في عام 1956، عرض فيلم “العتبة الخضراء” للمرة الأولى في السينما المصرية، الفيلم كان في إطار كوميدي يتناول إحدى قصص النصب على المواطنين الحالمين بالثراء السريع، إذ أوهم أحد النصابين (أدى دوره الفنان أحمد مظهر) المواطن القادم من جيوب الصعيد (أدى دوره الفنان إسماعيل يس) بشراء ميدان العتبة بوسط القاهرة (رغم أنه ملكية حكومية)، في صفقة ستدر الكثير من المال على المشتري الذي باع أرضه وارتهن بيته لإنهاء البيعة بأسرع وقت ممكن.
الفيلم لم يخرج حينها عن إطار خيال المؤلف جليل البنداري المصبوغ بصبغة كوميدية بحتة، وبعد 27 عامًا على إنتاج هذا العمل، عرفت السينما المصرية فيلمًا آخر يتطرق للمسألة ذاتها، وهو “كراكون في الشارع” المنتج عام 1986، هذا العمل الذي ركز على القضية ذاتها، نصب أحد الأشخاص على المواطنين بجمع مدخراتهم مقابل حصولهم على عوائد في صورة وحدات سكنية أو أموال نقدية، لتنتهي القصة التي كتبها أحمد الخطيب باكتشاف الضحايا أنهم سلموا أنفسهم إلى محتال بارع.
وبعد 6 عقود تقريبًا على أول عمل فني تطرق إلى هذه الفكرة، انتقل النصب على المواطنين من مجرد قصة خيالية على شاشات السينما والتلفاز تستهدف إضحاك المشاهدين إلى حقيقة واقعية تمارس كل يوم على مرأى ومسمع من الجميع، يتساقط ضحاياها واحدًا تلو الآخر.
لم يعد النصب والاحتيال في مصر مجرد حالات فردية يمكن السيطرة عليها ولا يصح الاستناد إليها في قراءة التغيرات التي شهدتها الخريطة المجتمعية المصرية مؤخرًا، بل تحول إلى ظاهرة مجتمعية، تطفو على السطح بين الحين والآخر، في مناطق يلهث أهلها ورا الثراء السريع والارتماء في أحضان الحديث المعسول عن وردية الحياة والمستقبل المبشر بصرف النظر عن الضمانات المقدمة.
المفاهيم ذاتها شابها ملامح التغيير، سواء في الشكل أم المضمون، فتحول الشخص القائم بالنصب على الناس من “المحتال” إلى “المستريح” في إشارة إلى سرعة الانتقال من الفقر إلى الغناء الفاحش دون عناء أو مجهود، هذا بخلاف أن الأهالي هم من يذهبون للشخص لتقديم أموالهم له دون أن يتحرك هو من مكانه، في خطة محكمة تسهل وتسرع من الإيقاع بالضحايا في شباك هذه الحفنة من المستريحين.
5 مليارات جنيه في 6 أشهر
خلال الأشهر الست الماضية فقط، جمع 5 “مستريحين” مبلغ 5 مليارات جنيه (322.5 مليون دولار) من مواطنين بهدف استثمارهم في العديد من المجالات، أبرزها العقارات والزراعة ومواد البناء والتصدير والاستيراد، بحسب التقارير الواردة عن المصادر الأمنية وفق المحاضر الرسمية.
التحقيقات كشفت أن المحتالين كانوا يقومون بسداد فوائد شهرية للمودعين تتجاوز الـ20% (في البنوك لا تتعدى الـ10%) هذا بخلاف أرباح أخرى غير مدرجة في الأوراق الرسمية، وهو ما أسال لعاب المواطنين المدفوعين بحب الثراء السريع إلى تقديم كل ممتلكاتهم ووضعها تحت أقدام المستريحين.
ورغم تعدد حالات النصب التي سقطت في أيدي أجهزة الأمن، فإن هناك 5 حالات هي الأكثر والأشهر إعلاميًا، هي: مستريح المنيا، مدرس، الذي جمع 1.5 مليار جنيه، مستريح الشرقية، شيخ، جمع مليار جنيه، مستريح الغربية، مهندس زراعي، جمع 500 مليون جنيه، مستريح القليوبية، جواهرجي، جمع 30 مليون جنيه، مستريح سوهاج، وشهرته الدكتور، جمع 14 مليون جنيه.
هناك أسباب أخرى أكثر تأثيرًا وراء تفشي تلك الظاهرة، تتعلق بالسياسات النقدية المتبعة، التي كانت عامل طرد كبير للمواطنين من إيداع أموالهم في البنوك الرسمية إلى استثمارها في المشروعات غير المضمونة
اللافت للنظر أن جرائم النصب على المواطنين وتفريغ جيوبهم من ثرواتهم لم يكن حكرًا على الرجال فقط كما هو معتاد، فوفق محاضر مباحث الأموال العامة، هناك العديد من النصابات النسويات “المستريحات” اللائي نجحن في جمع عشرات الملايين، منهن: سيدة تدعى “منال. ح. م” في العقد الرابع من عمرها بالدقهلية (شرق) استولت على 20 مليون جنيه من ضحاياها، وأخرى بالمنيا (جنوب) استولت على 781 ألف جنيه من المواطنين.
وعرف الشارع المصري ظاهرة النصب والاحتيال منذ تسعينيات القرن الماضي، من خلال شركات توظيف الأموال، التي تأتي على رأسها “شركة الريان” التي نجحت في جمع مئات الملايين من المصريين بحجة توظيفها وفق الشريعة الإسلامية، ثم سرعان ما سقط صاحب الشركة وشركاؤه وحكم عليهم بالسجن، بعد ثبوت النصب على المواطنين وسرقة أموالهم.
