توافقت القوى الفلسطينية السياسية، بما في ذلك فتح وحماس، على عقد انتخابات فلسطينية تشريعية ورئاسية. والواضح أن هذا التوافق، الذي قد يمتد إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات، ومن ثم تقدم الرئيس عباس مرشحًا وحيدًا لفتح وحماس، ولد من سعي حماس للتخلص من أعباء الانقسام بين الضفة والقطاع وتخلي السلطة عن مسؤولياتها تجاه أهالي القطاع، من جهة، واستجابتها لرغبة عباس في تجديد شرعيته، من جهة أخرى. الانتخابات، بالطبع، هي الوسيلة الأفضل لتجاوز استقطابات الشعوب وانقساماتها السياسية؛ لأن العودة إلى الشعب والانصياع لقراره هو النهج الأصوب لإعادة بناء نظم الحكم. ولكن ثمة مشكلة، ومشكلة كبرى، تواجه المتوافقين الفلسطينيين على انتخابات نيسان/ أبريل وأيار/ مايو المقبلين.
فبالرغم من الأوهام غير القابلة للتصديق التي تعيشها طبقة سلطة الحكم الذاتي، لا يتمتع الفلسطينيون بدولة حرة، مستقلة، ذات سيادة. وليس لسلطتهم القائمة حدود تعرفها، أو كتلة واضحة المعالم من المواطنين المنضوين تحت إطارها. ولأن الفلسطينيين يعانون من احتلال استيطاني، يعمل على سلب أرضهم، بما في ذلك تلك التي يفترض، بسلسلة من القرارات الدولية، أن تكون فلسطينية خالصة.. يضم القدس وينتهك المقدسات، ويعتقل الآلاف منهم لسبب أو لغير سبب، فلا بد أن المهمة الرئيسة أمام القوى السياسية الفلسطينية هي تلك المتعلقة بأهداف التحرر الوطني. في الحد الأدنى لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، لا بد أن تصبح مواجهة الاحتلال، وإخراج المحتلين من كافة أراضي الضفة والقطاع، واستعادة القدس، وتحرير الأسرى، وعودة اللاجئين؛ أولوية النضال الفلسطيني وحركته الوطنية بكافة قواها.
في ظل سلطة الحكم الذاتي، لم يعد ممكنًا تبني أي مستوى من مستويات النضال الوطني، لا النضال من أجل دولة مستقلة ذات سيادة على حدود 1967، ولا تحرير فلسطين بكاملها، ولا حتى النضال من أجل الدولة الواحدة
بيد أن تكريس هكذا برنامج وطني وتعهد مهماته لم يعد ممكنًا، ولم يعد ممكنًا لأن دولة الاحتلال حققت أكبر اختراق استراتيجي في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ولدت المسألة الفلسطينية قبل مئة عام: سلطة الحكم الذاتي. في ظل سلطة الحكم الذاتي، لم يعد ممكنًا تبني أي مستوى من مستويات النضال الوطني، لا النضال من أجل دولة مستقلة ذات سيادة على حدود 1967، ولا تحرير فلسطين بكاملها، ولا حتى النضال من أجل الدولة الواحدة. ولدت السلطة بإرادة الاحتلال، وولدت بالتزامات سياسية، وأمنية، وقانونية، تربطها بصورة عضوية بدولة الاحتلال. كما أن السلطة سرعان ما صنعت طبقتها الحاكمة، التي باتت أسيرة لامتيازاتها الشخصية، وأعجز عن التضحية بأوهام الحكم والموقع والدور.
عندما أدرك عرفات حجم المصيدة التي أوقع بها، وحاول العودة إلى مستوى من المقاومة، حوصر كما أسير صغير، ومن ثم قتل بدون أن يطالب بدمه أحد. وقد انتهت اتفاقية أوسلو، التي يفترض أن تشكل مرجعية عملية السلام بين الحركة الوطنية الفلسطينية ودولة الاحتلال إلى الموت السريري. خلال السنوات الأربع الماضية، عندما تجاهلت الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، معًا، سلطة الحكم الذاتي، وأخذت في استباحة ما تبقى من الحقوق الفلسطينية، اتخذت عدة قرارات لقطع وشائج ارتهان السلطة لدولة الاحتلال. ولكن أيًا من هذه القرارات لم ينفذ. الحقيقة، أن سلطة الحكم الذاتي تقف عاجزة عن حماية أي من الحقوق الوطنية، وأن الكفاءة الوحيدة التي تسجل لها هي في قدرتها على إجهاض كافة أشكال النضال الوطني.
سلطة الحكم الذاتي، بكلمة أخرى، هي أكبر فخ استراتيجي وقع فيه الفلسطينيون.
ولن تحقق الانتخابات التشريعية والرئاسية الموعودة إلا إعادة بناء السلطة، ومنحها شرعية تمثيلية إضافة لتستمر في القيام بدورها الذي أسست من أجله، والأدلة لا تحتاج انتظار ما بعد الانتخابات للتحقق منها. فبالرغم من التوافق على الانتخابات، لم يتخذ رئيس سلطة الحكم الذاتي ولو إجراء ملموسًا واحدًا لإنهاء القطيعة مع قطاع عزة، أو التدخل لوضع نهاية لحصاره، أو تحمل مسؤولياته تجاه مواطنين القطاع.
بعد ما يقارب عقدين من الإخفاقات، فأحدًا لا يعرف، ولا حتى على وجه العموم، ما إن كان للسيد الرئيس برنامج للنهوض بحركة التحرر الوطني والنضال من أجل الحرية والاستقلال
وفي حين تبلور إجماع فلسطيني منذ زمن على ضرورة أن تعود منظمة التحرير إلى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن المنظمة تحتاج إعادة بناء شاملة لتصبح أكثر تمثيلًا لكافة فئات الشعب وقواه، فإن التوافق على الانتخابات لم يتضمن ما يكفي لتطمين الفلسطينيين بأن ثمة توجه لانتخاب مجلس وطني جديد، والعمل على إعادة بناء مؤسسات المنظمة الأخرى. ولكن هناك ما هو أسوأ؛ فبالرغم من حرص رئيس السلطة على أن يكون المرشح الوحيد للرئاسة، بعد ما يقارب عقدين من الإخفاقات، فأحدًا لا يعرف، ولا حتى على وجه العموم، ما إن كان للسيد الرئيس برنامج للنهوض بحركة التحرر الوطني والنضال من أجل الحرية والاستقلال. برنامج الرئيس الوحيد هو الترحيب بالإدارة الأمريكية الجديدة، والإعراب عن الاستعداد للتعاون معها.
ثمة مأزق فلسطيني، ليس هناك شك في ذلك. جزء من هذا المأزق صنعه الفلسطينيون بأيديهم، وجزء يعود إلى الخلل الفادح في ميزان القوى، عربيًا ودوليًا. ولكن الخروج من هذا المأزق لا يتأتى بمزيد من الغرق في الفخ الاستراتيجي الذي نصبه الاحتلال منذ عمل على قيام سلطة الحكم الذاتي، والانتخابات المقررة لن تفعل سوى ذلك.
المصدر: عربي 21