وباء يسمى كورونا جاء من الصين
موطنه ووهان، هكذا أجبت السائلين
لا تقترب واترك مسافة بينك وبين السائرين
احفر قبرك واذهب إلى الموت يا كورونا
تتردد الأبيات السابقة على لسان “العاشقة” أزجيلي كوثر، مُعبرة عما تمر به البلاد تحت ضغط جائحة كورونا، فأهم ما يميز “العاشق” هو تعبيره عما يدور حوله بشعر ذي لغة بسيطة وشعبية مقترنة بموسيقى آلة الساز الوترية.
والعاشق في اللغة التركية هو الشاعر الشعبي الذي يجول بآلة الساز الوترية في الشوارع، سواء في القرى أم المدن، مرددًا شعرًا ارتجاليًا، ومع ذلك فليس كل ذي لسان وساز عاشق، فالشعر الشعبي أو العشق كما هو مصطلح عليه في اللغة التركية، هبة إلهية، يُعتقد أنها تهدى إلى الشاعر في منامه عبر أسلافه الأولين في ثلاثة أيام متتاليات.
يرى العاشق أحلامًا غير عادية يسقيه بها أحد العشاق الأوائل كأسًا من الشراب فيغمى عليه، ثم يستيقظ وفي أذنه صوت الساز، هكذا يتسلم راية العشق ويبدأ بحمل آلته الموسيقية وقول الشعر الغنائي متجولًا، وأول ما يبدأ بغنائه هو ما رآه في الحلم.
فكما ورد في المجلد الثالث من كتاب الشعراء الشعبيين بمدينة سيواس – وهي من أغنى مدن الأناضول بالعشاق – للأديب والباحث في الأدب الشعبي دوغان قايا فإن العاشق علي عزت أوزبك (1885-1969) بدأ قول الشعر في الخامسة والعشرين بعد أن رأى في الحلم على مدار ثلاثة أيام متتالية أماكن وأحداثًا غريبة، وفي اليوم الثالث أطعمه وسقاه أحمد جمال الدين تلميذ حاجي بكتاشي، فاستيقظ وكأنه شخص آخر، وأصبح عاشقًا.
إلى جانب ذلك، هناك أسباب أخرى لتسلم راية العشق مثل التلمذة على يد أحد المعلمين العشاق أو الوراثة أو الترعرع في وسط بيئة منتشر بها هذا النوع من الفن.
أدب العاشق
هناك تياران أساسيان في الأدب الشعبي التركي وهما: الأدب الشعبي الديني، والأدب الشعبي غير الديني، وأدب العاشق ينتمي للتيار الثاني، فهو أدب تجريدي حسي يعني بالملاحم والبطولات والوطن والشعب والقيم الاجتماعية والطبيعة والموت والحب، ويتميز هذا الأدب المنظوم على شكل رباعيات بلغته البسيطة.
اختلف الباحثون في أصل كلمة عاشق فهناك رأي يقول إنها مشتقة من اللغة العربية وهناك من يراها مشتقة من اللغة السندية أقدم لغات بلاد فارس.
إن العشق تقليد ثقافي واجتماعي رائد في الأناضول، فالعاشق يترعرع وسط الشعب متجولًا بين القرى والمدن يغني على آلته بما يجول في خاطره، فتجد كلماته صداها عند الناس، لذلك أصبح هذا النوع من الشعر صوت الشعب الذي يعبر عنه.
لم يكن العاشق يعرف القراءة والكتابة، لكنه فيلسوف بالفطرة، يستقي أشعاره مما يدور حوله في بيئته، ففي أدب العشق تتجلى ثقافة المجتمع ومعتقداته الشعبية السائدة.
ظهر أدب العشق في فترة مبكرة من عمر الدولة العثمانية، لكن لم تصلنا عن تلك الفترة أشعار كافية، بسبب غياب التدوين وقلة التعليم آنذاك
يحترم الشعب العاشق ويعتقد أنه شخص مبارك، ويقدره أينما وجد، في القرى، في المدن، في المقاهي الشعبية، أو حتى داخل الثكنات العسكرية.
وقد استطاع هذا النوع من الفن أن يصمد عبر التاريخ رغم تقلب السنوات وتغير ظروف العصر، فهو سجل مهم لتوثيق ثقافة المجتمع وتمرير قيمه عبر الأجيال.
تنسج قصائد أدب العشق على وزن “الهجا”، وتتنوع مقاطعها بتنوع مواضيعها، فعندما يتناول الشعر الحب والمرأة والطبيعة يسمى “جوزللمة”، وعندما يتعرض لأحداث مأساوية مثل الحروب والزلازل يسمى “داستان”، أما الشعر الذي يتعرض للملاحم والبطولات الشعبية يسمى “قوتشاقلاما”، وإلى جانب ذلك من الأشكال الأخرى.
وفي نهايات القرن السادس عشر، ظهر لون غريب بعض الشيء لهذا النوع من الفن، يسمى “دوداق دايمز” أي “عدم تلامس الشفتين”، فقد كان شعراء هذا النوع يلقون قصائد لا تحتوي على حروف تجعل الشفتين تتلامسان مثل الباء والميم، وكانت توضع إبرة بين شفتي الشاعر، فإذا أخطأ وألقى قصيدة بها هذه الحروف، تجرح الإبرة شفتيه وينزف.
تاريخه وانتشاره
ظهر أدب العشق في فترة مبكرة من عمر الدولة العثمانية، لكن لم تصلنا عن تلك الفترة أشعار كافية، بسبب غياب التدوين وقلة التعليم آنذاك، وشهد القرن السادس عشر اهتمام العشاق بالتدوين، ما جعل أدب العشق ينتشر على نطاق أكبر ويزدهر بقوة، ومع ذلك وصلت إلينا بعض الأشعار من القرن الرابع عشر، حسب الباحث والبروفيسور فخر الدين قيرزأوغلو الذي عثر على مخطوطات بالتركية القديمة لشعر “بايقان”، تروي لنا وقائع احتلال تيمورلنك لمدينة قارص.
يقول المؤرخ محمد فؤاد كوبروللو إن جذور العشق كنوع من الأدب الشعبي تعود إلى أتراك آسيا الوسطى، الذين كانوا يدينون بالشامانية قبل آلاف السنين، وأن طائفة الشعراء الشعبيين وقتها التي كانت تدعى “بخشي” يروون الملاحم والبطولات خلال جولاتهم في الشوارع، على أنغام آلة وترية تُدعى “القوبوز”، وفي وقت لاحق في عصر أتراك الأوغوز، سُمي شعراء “البخشي” بـ”دادة” كما وصلنا من خلال الملحمة الشهيرة “دادة قورقوت”.
وصل إلينا أدب العشق نقلًا عبر تواتر الأسلاف، وعن طريق تدوينه على رقاع “الجونك” وهو دفتر مغلف بالجلد، وفي 2009 أدرجت اليونسكو هذا النوع من الأدب ضمن قائمة التراث الشفهي غير المادي.
أساطير العشق
كور أوغلو واسمه الحقيقي روشان، فقد أبوه بصره بعد مشاجرة مع أحد البكوات، فذهب لأخذ ثأر أبيه، ومن وقتها سمي كور أوغلو، وتعني في اللغة العربية: ابن الأعمى، وقد برع في لون القوتشاقلاما.
عاشق غريب
ينحدر من أرمن الأناضول، وقد قدم المخرج الأرمني سيرجي باراكانوفا فيلمًا عن حياته عام 1988 من إنتاج روسيا باسم “عاشق غريب”، وحصل على العديد من جوائز المهرجانات الدولية.
في القرن السابع عشر، ظهر قاراجا أوغلان، وكان معروفًا ببراعته في لون الجوزللمه، وعاشق عمر وهو أكثر عاشق وصل إنتاجه إلينا.
وفي القرن الثامن عشر، برز نجم الجوهري، وفي القرن التاسع عشر تميز دادا أوغلو وبايبرتلو ذهني وسيراني.
أما عن القرن العشرين فأهمهم عاشق فيصل (1894-1973)، فقد فيصل بصره في سن السابعة حين مرض ولم يكن هناك طبيب في القرية، فقطرت أمه لبنًا في عينيه معتقدة أنه سيشفيه وفي اليوم التالي فقد عينيه، عمل مدرسًا للساز في معهد القرية بجانب التجول، وقد تم تجميع أغانيه في ألبومات بوقت لاحق.
تغنى بأغانيه فنانون كبار مثل جم كاراجا وباريش مانتشو وبولنت أرسوي، وفي عام 2016 تم إنتاج فيلم تركي عن حياته من إخراج بلال بابا أوغلو، كانت حياته مليئة بالأسى ومات بسرطان الرئة.
المرأة في فن العشق
ساهمت النساء أيضًا في مسيرات الشعراء الجوالة، وخاصة في حوض الأناضول، ويقول دوغان قايا الأديب والباحث في الفنون الشعبية، إن في مدينة سيواس فقط توجد أكثر من 20 عاشقة، وفي مدينة تشوكوروفا نحو 14 عاشقة، لكن التجول في الشوارع غير منتشر بسبب التضييق على المرأة، وفي الأغلب يغنين في المجالس المغلقة مثل ليالي الحنة، ومن الفنانات المعاصرات والموجودات بيننا الآن: عاشقة أرظو وسينام باجي.
لم تصلنا أسماء كثيرة لنساء عاشقات من الماضي، ويعود ذلك لكون نسبة تعليم النساء أقل مقارنة بالرجال، فلم يعملن على تدوين شعرهن.
وبحسب الباحثة سفيلاي تشينار لم تكن العاشقات تتغنى في الطبيعة والحب والموت فقط، بل كن مهمومات بالقضايا الاجتماعية وخصوصًا قضايا المرأة.
تقول العاشقة عايشة تشاغليان (1939-2008): “تزدرونني لأنني امرأة وتبقونني بعيدة عنكم، وأنا الأنثى التي أنجبت الذكر وواحدة منكم”.
مهرجان العشاق
عُرف عن الشعراء إقامة أعياد خاصة بهم منذ القرن التاسع عشر، وحافظت الدولة الحديثة على هذا التقليد في مدن الأناضول مثل قارص وعثمانية وأسكي شهير وقونيا حتى الآن.
من الممكن رؤية التشابه بين فن الربابة والعشق، لكن فن العشق أكثر تنظيمًا وله أشكال شعرية معينة، وأهم ما يميزه أنه يقال على لسان العاشق وليس نقلًا عن الملاحم القديمة كما في الربابة، وأنه استطاع البقاء حتى الآن وواكب الظروف المختلفة للحياة والتطور التكنولوجي بعكس فن الربابة الذي يوشك على الاندثار.