ثم جاء العام 2015 ليكشف عن ظهور أول “مستريح” بالمفهوم الجديد، حين تمكنت مباحث الأموال العامة من القبض على رجل الأعمال أحمد مصطفى الشهير بـ”أحمد المستريح” الذي استولى على 30 مليون جنيه من المواطنين بالصعيد، كذلك ظهور مستريحين جدد في حلون بالقاهرة ودمياط بشمال مصر.
السياسات النقدية.. أبرز المتهمين
بعيدًا عن أحلام الثراء السريع والهرولة لجني أكبر المكاسب في أقل وقت، فهناك أسباب أخرى أكثر تأثيرًا وراء تفشي تلك الظاهرة، تتعلق بالسياسات النقدية المتبعة، التي كانت عامل طرد كبير للمواطنين من إيداع أموالهم في البنوك الرسمية إلى استثمارها في المشروعات غير المضمونة.
المتخصّصة في شؤون الاقتصاد، بسنت فهمي، حمّلت سياسات البنك المركزي المصري لا سيما فيما يتعلق بخفض الفائدة، مسؤولية هروب المودعين في البنوك بمدخراتهم إلى قنوات أخرى تدرّ أرباحًا أكبر، لافتة إلى أنها طالما حذرت أكثر من مرة من “تأثيرات السياسة النقدية للبنك المركزي خلال العام الماضي 2020، بعدما خفّض أسعار الفائدة بنحو 4% في عام واحد بما له من تأثير على شريحة كبيرة من المصريين”.
الباحثة الاقتصادية أشارت إلى أن السواد الأعظم من أصحاب المعاشات والنساء المعيلات يعتمدون في المقام الأول على فوائد البنوك في إدارة حياتهم المعيشية طيلة الشهر، وحين خفض البنك من قيمة تلك الفوائد، ما كان أمامهم إلا سحبها لاستثمارها في مكان آخر يدر عليهم دخلًا أكبر في ظل أعباء الحياة والغلاء الفاحش الذي فرض نفسه خلال السنوات الأخيرة.
حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر يتجاوز ال137 مليار دولار، بما يمثل قرابة 30% من إجمالي الناتج القومي
ومنذ قرار تعويم العملة المحلية “الجنيه” في 2016 شهدت أسعار الفائدة موجات متتالية من التحركات (12 مرة) كان لها تأثيرها المتأرجح سلبًا وإيجابًا على حركة المودعين طيلة السنوات الماضية، حيث ارتفعت أول مرة من 11.75% قبل التعويم إلى 15.75% بعده مباشرة، في محاولة لدفع المواطنين لإيداع أموالهم في البنوك.
وفي مايو/آيار 2017 زادت أسعار الفائدة لتصل 16.75% ثم بعد شهرين فقط إلى 19.75% في يوليو/تموز، لكنها تراجعت بنسبة 1% فقط مع بداية عام 2018، لتواصل التراجع في 2019 كذلك، لتصل بنهايته إلى 12.25 و13.25% على الإيداع والخصم.
كما شهد عام 2020 انخفاضًا في أسعار الفائدة بقيمة 4% على ثلاث دفعات، الأولى، خلال ذروة انتشار فيروس كورونا منتصف مارس/آذار الماضي، بالإضافة إلى تخفيضين آخرين خلال سبتمبر ونوفمبر الماضيين، فيما يتوقع استمرار الانخفاض خلال العام الحاليّ.
وكان نتيجة لهذا أن اضطرت البنوك المملوكة للدولة والخاصة إلى تخفيض معدلات الفائدة هي الأخرى، الأمر الذي كان له انعكاساته السلبية على إجمالي الأموال المودعة في تلك البنوك، التي تراجعت بصورة ملحوظة، وهو ما تسبب في زيادة معدلات التضخم خلال الأشهر الماضية.
الاقتصاد المشبوه.. خسائر بالمليارات
تندرج جرائم النصب والاحتيال على المواطنين بتوظيف أموالهم في مشروعات، بعضها وهمية، تحت إطار “الاقتصاد السري” وهو الاقتصاد مجهول المصدر، الذي يتسبب في خسارة المليارات على الدولة، إذ تشير التقارير إلى أن تلك الأموال المشبوهة تضيع على خزينة الدولة أكثر من 300 مليار جنيه سنويًا.
الأرقام تكشف أن حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر يتجاوز الـ137 مليار دولار، بما يمثل قرابة 30% من إجمالي الناتج القومي، وفقًا لموازنة 2019/2020 التي بلغ فيها إجمالي الناتج القومي نحو 433 مليار دولار، وهو رقم يتطلب التوقف عنده طويلًا.
وتمثل المنشآت العاملة في هذا النوع من الاقتصاد 53% من إجمالي منشآت الدولة، البالغ عددها 4 ملايين منشأة، فيما بلغ حجم المبالغ المستثمرة فى هذا القطاع 69.3 مليار جنيه (4.4 مليار دولار) تمثل نحو 5.1% من إجمالي رأس المال الذي يضخ في النشاطات الاقتصادية فى مصر ، فيما قدر خبراء حجمه بـ 395 مليار دولار أي ما يعادل 2.6 تريليون جنيه وبنسبة تصل إلى 50% من اجمالى الاقتصاد.
وبعيدًا عن التوظيف الرسمي السلبي لأرقام النصب على المواطنين التي تستند إليها السلطات لفرض المزيد من الإجراءات التقشفية على الشعب بحجة “معاهم فلوس بالمليارات وليسوا فقراءً كما يدعون”، فإن الأمر يحتاج إلى تحرك فوري لإعادة النظر في السياسات المالية والنقدية المتبعة حتى لا يستيقظ الجميع على كارثة محققة.