في الـ17 من فبراير/شباط 2011 خرج المئات من الشباب في مدينة بنغازي الساحلية يطالبون بدولة مدنية ديمقراطية وإسقاط نظام معمر القذافي، وبعدها بأيام قليلة تمدد الحراك ليشمل العديد من المناطق الليبية فيما رفع المحتجون شعارًا واحدًا “رحيل قائد ثورة الفاتح”.
ثمانية أشهر استمرت فيها الاحتجاجات وسط تقليل وتشكيك من السلطات الليبية في قدراتها على إحداث أي تغير ملموس على الأرض “ليبيا ليست مثل مصر وتونس” حتى وصلت إلى مرحلة الانفجار الكبير في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، حين لقى القذافي مصرعه على أيدي بعض الغاضبين.
توقع الكثيرون أنه بموت القذافي الذي جثم على صدور الليبيين قرابة 4 عقود كاملة، ستتحقق أهداف الثورة وتُلبى مطالبها المرفوعة، لكن – كما هو حال الجارة مصر – جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ دخلت البلاد في أنفاق تلو الأنفاق من الظلام والضبابية مدفوعة بلعنتي النفط والسلاح.
حالة من الفوضى والانقسام والاقتتال الدائم بين معسكري النزاع، الشرقي والغربي، فرضت نفسها على المشهد، غذتها التدخلات الخارجية والأجندات الأجنبية الساعية إلى سرقة حلم الثوار في بناء دولة عفية، والسعي لإبقاء الوضع على ما هو عليه لتحقيق أهداف وأطماع متباينة، ما بين سياسية واقتصادية وعسكرية.
عشرة أعوام كاملة مضت على ثورة الـ17 من فبراير/شباط، حلم وُلد مشوهًا بفعل فاعل، طفولة مشردة عاشتها الثورة طيلة السنوات الماضية، انحدار على المستويات كافة، إجهاض لكل محاولات النهوض، تفتيت متواصل للخريطة السياسية، سرقة ونهب لموارد البلاد، تحول البلد النفطي إلى قصعة مستباحة لأصحاب الأطماع في الشرق والغرب على حد سواء.. والليبيون وحدهم من يدفع الثمن.
ورغم حالة اليأس التي خيمت على ربوع ليبيا، من أقصاها إلى أقصاها، فإن الأمل ما زال ينبض في رحم الثورة، لتعود أحلام البقاء على قيد الحياة فارضة نفسها بقوة، وذلك في ضوء المتغيرات والمستجدات التي شهدتها الساحة خلال الأيام الماضية، التي أضفت حالة من الارتياح على المتابعين لهذا الملف.. فهل آن الأوان لأن يجني الليبيون ثمار ثورتهم رغم مرور كل هذا الوقت؟
10 سنوات من الأخطاء المشتركة
ما وصلت إليه البلاد اليوم من انهيار على كل المستويات كان نتاجًا للأخطاء التي وقعت فيها الأطراف كافة بلا استثناء، فبعد نجاح الثوار في الإطاحة بالقذافي بعد 8 أشهر من القتال، إذ بهم يسقطون في فخ التجاذبات، البداية حين رفضوا تسليم أسلحتهم والعودة إلى حياتهم الطبيعية مرة أخرى، مصممين على مواصلة القتال.
ورغم ذلك أجريت الانتخابات النيابية في أغسطس/آب 2012 كان نتيجتها تشكيل المؤتمر الوطني العام (البرلمان)، الأمر الذي بعث الأمل في نفوس الثوار في هذا الوقت، لكن سرعان ما تغيرت الصورة بشكل كبير مع بروز اللواء متقاعد خليفة حفتر، الذي كان من أبرز نتائجه بطلان الانتخابات بقرار من المحكمة العليا في سبتمبر/أيلول 2014.
ومنذ هذا الوقت دخلت ليبيا في نفق الانقسامات السياسية والعسكرية البغيضة، حيث أعلن حفتر (الذي اشترك في انقلاب القذافي عام 1969 وقاد أغلب حروبه في الثمانينيات من القرن الماضي) بدء “معركة الكرامة” للسيطرة على طرابلس، وما كان له أن يقوم بذلك دون دعم مطلق من بعض القوى الإقليمية صاحبة الأجندات.
وقد أدخلت سياسات حفتر – الموجهة بكاملها من الخارج – البلاد إلى أتون الانقسام السياسي ومن ثم العسكري والاقتصادي، بين برلمانين وحكومتين، الأمر الذي أعاد ليبيا إلى وضعية أكثر بؤسًا مما كانت عليه قبل القذافي، وتحول حفتر إلى أداة لتنفيذ أجندات خارجية بأيادي ليبية، وكان على مقربة من تحقيقها لولا التدخل التركي الذي أجهض تلك المخططات بصورة كاملة.
