عشر سنوات مرت على الثورة الليبية، ومع ذلك ما زال مصير الثروة والأموال الهائلة التي كانت بحوزة القذافي المقدرة بمئات المليارات من الدولارات التي هرب بعضها إلى جنوب إفريقيا لغزًا محيرًا، فمتى يستعيد الليبيون ثروة بلادهم المهربة إلى جنوب إفريقيا؟
مسارات مستحدثة
قبل ثورة فبراير/شباط 2011، كان النظام الليبي السابق يهرب بعض الأموال إلى الخارج عبر المؤسسة الليبية للاستثمار التي تتألف من محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار والشركة الليبية للاستثمارات الخارجية والمحفظة الاستثمارية طويلة المدى وشركة الاستثمارات النفطية والصندوق الليبي للاستثمار الداخلي والتنمية.
كانت تلك المحافظ الاستثمارية الضخمة موزعة على عدة دول إفريقية وأوروبية للتغطية على عمليات تهريب أموال الليبيين إلى الخارج بحجة الاستثمار، لكن نظام معمر القذافي كان يهدف إلى الاستفادة منها إن جد طارئ.
ليس هذا فقط، فمع انطلاق ثورة الشباب الليبي في فبراير/شباط، بدأ القذافي عمليات تهريب ضخمة للأموال بعيدًا عن البنوك والمسارات التقليدية، فهو لم يكن يثق بالبنوك الدولية أو الشيكات المصرفية، وكان يجمع الدولارات الأمريكية في أماكن غير معلومة.
استعمل معمر القذافي لتهريب الأموال من ليبيا السيارات وحتى الطائرات، بغية عدم ترك أي أثر، فهو كان يخطط لمواصلة الحرب ضد أبناء شعبه من الخارج بعد أن تأكد أن الحرب ستطول، وأنها تحتاج لكثير من الأموال.
توجد شكوك كبيرة بشأن حماية سلطات جنوب إفريقيا للرجل الذي يملك آخر مفاتيح علب أسرار القذافي
يتبين من هنا أن أموال ليبيا المهربة، تشمل أرصدة مالية تقدر بالمليارات، وسندات وودائع، بالإضافة إلى استراحات وفنادق ضخمة وأراض ويخوت وسيارات فارهة وطائرات خاصة، كلها ملك للشعب الليبي، لكن لا يمكنه الانتفاع بها إلى الآن.
ولا يُعرف إلى حد الآن، حجم الثروة والأموال التي هربها القذافي إلى الخارج، وأوردت مختلف وسائل الإعلام العالمية بعض الأرقام، وقالت إنها تتراوح بين 100 و500 مليار دولار أمريكي، وفي بداية يونيو/حزيران 2017 نشر مجلس الأمن الدولي تقريرًا، أورد فيه قائمة بدول إفريقية قال إنها تورطت في إخفاء وتخزين ثروة القذافي منذ عام 2011.
أشار التقرير إلى أن الثروة الهائلة للقذافي مخبأة في حسابات وصناديق مغلقة عبر إفريقيا، وقال إنها أصبحت هدفًا رئيسيًا للفصائل الليبية المسلحة التي تسعى للحصول على أموال لشراء الأسلحة لتغذية حربها الفوضوية.
جنوب إفريقيا
من بين هذه الدول التي وجه لها القذافي أموال ليبيا، جنوب إفريقيا، حيث أكدت تقارير إعلامية عدة أن الأموال الليبية المهربة إلى هناك تقدر بعشرات المليارات، بالإضافة إلی مئات الأطنان من الذهب وملايين القراريط من الألماس.
في تقرير لها سنة 2014، ذكرت صحيفة “إندبندنت أون سنداي“، أنها اطلعت على وثائق رسمية من حكومة جنوب إفريقيا تؤكد وجود 179 مليار دولار – على أقل تقدير – محتفظ بها بشكل غير قانوني، في مرافق للتخزين في محافظة غوتنغ في جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى مئات الأطنان من الذهب و6 ملايين قيراط من الألماس.
هذه الأموال المنهوبة، تم نقلها إلى جنوب إفريقيا في 62 رحلة على الأقل بين طرابلس ومطارات جنوب إفريقيا، كان طاقم الطائرات من القوات الخاصة السابقة من حقبة الفصل العنصري، ويُقال إن الطاقم قد سحب إقرارات خطية توضح دورهم في محاولة لتجنب التهم الجنائية.
إلى جانب ذلك، ذكرت بعض التقارير أن الأموال جُمعت في حاويات خاصة حال وصولها إلى جنوب إفريقيا ثم نُقلت إلى أماكن مجهولة، كما تم حذف أي معلومات رسمية عن وصول الطائرات الليبية الخاصة من سجلات الطيران المدني.
الكشف عن بعض الأموال
إلى الآن يُجهل مكان أغلب هذه الأموال، خاصة في ظل عدم تجاوب سلطات جنوب إفريقيا مع المساعي الليبية لتتبع أثرها قصد استعادتها في مرحلة قادمة أو إعادة استثمارها هناك لما يخدم مصالح البلدين العضوين في الاتحاد الإفريقي.
