كليفلاند ستيت، الذي كتب على نطاق واسع عن قانون مكافحة الاحتكار: “مجلس النواب أوضح أن الأطر التنظيمية الحاليّة لا تواكب الثورة الرقمية”.
لتعديل عدم المساواة الناشئ في السوق بين العمالقة والشركات الناشئة، أوصى المشرعون في مجلس النواب الأمريكي، باستعادة المنافسة من خلال تفكيك الشركات بشكل فعال وتشجيع الوكالات التي تراقب السوق وتضع عقبات أمام الشركات للحصول على الشركات الناشئة.
“لا يترك تحقيقنا أي مجال للشك في أن هناك حاجة واضحة وملحة للكونغرس ووكالات إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار لاتخاذ إجراءات تعيد المنافسة وتحسن الابتكار وتحمي ديمقراطيتنا”، هذا ما قاله جيرولد نادلر، ديمقراطي من نيويورك ورئيس اللجنة القضائية.
المشاكل الأخرى لسيطرة العمالقة على السوق
- السيطرة على الأفكار وبناء الرأي العام
السيطرة المفرطة على سوق الأفكار تتعارض مع الديمقراطية، لهذا السبب لطالما كان لدى أمريكا قواعد تحد من هذه القوة، مثل قيود ملكية وسائل الإعلام التي تمنع نفس الشركة من امتلاك محطة تليفزيون وصحيفة في نفس المكان.
- معلومات مضللة عن لقاح كورونا
وصفت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا المعلومات الخاطئة التي تمت مشاركتها على فيسبوك بشأن اللقاحات بأنها تهديد كبير للصحة العالمية يمكن أن يعكس عقودًا من التقدم المحرز في معالجة الأمراض التي يمكن الوقاية منها.
- مخاطر أخرى – تضليل الرأي العام
على سبيل المثال، من خلال استهداف شرائح معينة من السكان لقمع أصواتهم ونشر تصريحات مضللة وتحريضية أو مواد تزوير عبر التزييف العميق لتقويض المعارضين السياسيين.
- منصات التواصل هي مركز الأخبار الآن
طرحت منصات التواصل نفسها كمصدر مهم من مصادر الأخبار، ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة وحدها فإن نحو 68% من البالغين الأمريكيين يحصلون على الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي.