“مطلبنا الحرية”، شعار رفعه ثائر ليبي بـ2011، ثم ضجت به وسائل الإعلام وصار العنوان الأبرز للثورة والهدف الأوضح لانتفاضة 17 فبراير/شباط، ولن نسأل كيف لامس شعبًا بأكمله أو معظمه إذا علمنا أن ليبيا القذافي سجن بحجم بلد، وها هو عقدٌ عبرته الثورة الليبية، ومعركتها مستمرة نحو أهدافها: الحرية أولها، والأمن للجميع، والمعيشة الكريمة طبعًا، والمدنية أيضًا، والدستور قطعًا، والتداول السلمي كذلك، وفق إعلان قادتها حينها، فأيٌ من ذلك تحقق: كله أو جزؤه؟ وأين وصلت ليبيا فبراير؟
لن نعود للقيود
للحرية مهر الليبيون دماءهم ضد الاحتلال 1911، ولها هتفوا سنوات منذ الاستقلال 1951، ورددوا بحرارة في نشيدهم الوطني: “لن نعود للقيود قد تحررنا وحررنا الوطن”، ثم انتعشوا بالنفط مع اكتشافه 1958 ومنذ إنتاجه 1961، تحت حكم ملكي، وفي 1969 انقلبت الدولة بانقلاب معمر القذافي.
نعم، عاد الليبيون للقيود، فالقذافي نصب نفسه الرجل الأوحد، ولك في الصباحات المدرسية أن تسمع يوميًا: “زيد تحدى زيد، يا الصقر الوحيد”، ويدرس فكره بمعظم المراحل التعليمية، ولا اسم يعلو اسمه، هو “ليس رئيسًا للبلاد، وإنما قائد الثورة فقط” وفق تعبيره، (وحل أنت هذا اللغز).
وقد أنشأ ذلك العقيد شكل حكم معقد لا شبيه له، فهو نظام على مقاس “الصقر الوحيد”، يعطيه كل الصلاحيات ويحرم المجالس النيابية، فالتمثيل تدجيل والاستفتاء أيضًا، ويروج للمحكومين أن السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب، والواقع نسخة مختلفة تمامًا، نسخةٌ نصبته حاكمًا لم يتزحزح 42 عامًا حتى 2011، وهي المدة الرئاسية الأطول في قارة إفريقيا كلها.
التحول الديمقراطي
قاد ثورة ليبيا مجلسٌ سمى نفسه الانتقالي، وأشهر في أغسطس/آب من عام الثورة 2011 “الإعلان الدستوري المؤقت” لحين صياغة آخر دائم وعرضه للاستفتاء – والحديث هنا عن دستور ولو مؤقت إنجازٌ في بلد عاش دونه عقودًا، وسنتطرق لهذا لاحقًا – وفي مواده بنودٌ لتنظيم الانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات، وذلك هدف ظل بعيد المنال في عهد القذافي.
وفعلا، في 7 من يوليو/تموز 2012 سجلت ثورة فبراير أقوى أهدافها، وعرف الليبيون صناديق الاقتراع، وانتخب 1.7 مليون (61% من المسجلين) سلطة تشريعية مؤقتة للمرحلة الانتقالية، تحت اسم المؤتمر الوطني، ليحل محل المجلس الانتقالي المشرف حينها على الاستحقاق رفقة مفوضية الانتخابات، وقد شهد المراقبون الدوليون بنزاهتها، رغم انقضاء أكثر من ستة عقود على آخر انتخابات تشريعية ليبية.
وبعد عامين في 20 من فبراير/شباط، انتخب نصف مليون (47% من المسجلين) أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، وهي 60 مقعدًا موزعة على ثلاث مناطق انتخابية مع ستة مقاعد للنساء وللمكونات الثقافية (التبو والطوارق والأمازيغ الرافضين حاليًّا لمسودة الدستور والاستفتاء عليه)، وفي العام نفسه بيونيو/حزيران توجه أكثر من نصف مليون (41% من المسجلين) لانتخاب 200 عضو لمجلس نواب ليحل محل المؤتمر الوطني.
أحداث كثيرة مرت منذئذ، وانقسم كل شي: حكومتان وبرلمانان ومعركة ضد انقلابيين ووساطة أممية جمعت أطراف الشرق والغرب، تحت حكومة وفاق وطني، ثم حرب أخرى على طرابلس، انتهت بهزيمة أصحابها، وأخيرًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أطلقت البعثة الأممية مسارًا سياسيًا يجمع ممثلين من مجلسي النواب (شرق) والأعلى للدولة بالغرب (البرلمان السابق ومعظم أعضائه أعضاء المؤتمر الوطني وصفته استشارية) ومستقلين يمثلون مكونات ليبيا ومناطقها، ومجموعهم 75 عضوًا تحت اسم منتدى الحوار.
بعد فبراير/شباط تنفس الشعب، وتحرر من القبضة البوليسية الساحقة، وتلاشت كل الأسماء المذكورة، وباتت هناك عقبة احتواء المسلحين الثوار
خلص المنتدى المذكور إلى خريطة طريق وترشيح حكومة مؤقتة موحدة، تمهد إلى عقد انتخابات رئاسية برلمانية في ديسمبر/أيلول 2021، والخروج إلى مرحلة دائمة عوضًا عن المؤقتة، وبطريقة غير تقليدية انتخب المشاركون بـ5 من فبراير/شباط 2021 ثلاثة أعضاء لرئاسي ورئيس للحكومة، والآن ربما لنا أن نقول إن ليبيا فبراير قاتلت بشراسة – كما سيتضح ذلك لاحقًا أكثر – أمام الثورة المضادة لإرساء التداول السلمي والحكم وفق اختيار الشعب، وقد قطعت نحو هذا الهدف ربما ثلثي المسافة.
المدنية ضد العسكرية
انقلاب عسكري أواخر الستينيات، ثم حكم بوليسي حتى 2011، وفي أثناء هذا الكابوس الليبي هناك دستور يطالبك بالإيمان بأفكار مؤلفه (القذافي)، فإما اعتناق الكتاب الأخضر وإما فالخيانة والإعدام، والتهم كثيرة: عميل لقوى الاستعمار أو للرجعية أو تابع للإمبريالية.
اختنق الشعب وكادت الحرية آنذاك تلفظ أنفاسها، وقد فعلت شيئًا فشيئًا أمام مجندين يظهرون مرارًا بأوصاف مختلفة وبأسماء كثيرة والهدف واحد: قوى الثورة وهيئة أمن الجماهيرية والحرس الجمهوري والأمن الداخلي واللجان الثورية المؤسسة عام 1979، التي لاحقًا بات لها معسكرات تدريب، وتحول بعض منتسبيها تحت قادتها لمليشيات مسلحة، غايتهم قمع المعارضين بلا هوادة، والترويج لاعتناق أفكار القذافي – وما أغربها – وسيأتي ذكرها لاحقًا.
انقلاب 1969 قاده القذافي برتبة ملازم مع نظرائه الضباط، وانتهج لاحقًا سياسة أنهكت جيش البلاد، فاستنزفه في حروبه ضد تشاد 1078-1987 وأيضًا في أوغندا 1971 حتى تلاشى، وناب مكان الجيش كتائب أمنية، ككتيبة الفضيل ببنغازي وحمزة بمصراتة والمقريف في طرابلس والساعدي بسرت، وغيرها ومعظمها دافعت عن سقوط القذافي عند اندلاع فبراير، فهذا هدف إنشائها أساسًا ولا علاقة لها بالجيش.
بعد فبراير/شباط تنفس الشعب، وتحرر من القبضة البوليسية الساحقة، وتلاشت كل الأسماء المذكورة، وباتت هناك عقبة احتواء المسلحين الثوار وإدماجهم تحت السلطات المدنية، وفعلًا وضعت آليات لذلك، وبدأت البلاد تسير ببطء نحوها، وشهدت ليبيا في ثاني أعوام الثورة أزهي فتراتها مقارنة بما سبقها وما لحقها، ثم بـ2013 كدرتها عرقلة مسلحة لإنتاج النفط، وفي العام الموالي قرعت إرهاصات الثورة المضادة طبولها.
متعهد الانقلابات يتحرك
في 14 من فبراير/شباط أعلن شريك القذافي في انقلاب الستينيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إيقاف عمل المؤتمر الوطني وحكومته في طرابلس وتجميد الإعلان الدستوري، بحجة قصور هذه السلطة في إدارة البلاد وتردي الأوضاع، وأشهر ذلك على لسان ما سماه الجيش الليبي، في خطاب تليفزيوني بثته حينها “العربية”، وزعم آنذاك أن “ليس هذا التحرك انقلابًا عسكريًا ولا مدخلًا لإقامة حكم عسكري”، وكاد المريب أن يقول: خذوني، ولم تتجاوز كلمات حفتر الشاشة، وبعد أربعة أيام خرجت كتيبتان مواليتان له (الصواعق والقعقاع) بالعاصمة وأمهلت البرلمان 72 ساعة لتسليم السلطة.
عام 2014 قصفت الإمارت ومصر قوات فجر ليبيا في أول تدخل صريح ربما لصالح وكلائهم على الأرض ضد ثورة فبراير
عاد حفتر إلى عاصمة الشرق بنغازي، وبدأ مشروعه الانقلابي بـ16 مايو/أيار وأطلق عليه عملية الكرامة، وحجته هذه المرة وقف محاربة الإرهاب، بعدما فشل بطرابلس، وهناك بقيت أذرعه تتحرك، فبعد يومين من حملته بالشرق هاجمت كتيبتا الصواعق والقعقاع المؤتمر الوطني بالعاصمة مجددًا وأطلقت الرصاص وأصابت عددًا من أعضائه واقتحمت عناصر تابعة له قاعة الاجتماع بالمؤتمر وتبنى لاحقًا متحدثه الحادثة وأعلن تجميد المؤتمر مجددًا، فأصدر رئيسه أوامر لكتائب الدروع بحماية العاصمة، وانطلقت عملية تحت اسم فجر ليبيا لمحاربة انقلابيي حفتر بطرابلس أي الصواعق والقعقاع.
الثورة المضادة تزيح لثامها
حينها (2014) قصفت الإمارت ومصر قوات فجر ليبيا في أول تدخل صريح ربما لصالح وكلائهم على الأرض ضد ثورة فبراير، كما وثقت نيويورك تايمز، ثم لاحقًا بشهادة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر وصريح قبل أن تتراجع وتخفف من هذه الاتهامات، وحسمت المعركة لصالح الدروع ضد أذرع حفتر وانتقلت إلى الضواحي ضد جيش القبائل ومكونه من قبيلة ورشفانة، ويصم في منتسبيه ومنتسبي الصواعق والقعقاع من اللواء 32 معزز التابع لخميس ابن القذافي.
وتدخلت الوساطة الأممية لاحقًا بعد حكم المحكمة ببطلان الانتخابات ومجلس النواب المترتب عليها، وعاد المؤتمر للانعقاد، وصار لدينا برلمانان وحكومتان بسلطة الواقع شرقًا وغربًا، وتواصلت الوساطة الأممية بالخصوص أواخر 2015 إلى حكومة (ثالثة) تجمع الأطراف ومقرها طرابلس باسم الوفاق الوطني، مقابل مجلس النواب بالشرق كأعلى سلطة تشريعية، ومجلس الدولة بالغرب كسلطة استشارية عليا.
ووصلت الحكومة إلى طرابلس وباشرت مهامها، وبقيت حكومة الإنقاذ رافضة والحكومة المؤقتة أيضًا، وفي الأثناء حفتر مستمر في معركته ببنغازي، وبقي فيها 3 سنوات، حتى 2017، ثم في العام الموالي حاصر درنة وسيطر عليها، ومطلع 2019 توجه إلى الجنوب وسيطر على مدنة، وفي 4 من أبريل/نيسان أعلن الهجوم على العاصمة.
ملحمة ضد العدوان
صلت طرابلس على جنازة مشروع حفتر، واستماتت في منع آخر حلقة من فصوله، وبقيت قوات بركان الغضب تقاوم مليشياته المدعومة من الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا وروسيا، ووفق التقارير الأممية فإن في صفوفها مرتزقة سودانيين وتشاديين وروس وسوريين، ورغم كل ذلك فشل حفتر وإن كان دخل جنوب العاصمة فعلًا، غير أن تحالف الحكومة مع تركيا قلب الموازين.
تدخلت تركيا بموجب اتفاقية عسكرية وبحرية، وبقيت المقاومة ضد حفتر صامدة، وفي مطلع 2020 تقررت هدنة وخرقها هو مرارًا وتكرارًا وأكد نيته الحقيقية، فأعلنت الحكومة عملية اسمها عاصفة السلام بدعم من أنقرة وفي أبريل/نيسان حررت مدن الساحل وهي ستة ثم بمايو/أسار استعادت قاعدة إستراتيجية وهي الوطينة وفي يونيو/حزيران حررت طرابلس وترهونة وكامل المنطقة الغربية، وقبلها طلب حفتر الهدنة ورفضت، ثم صار الطريق سالكًا أمام البعثة الأممية وفعلًا جمعت الأطراف كما أشرنا وخلصت إلى خريطة طريق وانتخبت سطلة مؤقتة مهمتها إجراء الانتخابات ووضع قاعدته الدستورية.
وفي المجمل فإن ليبيا قطعت نحو ثلث الطريق إلى دولة مدنية وقاتلت من أجلها وضد الاستبداد بالسلطة، وما زلت مناطق الشرق تحت قبضة عسكرية، ومعالمها كثيرة أبرزها تنحية عمداء البلديات المنتخبين ووضع عسكريين مكانهم وأيضًا الجنوب يرزح في شق غير يسير تحت النفوذ العسكري.
مأزق الدستور
دستور ليبيا كان شرط استقلالها بـ1951، وهو الأول بعد الحرب، والوثيقة الوحيدة حينها لترسيخ حقوق المواطن وإرساء الدولة، وأوقفه معمر بانقلابه، ثم جاء الكتاب الأخضر دستورًا برتبة رسالة سماوية وفق سلوك صاحبه، والمعرفة الجيدة به يطلق عليها “الفقه الثوري”، وأتباعه مطالبون بالترويج له والتبشير بعصر الجماهير، واعتناق مقولاته الغريبة فـ”البيت لساكنه” ولو كان مستأجرًا، و”السيارة لمن يقودها” أيًا يكن، و”الأرض ليست ملكًا لأحد”، و”التمثيل تدجيل” و”لا نيابة عن الشعب” والشعب يحكم نفسه بنفسه عبر الديمقراطية المباشرة، كيف؟! إيييه تلك قصة طولها 40 عامًا.