بصيص من الأمل
يحتفل الليبيون بذكرى ثورتهم هذا العام في ظل عدد من المتغيرات الإيجابية التي أظلت المشهد السياسي، ويعول عليها البعض في تحريك المياه الراكدة في مستنقع الواقع اليابس، فبعد سنوات من التناطح والاحتراب، ها هي حكومة موحدة جديدة تجمع الليبيين للمرة الأولى منذ عشر سنوات على مائدة واحدة.
استطاعت الأطراف الليبية المشاركة في ملتقى الحوار السياسي الذي عقد في جنيف، برعاية الأمم المتحدة، الأسبوع الأول من هذا الشهر، في اختيار سلطة تنفيذية، يكون فيها محمد المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي، وعبد الحميد دبيبة رئيسًا للوزراء، وتضم القائمة أيضًا عضوي المجلس موسى الكوني وعبد الله حسين اللافي، لإدارة الساحة بعد شهور مضنية من الحوارات والمفاوضات.
فازت قائمة المنفي ودبيبة بـ39 صوتًا من أصل 73، مقابل 34 صوتًا لمنافسيهما رئيس برلمان الشرق عقيلة صالح ووزير الداخلية المقيم في الغرب فتحي باشاغا، لمنصب رئيس الوزراء، حيث شارك في التصويت 73 عضوًا، في حين امتنعت إلهام السعودي عن التصويت، وغاب أحد الأعضاء للوفاة.
وبحسب ما تم الاتفاق عليه في الملتقى، على رئيس الحكومة المختارة، تشكيل حكومته خلال فترة لا تتجاوز 21 يومًا، ثم يعرضها على البرلمان (مجلس النواب) لنيل الثقة، وفي حال تعذر ذلك، سيتم عرض التشكيل الحكومي على أعضاء ملتقى الحوار من جديد ومنحها الثقة، ضمانًا لعدم المماطلة من البرلمان في منح الثقة.
ومن المقرر أن تتولى تلك القائمة إدارة شؤون البلاد لفترة مؤقتة، حتى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2021، في تطور لاقى ترحيبًا داخليًا ودوليًا كبيرًا، نظرًا لما يمكن أن يترتب عليه من إعادة الاستقرار النسبي للبلاد ووقف حالة الحرب الممتدة منذ سنوات.
تحديات وعراقيل
تواجه الحكومة الجديدة العديد من التحديات التي تثير القلق والمخاوف بشأن إمكانية أداء دورها المنوط لفرض الاستقرار الداخلي، منها قدرتها على خلق التوازن والتمثيل القبلي والمناطقي، وهو التحدي الذي سيكون للضغوط الإقليمية دور محوري في تغذيته أو القضاء عليه.
المحلل السياسي الليبي فرج التكبالي، حذر من الانصياع للضغوط التي من المتوقع أن تتعرض لها الحكومة الجديدة عند تشكيلها، حيث ستحاول كل مدينة وقبيلة ليبية الدفع بمرشحها الوزاري، لافتًا إلى أن الرضوخ لتلك الضغوط سيوقعها في “فخ المحاصصة”، مؤكدًا ضرورة تجنب هذا الخيار نظرًا لتداعياته الكارثية.
التكبالي في حديثه مع وكالة “شينخوا“الصينية، يرى أن الحل الأمثل يكمن في “حكومة مصغرة ومشكلة من الكفاءات، وهنا يُمكن لكل دولة متداخلة في الشأن الليبي ممارسة ضغوطها على الإقليم الجغرافي الذي تمتلك فيه تأثير التدخل بفعالية، بممارسة اتصالاتها على الفاعلين على الأرض من سياسيين وحكماء وشيوخ قبائل، وإقناعهم بأن الحكومة مؤقتة ومهمتها واحدة وهى الوصول بليبيا للانتخابات وفق الخريطة الدولية”.
فيما ذهبت الأكاديمية إيمان جلال، وهي أستاذة بإحدى الجامعات الليبية، إلى أن “الحكومة عمرها قصير 10 أشهر تقريبًا، وحتى يمكنها العمل دون ضغوط من طرف سياسي أو عسكري يجب أن تحظى بدعم دولي أكبر، وأن يتم التلويح بالعقوبات ضد أي طرف داخل ليبيا قد يستهدفها، في تلك الحالة سيكون أمام الحكومة ثقة أكبر وتشعر بأن لا أحد يمكن أن يؤثر على قراراتها”.
