“كلما قالوا انتهى، فاجأتهم أني ابتدأت”.
هكذا كانت قصائد مريد البرغوثي تتسلل إلينا، شلال من الحب في كل مفترق طرق يفيض أكثر ولا ينتهي، وبوح من بدايات لا نهاية لها، فكيف أنتهى؟
نرى على يديه رام الله، ونهرع من العالم الشاسع إلى ركن حلم دافء وهو ينادي “استيقظ كي تحلم”، وفي معنى البعد الأكبر للعاشق الكبير فقد “طال الشتات” يا رضوى، فلجأ إليكِ مريد من حزنه وهو يحن لموطنه الأصلي “ضحكتها”، فغادرنا مساء يوم الأحد الحزين 14 من فبراير/شباط 2021.
رحل شاعر فلسطين والجمال، ابن القرن الماضي الذي نأى عن كوابيس الخوف والسلطة وتمسك بالميادين اليقظة الحالمة وهو يتخطى الجدار المؤلم في أرضه مع محمود درويش وغسان كنفاني وطرقات مليئة بالانتفاض والبحث الدائم عن قشة ينجو بها الغريق.
مريد البرغوثي شاعر فلسطيني ولد عام 1944، في قرية دير غسانة قرب رام الله بالضفة الغربية حيث درس حتى الثانوية، ولحبه للأدب التحق بجامعة القاهرة، حيث درس هناك الأدب الإنجليزي وتخرج في العام المشؤوم 1967 حين احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية وصادرت حقوق الغائبين عن أرض رام الله، ومُنعوا من العودة إليها.
بدأت رحلته في المنفى، يقاسمه الشعر في الألم والبحث عن معنى الوجود، وصيغت تجربته الشعرية بالكثير من الحذر، ففي الوقت الذي كان فيه مريد حرًا يعبر عن رأيه الوطني ويتحدث عن سلب أرضه، كان بعيدًا عن التوغل في المؤسسة السياسية بشكل مبالغ أو ثائر.
فلتجربته الشعرية صوغ فني وفكري واعٍ بمسألة التجريد الفني للواقع السياسي: “الاحتلال الطويل استطاع أن يحولنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين”.
ولمعناه الشعري أثر روحي ونفسي ظاهر:
“قاسميني تعبي يا متعبة
إنني أحتاج صدرًا موجعًا أبكي عليه
إن بي، مثلك، شيئًا من زجاج
وصدور المطمئنين رخام
نحن لا نشكو لمن أضعفنا
قاسميني تعبي يا متعبة
فالذي يشكو إلى الأقوى
يُذلّ”.
ويأتي كتابه النثري “رأيت رام الله” في أقرب صورة لفلسطيني غادر ولم يُسمح له بالعودة إلا بعد ثلاثين عامًا، فكانت فلسطين جرحًا ينأى مريد عن التعامل معه بشكل مباشر في لغته وشعره، وظلت حبيسة فكرته وأحزانه الطويلة في منافيه: “إن الأحلام تُصبح أكثر خطورة عندما تكون أحلامًا بسيطة”.
إن هذا الاختلاف الذي عاش فيه مريد لم يبعده عن أصدقائه، أصحاب القضية والانتفاض، فهو قريب جدًا من كنفاني وناجي العلي الذي كتب عن شجاعته ورسوماته القادحة في وجه الظلم الذي وقع على فلسطين، وبكى محمود درويش في غيابه، فصعد إلى الكثير من المنصات بقصائد لها وقع كبير في رثاء درويش، فقد وقف مريد أمام رحيله مدهوشًا وخاشعًا:
“فاكتب.. وتابع كيف ترسم بنتنا دبابة وأمامها ولد
يسدّ طريقها بقميصه وبنظرة العينين
لا تعجب ولا تسرح بعيدًا في خيالك:
إنها قتلته طبعًا هل سمعت طوال هذا العمر عن دبابة تمزح؟!
فاكتب عن البنت التي رسمت لنا دبابة وأمامها ولد
سأترك رسمها يغفو ويصحو في كتابك مثل ذاكرة فهل تسمح؟”.
اليوم بعد رحيل مريد، يبدو الأمر كأنه انفراط الحبة الأخيرة من العقد أو انقضاء الفصل الأخير من الحكاية الجميلة، هو شيء يشبه أن تبقى وحيدًا بلا أصدقاء أمام الجبل الهائل من جيل المثقفين الذي مضى شريط حياتهم بشكل لا يشبهه الحاضر، ولن يشبهه المستقبل.
