كانت ليبيا -كغيرها من الدول التي مرّ بها قطار الربيع العربي- على رأس قائمة الاغتيالات لدى زعماء الثورة المضادة، الساعين منذ الوهلة الأولى لوأد أي إرادة شعبية صاعدة مهما كانت أنظمة الحكم والأوضاع المعيشية المتردية، للحيلولة دون تمدد كرة النار الثورية لئلا تحرق كراسيهم القابعين عليها لعقود طويلة.
دفع الليبيون ثمنًا باهظًا لتلاعب قادة الثورات المضادة في شؤونهم الداخلية، فأجهضوا حلمهم في بناء دولة ديمقراطية مدنية، وعاثوا في تراب الوطن فسادًا، ينهبون خيراته، ويسيلون دماء أبناءه، وما إن تسلل شعاع الأمل في شارع إلا حاولوا جاهدين إظلامه بشتى السبل.
وأمام هذا العبث بإرادة الشعب الليبي، وبينما كان الانقلابيون يباركون لبعضهم البعض على نجاح مهمتهم في وأد حراك السابع عشر من فبراير/شباط 2011، إذ بموازين اللعبة تتبدل، وتتغير المعادلة، وتتجرع أذرع الثورة المضادة الهزائم، واحدة تلو الأخرى، ليصل الجميع إلى هذا المشهد بعد عشر سنوات من الاقتتال المتواصل، حكومة مختارة تمثل كافة الليبيين، معظمها من رحم الثورة.
فرضت تركيا نفسها كلاعب أساسي في المشهد الليبي منذ الثورة وحتى اليوم، وإن تباينت أدواتها وإستراتيجياتها وفقًا لتطورات كل مرحلة، حيث استطاعت أن تبقي على آمال الثوار على قيد الحياة، بعدما انتصرت لإرادة الشعب ومالت نحو رغبة الجموع، وهو السبب الرئيسي الذي جعلها هدفًا في مرمى العديد من الأنظمة الداعمة للثورات المضادة.
وبعد عشر سنوات كاملة على أول ظاهرة احتجاجية خرجت من بني غازي، ورغم التدخلات الخارجية والأجندات الأجنبية المفروضة على الليبيين بالأمر المباشر، عبر إغراءات المال والسلطة والنفوذ، للعودة بالأوضاع إلى ما قبل 2011، إلا أن أنقرة استطاعت أن تجهض كل تلك المؤامرات.. كيف ذلك؟
مؤامرة حلف الثورات المضادة
لم يعد خافيًا على أحد الدور الذي قامت به – ولا تزال – الإمارات والسعودية وفرنسا لإجهاض الثورات الشعبية ودعم أنظمة الحكم العسكرية، وهو الدور الذي حقق نجاحات كبيرة في بعض الدول مثل مصر تحديدًا، ونسبيًا اليمن، هذا بخلاف المناوشات المتواصلة في تونس.
ويعد النموذج الليبي أحد أبرز النماذج الفجًة على هذا الدور المشبوه لتلك الدول، فمنذ بداية الاحتجاجات الشبابية في المناطق الليبية كانت أبو ظبي والرياض ومعها بعض العواصم الأوروبية على رأس المدينين لهذا الحراك الذي يجسد رغبة شعبية في التخلص من أنظمة الحكم الديكتاتورية.
وكما نجح هذا الحلف في مصر عبر الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في 2013 بعد عام واحد فقط قضاه في الحكم، واستعادة الحكم العسكري مرة أخرى، سعى لتكرار السيناريو ذاته في ليبيا، تلك الدولة ذات الثقل الاقتصادي واللوجستي الكبير نظرًا لموقعها الإستراتيجي الهام.
العديد من الدوافع السياسية والاقتصادية والعسكرية أسالت لعاب محمد بن زايد ورفيقه، محمد بن سلمان، ومعهما إيمانويل ماكرون، ولحق بهم مؤخرًا عبد الفتاح السيسي، نحو التدخل في الشأن الليبي بدعم مناهضة الميليشيات المسلحة وتأييد الجيش الوطني الذي يقوده اللواء متقاعد المنقلب خليفة حفتر.
