يستمر الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني (PKK) – المعترف به كمنظمة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – في جنوب شرق تركيا وشمال العراق، في السيطرة على المشهد السياسي، إذ يبدو أن التصعيد الأخير بين الجانبين، على إثر إعدام الكردستاني 13 تركيا في كهف بشمال العراق، سيزيد المسألة الكردية تعقيدًا، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
تأتي هذه الواقعة في إطار عملية عسكرية “المخلب النسر-2” التي شنتها تركيا في منطقة جارا ( نقطة عبور لمقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الحدود التركية) يوم 10 فبراير/ شباط الجاري لتأمين حدودها والعثور على مواطنين خطفوا من قبل “بي كا كا” في حوادث منفصلة بين عامي 2015 و2016، ونُقِلوا طوال السنوات الـ 6 الماضية إلى مناطق مختلفة في شمالي العراق، ولكنهم أعدموا رميًا بالرصاص في الرأس والصدر، بحسب ما ذكره حاكم ولاية ملاطية في جنوب شرق تركيا.
في المقابل، أكدت تركيا أن العملية أسفرت عن مقتل 50 مسلحًا من حزب العمال الكردستاني وإحكام الجيش التركي السيطرة على المنطقة التي كانوا ينشطون فيها وتدمير مخازن ذخيرتهم ومراكز إيوائهم، وذلك باستخدام أكثر من 40 طائرة تابعة لسلاح الجو التركي، منها طائرات مسيرة وطائرات حربية وطائرات وقود، ورغم إصابتها أكثر من 50 هدفًا بدقة، إلا أنها لن تكتفي بذلك، خاصة مع دماء جنودها التي أهدرت غدرًا.
انتقادات خارجية واتهامات داخلية
لم تمر أنباء مقتل الجنود الأتراك مرورًا عاديًا على الشارع التركي المعروف بحساسيته الشديدة وتعاطفه البالغ تجاه الجنود والشهداء، فقد تلقت البلاد الخبر ببالغ الأسى والصدمة، وهو ما ظهر جليًا على وسم “Kahrolsun PKK” والذي يعني بالعربية “اللعنة على حزب العمال الكردستاني”.
ولم يكن موقف القيادات التركية أقل حزمًا، فسرعان ما تعهدت السلطات باتخاذ الإجراءات اللازمة “ضد الأفراد والجماعات التي تمجد وتشجع الإرهاب في الداخل والخارج”، والتزامها “بملاحقة كل إرهابي آخر يختبئ في كهوفهم ومنازلهم الآمنة”، مثلما قال مدير الاتصالات في الرئاسة، فخرالدين ألطون، مضيفًا بأن “انتقامنا سيكون مؤلمًا، عدالتنا ستكون سريعة”، ومنتقدًا “صمت الغرب المطبق” تجاه هجمات “بي كا كا” ضد “أبناء تركيا الحليفة في الناتو والتي ساهمت في مكافحة الإرهاب عالمًيا”.
يضاف إلى ذلك، تعهد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بالانتقام للضحايا، قائلًا إنه سيتم بذل كل الجهود للقبض على مراد كاريلان، رئيس الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني المعروف باسم قوات الدفاع الشعبية (HPG)، و”تقطيعه إلى ألف قطعة”.
رافقت هذه التصريحات اتهامات للاعبين محليين مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وهو حزب مؤيد للأكراد، الذي خاطبه ألطون بقوله: “هناك أسئلة صعبة يجب الإجابة عليها اليوم لاسيما من قبل حزب الشعوب الديمقراطي”، الذي وصفه بـ”الذراع السياسي لمنظمة بي كا كا الإرهابية في تركيا”.
وبالموازاة مع ذلك، خلقت هذه الحادثة ضجة طالت حزب الشعب الجمهوري (CHP)، أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، الذي يُتهم من حين لآخر بعقد تحالفات مع الإرهابين، على خلفية علاقاته مع قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، وهو التعاون الذي دفع 3 نواب إلى الاستقالة من الحزب مؤخرًا، فبحسب البيان الصادر عن الاستقالة الجماعية، فإن الحزب الجمهوري فقد قاعدته “القومية”، ولم يستطع النأي بنفسه عن الإرهاب، كما أنه غيّر منظوره تجاه مبادئ أتاتورك الأساسية.
إذن، ما الخطوة التالية؟
من المرجح أن تؤدي هذه الواقعة إلى قيام أنقرة بمزيد من الضغط على حزب الشعوب الديمقراطي، وكل الجهات التي لديها علاقات أو قنوات اتصال مع الأكراد، فبعد يوم واحد فقط من تطورات العملية العسكرية في شمال العراق، أصدرت محكمة تركية أحكامًا بالسجن، على أربعة موظفين في صحيفة موالية للأكراد، اسمها “Ozgur Gundem”، بتهم تتعلق بالإرهاب.