عام 2017 أنهت هيئة الصياغة المنتخبة مهمتها، ورفض مكون التبو والأمازيغ مسودته، ثم بقيت مهمة الاستفتاء
تعاقبت على ليبيا المراحل الانتقالية بعد ثورة فبراير/شباط 2011، منذ إعلان المجلس الانتقالي آنذاك “إعلانًا دستوريًا مؤقتًا”، كما أسلفنا، وعمومًا كان الدستور أحد أزمات المؤتمر الوطني في 2014، وأحد أسباب السخط تجاهه بوقت ما، فهو لم يختر هيئة لصياغته في أول ثلاثين يومًا من انعقاده وفق المقرر بالإعلان الدستوري، بل حتى طيلة عامين، ومع احتقان الشارع قرر عامئذ انتخابات مبكرة، وكلف لجنة قانونية لتقديم مقترح لانتخاب مجلس نواب، وقد تقدمت به للمؤتمر في فبراير/شباط فسميت لجنة فبراير، وأدرج تعديلها في الإعلان الدستوري، وترك للناس مهمة انتخاب هيئة لصياغة مشروع الدستور، وقد فعلوا، ثم انتخب مجلس النواب في يونيو/حزيران.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2014 قضت المحكمة العليا في طرابلس بعدم دستورية الفقرة 11 من المادة 30 من الإعلان الدستوري أي تعديلات لجنة فبراير، وكل الآثار المترتبة عليه أي الانتخابات والبرلمان (كون الجلسة المقرة للتعديل لم تستوف نصاب الأغلبية حسب محضر الجلسة).
مأزق الدستور كان يمكن تلافيه لو فعل دستور الاستقلال، ولعله كان صالحًا لهذا الدور، فقد استغرقت حينها صياغته سنتين، وربما في أبعد تقدير كان يمكن تعديله، بدل ترحيل كل مرحلة انتقالية إلى شبيهتها ما دام هو شرط لمرحلة دائمة.
عمومًا بـ2017 أنهت هيئة الصياغة المنتخبة مهمتها، ورفض مكون التبو والأمازيغ مسودته، ثم بقيت مهمة الاستفتاء، وتأخرت لأسباب تفهم من السرد السابق، فالشرق منشغل بحرب حفتر أربع سنوات، ثم مغامراته بالجنوب وبعدها البلاد كلها أدخلها اللواء المتقاعد في حرب لمدة 14 شهرًا، وبعد هزيمته تضمنت التسويات مسارًا دستوريًا تحتضنه مصر حاليًّا ويضم فردين من مجلس النواب والأعلى للدولة، خلص إلى طرح مسودة الدستور للاستفتاء الشعبي، ووضع قاعدة دستورية للتوجه إلى الانتخابات بديسمبر/كانون الأول 2014 في حال رفض الدستور مرتين، والمجمل بهذا المحور أن ليبيا فبراير قطعت شوطًا طويلًا في هذا المسار وإن كان إتمامه قبل الانتخابات محل شك تسرب حتى لترتيبات الوفدين بالقاهرة.
الأمن والحريات والمعيشة
حشد القذافي لأفكاره وأقحم كل المؤسسات، فمثلًا في أبريل/نيسان 1976 ثار الطلاب ضده، فلم يتردد في شنقهم، وأمام زملائهم، بل في الحرم الجامعي، وأذاع الحدث تليفزيونيًا، وشاهده الليبيون جميعًا، وهذه المراسم تكررت في أعوام لاحقة، وفي حقبة الثمانينيات كانت ليبيا عبارة عن سجن كبير، ووصل القذافي لذروة الطغيان وفق المؤرخ محمد العنزي، وحرم القذافي العمل التجاري ومنع الناس من السفر وصادر الممتلكات والبيوت وتداخلت الحقوق، وفق دستوره الأخضر وجرم الأحزاب وشرع ضدها الإعدام بـ1972، فـ”من تحزب خان”.
واحتقن الشعب، وتعرض القذافي لمحاولة انقلاب بالثمانينات، ثم ظهرت مقاومة مسلحة ضده في ليبيا بالتسعينيات، وتكسدت السجون، وفي 96 قتل نحو 2200 سجين مرة واحدة، وهي القضية الأشهر، أي قضية سجن أبوسليم شرارة الثورة وظهرت تخفيفات لاحقة بعد إيصال الشعب إلى هذه الدرجة من السخط، لكن فات الأوان.