وعن عمر تلك الحكومة المقترحة، وإذا كانت مثل المبادرات السابقة التي باءت بالفشل، توقع أستاذ القانون بالجامعات الليبية ميلود الحاج ومضى، استمرارها لفترة طويلة، بفضل رغبة الأطراف الدولية في ذلك، قائلًا: “كل دولة أجنبية لها تأثير مباشر في ليبيا، ضمنت مصالحها وفقًا للاتفاق الذي أفضى لوقف الأعمال العسكرية وتوج بحكومة جديدة، ستدفع نحو الانتخابات العامة التي ينتظرها الجميع لإنهاء الانقسام بشكل كلي”.
أما عن المطلوب شعبيًا لنجاح تلك الجهود أضاف “ينبغي على الجميع التكاتف واعتبار الثورة دافعًا للاستقرار، وذلك عبر دعم السلطة السياسية الجديدة التي ستقود البلاد وفق خريطة الطريق، إلى إجراء انتخابات للمرة الأولى منذ 2014، لتجديد الشرعية السياسية بصورة دائمة، وإنهاء كل الأجسام القائمة التي تتصارع على الشرعية وتدعي قانونية وصحة وجودها”.
هل حان وقت جني الثمار؟
كثير من المتابعين يرون أن مخرجات مؤتمر جنيف وتشكيل حكومة موحدة تجمع الأطراف الليبية كافة يعد انتصارًا للثورة الليبية بعد عشر سنوات من التأرجح، لا سيما أن القائمة الفائزة خرجت جلها من رحم الثورة، وهو ما يبعث على الأمل في أن القادم ربما يحمل الكثير من الأجواء الإيجابية.
الخبراء عقدوا مقارنات تفصيلية بين الدولة التي كانت في عهد القذافي وما آلت إليه اليوم، حيث ذهبوا إلى أنه رغم الثراء النفطي التي كانت تتمتع به البلاد قبل 2011، فإنها كانت تفتقد لمقومات الدولة الحديثة، لا مؤسسات ولا بنية تحتية ولا إستراتيجيات ولا دستور أو مظلة تشريعية مؤهلة.
اليوم وبعد المتغيرات السياسية التي فرضت نفسها من المحتمل أن تضع البلاد أول أقدامها على طريق الدولة المدنية بمفهومها الحديث، رغم الصعاب والتحديات المتوقعة، وهو ما أشار إليه الإعلامي السياسي الليبي سعد العبيدي الذي كشف أن الشعب الليبي ما خرج في 2011 إلا من أجل بناء دولة قوية مغايرة لما أرساه النظام البائد.
العبيدي في تصريحاته لبرنامج “الاتجاه المعاكس” بتاريخ (9 من فبراير/شباط 2021) أشار إلى أن ثورة الـ17 من فبراير/شباط، كانت قد بدأت في تحقيق أهدافها لولا الثورة المضادة التي قادها القذافي بدعم وتمويل إماراتي غربي، لافتًا إلى أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، هو من أفشل اتفاق الصخيرات، خشية على كرسيه، وتنفيذًا لتعليمات أصحاب الأجندات الخارجية.
واعتبر المحلل الليبي أن الأجواء اليوم باتت أكثر ملاءمة للمضي قدمًا في تحقيق أهداف الثورة، لا سيما بعد إرهاصات انهيار ما أسماه “وكر العصابة المتآمر على الشعوب العربية” في إشارة منه إلى الإمارات وانسحابها من الحرب في اليمن بجانب المصالحة الخليجية، واصفًا اتفاق جنيف بأنه “بداية تحقيق الحلم الليبي”.
من السابق لأوانه تقييم اتفاق جنيف وقدرته على حلحلة المشهد المعقد، لا سيما أن كابوس “اتفاق الصخيرات” الذي انهار سريعًا ما زال يفرض نفسه بين الحين والآخر، لكن الدعم الإقليمي والدولي لهذا التحرك المدعوم أمميًا، ربما يزيد من منسوب التفاؤل بعدما وصلت الأمور إلى مرحلة صعبة تستوجب بذل المزيد من الجهود لاحتوائها قبل تفاقم الأوضاع.
اللافت للنظر أنه ومع قدوم الذكرى العاشرة لثورة الـ17 فبراير/شباط ما زال الأمل يخيم على الشارع الليبي رغم بواعث اليأس المتعددة، لتبقى الروح الثورية حاضرة مهما وُضع الجسد تحت أجهزة التنفس الصناعي لسنوات وسنوات، فهل آن الأوان لأن يستعيد الليبيون ثورتهم المسلوبة؟