كما اعتقلت قوات الأمن في شرق تركيا ما مجموعه 12 مشتبهًا بهم بسبب صلات محتملة بمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، وكذلك اعتقلت فرق مكافحة الإرهاب ستة مشتبه بهم آخرين يُزعم أنهم نشروا دعاية لحزب العمال الكردستاني عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهم الأفراد الذين اعتبرهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسؤولين عن مقتل المواطنين الأتراك، بقوله: “كافة وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أجهزة دعائية للمنظمات الإرهابية مسؤولة عن مقتل الأبرياء الـ 13″، داعيًا “كافة الشبان المغرر بهم في صفوف المنظمة الإرهابية إلى الانشقاق عن هؤلاء القتلة المأجورين في أسرع وقت”، مؤكدًا أن “الدولة تعاملت برحمة مع كل مواطن عاد إلى صوابه بعد شعوره بالندم الخالص”.
أما على الصعيد الخارجي الإقليمي، فمن المتوقع أن يأخذ اتفاق الحكومتين التركية والعراقية ضد الجماعات المسلحة حيزًا واسعًا من أولوية الأجندة السياسية، ففي خلال اجتماع مع الرئيس أردوغان في أنقرة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إن بلاده “لن تتسامح مع أي منظمة أو هيكل يهدد أمن تركيا”، وردًا على ذلك قال أردوغان إن “الإرهابيين الانفصاليين ليس لهم مكان في المستقبل في تركيا أو العراق أو سوريا”.
واليوم، عاد أردوغان وأكد على هذا الاتفاق الذي من شأنه “اجتثاث المنظمة الإرهابية من جذورها”، فمنذ فترة طويلة تؤكد تركيا أنها لن تتسامح مع التهديدات التي يتعرض لها أمنها القومي، ودعت المسؤولين العراقيين إلى اتخاذ الخطوات اللازمة للقضاء على الإرهابيين، وسبق أن أشارت إلى أنه إذا لم يتم اتخاذ الخطوات المتوقعة، فلن تتوانى عن استهداف التنظيم، وفي الآونة الأخيرة أيضًا، أعرب وزير الدفاع خلوصي أكار عن استعداد تركيا لتقديم المساعدة للعراق في تطهير المنطقة من الإرهابيين.
ماذا عن موقف الولايات المتحدة؟
قال نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، في بيان إن “الولايات المتحدة تستنكر قتل مواطنين أتراك في كردستان العراق”، وأضاف أنه إذا صحت التقارير التي تشير إلى مسؤولية حزب العمال الكردستاني “فإننا نندد بهذا العمل بأشد العبارات الممكنة”.
لكن هذا التعليق لم يهدئ غضب أنقرة، ولا سيما أن واشنطن أرسلت، في اليوم ذاته، العشرات من المركبات العسكرية التي تحمل مساعدة لقوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني، إلى شمال شرق سوريا.
عدا عن ذلك، فإن أنقرة تدرك أن واشنطن تعتبر “بي كا كا” حليفتها الأهم في مكافحة تنظيم داعش الإرهابي، وهو الموقف الذي من المتوقع أن يزداد وقوةً مع عودة الديمقراطيين إلى سدة الحكم في أمريكا، ووجود داعمي هذه المنظمة داخل الإدارة الأمريكية الجديدة، وهما: لويد أوستن وزير الدفاع، وبريت ماكغورك منسق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمعروف بـ “خصم تركيا”.
إذ يشير تعيين الأول بإشارات مزعجة لأنقرة، ولا سيما أنه أقام علاقات شراكة مع وحدات حماية الشعب في سوريا، أما تعيين الثاني فهو بمثابة تأكيد من أمريكا على استمرار وجودها في سوريا، ودعمها لقسد العمود الفقري لـ”وحدات حماية الشعب الكردية”، فقد سبق أن أبدى اعتراضه الشديد على عملية “نبع السلام” شمال شرق سوريا، ومن المعروف أيضًا أن أنقرة في عام 2017 طالبت بعزله من منصبه كمبعوث التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، بسبب مواقفه تلك.
والأهم من ذلك هو الرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن، بحد ذاته، فهو الذي وضع حجر أساس الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس الأمريكي في عهد أوباما.
وهذا ما يعني أن العلاقات التركية الأمريكية لن تشهد أيامًا صافية وهادئة في الفترة المقبلة، ولا سيما أن أردوغان أشار في كلمته الأخيرة إلى أنه “لم يعد بإمكان أي دولة أو مؤسسة أو كيان أو شخص مسائلة تركيا عن عملياتها في العراق وسوريا بعد مجزرة جارا”، ومخاطبًا الغرب بقوله: “إن كنتم تريدون استمرار علاقات التحالف مع تركيا على صعيد المجتمع الدولي والناتو فعليكم التراجع عن الوقوف بجانب الإرهابيين”.
وهي رسالة واضحة اللهجة إلى الغرب الذي إذا اتبع مسارات مزعجة لأنقرة، فسيؤدي إلى مزيد من التعقيدات والتوترات في الملف الكردي، وفي تلك الحالة قد تحاول إدارة بايدن إقناع أنقرة أو الضغط عليها للعودة إلى طاولة المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، وربما قد يؤدي هذا الخلاف إلى انسداد الآفاق الدبلوماسية بينهما، واللجوء إلى سياسة العقوبات الاقتصادية.