في 2011، يتجمع كل سبت ذوو سجناء “أبوسليم”، ويقفون أمام المحكمة ببنغازي (شرق)، ثم فجأة اختفى محامي القضية، فخرج أهالي الضحايا منديين، وتزامن الحراك مع دعوات بالسوشيال ميديا، وتفاقم الوضع المحتقن أساسًا وانضمت مدن أخرى بالشرق، وفي أوج الربيع العربي انفجرت الثورة الليبية، وسقطت بنغازي بأربعة أيام وقمع النظام بالرصاص فرد المتظاهرون بلغته، وتحولت إلى معارك مسلحة، وتدخل مجلس الأمن لصالح الثوار، واصطف حلف الناتو معهم، وستة أشهر وتحررت طرابلس، ثم بأكتوبر/تشرين الأول قبض على القذافي الهارب لسرت وقتل، وقبله طوت المواجهات بين كتائبه ومسلحي الثوار مئات الأرواح، وأضاف أبناء فبراير إلى هتافاتهم: “دم الشهداء ما يمشيش هباء”، وعدًا ووفاءً.
عادت وتشكلت الأحزاب، وبالنظر لتشكيلة المؤتمر الوطني تجد غالبية المقاعد لتحالف القوى الوطنية (العلماني) ثم يليه حزب العدالة والبناء (الإخواني) والجبهة الوطنية للإنقاذ (أكبر معارضات القذافي) والتيار الوطني الوسطي وغيرها، وأيضًا بات لكل الواجهات السياسية والحزبية واجهات إعلامية بعدما كان الإعلام أحاديًا في مدار القذافي، وباتت حرية التعبير أرحب.
ومع الأحداث التي سقناها تضاءلت الحريات وتقلصت على حجم مدنية الدولة وعسكريتها، فبينما هي محدودة جدًا بالشرق تحت سيطرة حفتر، فإنها معقولة في الغرب وقس عليها الأوضاع الأمنية التي لا تقارن بين النموذج العسكري هناك الذي يعود إلى مربع شبيه بزمن القذافي مقابل المدني بالغرب الذي يقترب كثيرًا لأهداف فبراير.
“ليبيا الأكثر انتعاشًا بين اقتصادات الربيع العربي”، هذا في 2012، وأما اليوم فإنه هناك رأي آخر تطرحه طوابير البنزين وغلاء الأسعار وتأخر السيولة وانقطاعات الكهرباء وهشاشة الوضع الصحي ومشاكل النفايات، ولا داعي لشرح الأسباب فهي ظاهرة وفق السرد السابق وقد أوجع الاقتصاد مرتين بإقفال المورد الوحيد النفط بـ2013 ثم بـ2020 على يد حفتر.
وإن كان السرد الماضي يظهر من وراء هذه الأزمات، ويشير بوضوح إلى الثورة المضادة، فإن الدليل الأبرز هو وكيلهم على الأرض حفتر، وارتباط اسمه بمعظم الأزمات: الانقلاب على المؤتمر ومعركة فجر ليبيا المضادة 2014 والحرب ببنغازي 2014-2017 ثم درنة 2018، والجنوب 2019، وبعده الحرب على طرابلس 14 شهرًا حتى هزيمته بيونيو/حزيران 2020.
وهذه الهزيمة قلصت طموح حفتر إلى حد الرضا بتقاسم السلطة مع حكومة الوفاق وحولته من رقم صعب إلى شريك على قدم المساواة، وهذا أحل المفاوضات محل الاشتباكات، وأخذت بوادر من انفراج الأزمة تلوح وهي مرتبطة أيضًا مع تحسن تدريجي بطيء للأحوال المعيشية والسير خطوات نحو ليبيا فبراير التي شهدت معارك متعبة من أجلها، وتبقى معظم المسارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية رهين نتائج الأيام المقبلة.