قبل سنتين، قالت صحيفة “التايمز” البريطانية إن جزءًا من أموال ليبيا المهربة (23 مليون دولار أمريكي) تم إخفاؤها في قبو رئيس جنوب إفريقيا السابق جاكوب زوما، لافتة إلى أنه تم الكشف عن هذا المبلغ خلال نقله من قبو في منزل زوما في ناكاندلا إلى مملكة إسواتيني، المعروفة سابقًا بسوازيلاند، ويعد هذا المبلغ جزءًا صغيرًا نسبيًا من ملايين القذافي المفقودة.
وسبق أن طلبت السلطات الليبية من رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا المساعدة في استعادة ملايين الدولارات من أموال القذافي التي هربها من بلاده وسلمها إلى رئيس جنوب إفريقيا الأسبق جاكوب زوما قبل وفاته، لكن لا تقدم إلى الآن.
الأموال ما زالت تهرب إلى الآن ويشرف على ذلك مسؤولون في الدولة بالتعاون مع ميليشيات في الداخل وجهات خارجية منها عربية لا تريد الخير لليبيين
يعود اختيار القذافي لجنوب إفريقيا قصد تحويل هذه المبالغ الضخمة، إلى العلاقة الكبيرة التي كانت تجمعه بجاكوب زوما، رئيس جنوب إفريقيا بين عامي 2009 و2018، وتشير بعض التقارير إلى أن زوما هو المسؤول عن قرار الاحتفاظ بالمال الليبي.
يُذكر أن القذافي كانت تجمعه علاقات قوية مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا، وقد ساهم ماديًا في مساندة حملات الحزب في الانتخابات.
خلال الثورة، اعترض زوما على التدخل العسكري الدولي في ليبيا وعرض على القذافي اللجوء في جنوب إفريقيا عندما بدأ نظامه في الانهيار، لكن معمر القذافي رفض العرض وطلب من رئيس جنوب إفريقيا بدلًا من ذلك أن يحفظ له جزءًا من ثروته.
خزنة أسرار القذافي
تذكر بعض التقارير أن الرئيس السابق جاكوب زوما، تهاون عن اعتقال بشير صالح بشير مدير مكتب القذافي ورئيس صندوق استثمار ليبيا، رغم صدور مذكرة إنتربول حمراء بحقه، حيث زعم أن جهات الأمن لم تتمكن من مراقبته أو منع حركته، ما استدعى مساءلته في البرلمان.
ويوصف مدير مكتب القذافي بشير صالح بشير، بأنه “خزنة أسرار” القذافي، وأحد الضالعين في إخفاء كنوزه، وسبق أن تعرض لمحاولة اغتيال في جنوب إفريقيا، ويعيش بشير صالح بشير في جوهانسبرغ منذ هروبه من طرابلس إثر سقوط نظام القذافي عام 2011، حيث هرب أولًا إلى النيجر ثم إلى فرنسا، ومنها إلى جنوب إفريقيا.
عمل بشير صالح بشير لأكثر من 35 عامًا مع القذافي، وكان رئيس مكتب العقيد الخاص منذ 1998، كما أنشأ وأدار محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار، وله علاقات واسعة بالزعماء الأفارقة على وجه الخصوص.
وتشير العديد من التقارير إلى اضطلاع صالح بشير بمهمة تهريب أموال ليبيا نحو جنوب إفريقيا وهو ما يفسر بقاءه هناك إلى الآن، وحماية السلطات له أو حتى المساهمة في الجهود الليبية في استرجاع أموال الشعب المهربة.
توجد شكوك كبيرة بشأن حماية سلطات جنوب إفريقيا للرجل الذي يملك آخر مفاتيح علب أسرار القذافي، فهو يخبئ جانبًا كبيرًا من الأموال الموجودة هناك، التي يسعى العديد من الفاعلين للاستحواذ عليها أو حتى تقاسمها معه مقابل حياته.
ويبدو أن بشير وضع بمعية بعض مسؤولي جنوب إفريقيا، طريقة إخفاء معقدة للأموال بصورة غير مسبوقة، من ذلك أنه لم يتم العثور عليه إلا سنة 2015، وتفيد بعض التقارير أن بشير خزن ما يقرب من مليار دولار من النقد والذهب والأحجار الكريمة في مطار أور تامبو الدولي.
عملية صعبة لاسترجاع الأموال
بالنظر إلى هذه المعطيات يتبين صعوبة استعادة هذه الأموال الطائلة الموجودة في جنوب إفريقيا، فلا أحد يعرف مكانها الحقيقي ولا قيمتها، ما جعل استعادتها شبه مستحيلة إذا لم يتعاون بشير صالح بشير مع سلطات بلاده الحاليّة.
أيضًا تحتاج السلطات الليبية إلى تعاون جدي من سلطات جنوب إفريقيا، حتى تتقدم خطوات في مهمة البحث عن الأموال في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية استرجاعها أو إعادة استثمارها هناك حتى تعود الفائدة للطرفين، لكن في الظروف الحاليّة لا شيء منتظر.
حتى السلطات الليبية غير مهتمة اهتمام جدي باسترجاع هذه الأموال، فالأموال ما زالت تهرب إلى الآن ويشرف على ذلك مسؤولون في الدولة بالتعاون مع ميليشيات في الداخل وجهات خارجية منها عربية.