الجيل المثقف الذي وعى العملية السياسية وقدم معطياتها بشكل آخر من حرية الرأي والمعنى، وفهم سلطة الحياة على النفس البشرية وعرف كيف يخاتلها بالشعر والكتابة النثرية، كان مريد النَفس الفلسطيني الذي نرى فيه كل أيام النضال والبقاء والأمل بالعودة، فمن للشعر بعد مريد!
ثنائي الحب
في سلسلة غياب مريد عن فلسطين، وانشغاله بالدراسة في القاهرة، كانت تُكتب له حكاية حب لا يشبهها شيء أبدًا. مريد ورضوى، نجمان سطعا في المشهد الثقافي، وفي مشهد العشاق، ونرى ذلك جليًا في شعر مريد وأدب رضوى، إذ سلطت الضوء في كتابها “أثقل من رضوى” على جزء كبير من حياتها الشخصية والثقافية والسياسية، وكانت شعلة هذه الأيام كما تصفها هو وجود مريد قريبًا، يهدهد وجعها وألم مرضها التي ظلت تحاربه يساندها مريد، وألم الكتابة!
يقول مريد: في ظهيرة يوم 22/7 سنة 1970 أصبحنا عائلة، ضحكتها صارت بيتي.
هذا الحب الشفاف الذي حضر في شعر مريد وروايات رضوى وأدبها، يشكل رمزًا فنيًا وأدبيًا معاصرًا وفريدًا، ولم يكن حبًا سهلًا تيسرت له أمور الدنيا، فلم تكن حياة مريد سهلة في مصر (منفاه الأول) إذ سجنته السلطات المصرية ونفته عام 1977 إثر زيارة الرئيس المصري أنور السادات لـ”إسرائيل” وظل منفيًا 17 سنة عن مصر.
تذكر رضوى في سيرتها هذه السنوات المرة التي غذت الحب وكبرته ولم تمته، حيث كانت تعاني رحيله واضطرارها البقاء الوظيفي كأستاذة في جامعة عين شمس وتغربهما عن بعضهما سنوات طويلة.
تقول رضوى عن مريد: “غريب أن أبقى محتفظة بنفس النظرة إلى شخص ما طوال ثلاثين عامًا، أن يمضي الزمن وتمر السنوات وتتبدل المشاهد وتبقى صورته كما قرّت في نفسي في لقاءاتنا الأولى”.
كان اللقاء الأول بينهما الذي امتد حبًا لـ45 عامًا على سلم المكتبة المركزية في جامعة القاهرة، فقد حكت تفاصيل هذا اللقاء بأنها انتبهت له وهي على السلم ويقرأ الشعر لأصدقائه وأعجبت به، كما تذكر أنها في حينها كانت لها محاولات في كتابة الشعر، ومنذ اللحظة التي سمعت فيها مريد، تركت كتابة الشعر!
لقد تكلل حب رضوى ومريد بولادة شاعر مصري فلسطيني، كسب الشعر والأدب وحب الأرض والقضية والعروبة من والديه، هو الشاعر تميم البرغوثي الذي كتب:
“أمي وأبويا التقوا والحر للحرة
شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد
قالولها ده أجنبي، ما يجوزش بالمرة
قالت لهم:
من إمتى كانت رام الله من بلاد برة
يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني
من يعترض ع المحبة لما ربي يريد”.
لم يكن رحيل رضوى عاشور هينًا على مريد، ففي اليوم الذى غادرت فيه كتب مريد على مواقع التواصل الاجتماعي قائلًا: عودي يا ضحكتها! إنه يصرح بغياب وطنه الدائم، ضحكتها، وطنه الذي ضم حزنه الفلسطيني وغربته المصرية التي كان يصفها دائمًا:
” أنت جميلة كوطن محرر.. وأنا متعب كوطن محتل”.
اليوم بغياب مريد البرغوثي، تجتمع روحان عاشقتان، عرفتا معنى الغربة والتشظي كما عرفتا معنى العائلة والبيت، قدمتا للأدب والعروبة الكثير من المعاني السامية والقيم النبيلة.
في الوقت الذي نقول “رحيل” نحن لا نصدق الفكرة، فهل يرحل حلم وشعر ومعنى مريد؟ وهل ترحل أطياف وغرناطة وضحكة رضوى؟