اتخذت تلك الدول من دعم حفتر ستارًا لأجندات متعددة المسارات، تستهدف تقويض الدولة الليبية وتفريغها من مواردها وثرواتها المعدنية الهائلة، بجانب التحكم في مسار الهجرة غير الشرعية لأوروبا، بخلاف العديد من الاعتبارات الأمنية الأخرى التي تحفظ الأمن القومي لبعض تلك الأنظمة.
لم يكتف الحلف الإماراتي بتقديم الدعم لنظام حفتر الانقلابي فحسب، بل عمد إلى ضرب خطوط إمداد ودعم الثورة، سواء كانت مادية أو إعلامية أو سياسية أو حقوقية، وهو ما انعكس بالفعل على معادلة التوازن بين الطرفين، فبينما يزداد الطرف المناهض للثورة قوة يومًا تلو الأخر، تعاني الثورة ورجالها من انحدار متواصل في الدعم والمؤن والمساندة الدولية والإقليمية.
وفي ظل تلك الوضعية التي كانت تميل فيها الكفة بصورة كبيرة نحو فريق حفتر المدعوم إماراتيًا وسعوديًا ومصريًا، بجانب الدعم اللوجستي فرنسيًا، كان الدخول التركي على خط الأزمة، ودعم المعارضة الثورية وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، كلمة السر في إعادة تشكيل المعادلة مرة أخرى، وهو ما أصاب الفريق الانقلابي بالصدمة التي لم يستفق منها حتى اليوم.
وأسفر هذا التدخل عن خسائر بالجملة تعرض لها جيش حفتر على أيدي الحكومة المعترف بها أمميًا، البداية كانت بالهزيمة النكراء في طرابلس، ثم الأزمات المتلاحقة التي بدأت تواجهه في الشرق، خاصة بعد الإدانات الدولية التي واجهها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد مواطني بلاده، الأمر الذي وضعه وداعميه في مأزق دولي كبير، كان له أثره في التراجع خطوات كبيرة للخلف.
تركيا.. كلمة السر
يمكن استطلاع الموقف التركي من الثورة الليبية من خلال 5 مراحل رئيسية، تكشف حجم التطور في التوجه التركي إزاء الإرداة الشعبية، وكان استطاعت أنقرة أن تقلب الطاولة، وتفرض حالة التوازن في المعادلة، بما يجهض المؤامرة التي قادها حلف الثورات المضادة.
– المرحلة الأولى كانت قبل ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، حيث حزمة من المصالح الاقتصادية والاستثمارية سعى الأتراك للحفاظ عليها داخل ليبيا، إذ فازت الشركات التركية بنصيب الأسد من عقود البناء عام 2010، وعليه كانت معارضة أنقرة لتدخل حلف شمال الأطلسي”الناتو” عسكريًا ضد نظام معمر القذافي بداية الثورة.
– المرحلة الثانية وتمتد من 2011 -2014، وحاولت تركيا خلالها دعم الاستقرار في ليبيا، حفاظًا على مصالحها كذلك، لكنها في الوقت ذاته دعمت إرادة الثوار، وأيدت المطالب الشعبية ببناء دولة مدنية ديمقراطية، محذرة من انزلاق البلاد في أتون الفوضى والحرب الأهلية.
لكن الأمر سرعان ما تغير بصورة لافتة للنظر بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر 2013، والذي كانت به تبعاته على المشهد الليبي، حيث تحولت البلاد إلى ساحة للقوى الإقليمية والدولية، وبدأ ظهور خليفة حفتر وحلف الثورات المضادة الذي كان يدعمه بشتى السبل.. وهنا بدأت الكفة تميل ناحية المعسكر الشرقي على حساب المعارضة الثورية.
– المرحلة الثالثة من 2015-2019، وفي تلك المرحلة دعمت أنقرة الخيار الدبلوماسي لحل الأزمة، حيث أيدت الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقِّع في “الصخيرات”، برعاية أممية، في كانون الأول/ ديسمبر 2015، هذا الاتفاق الذي جاء بحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج.
لم يرق هذا الاتفاق ومخرجاته للدول الداعمة لحفتر، ومن ثم كثفت من جهودها لإفشاله بشتى السبل، وذلك من خلال الدفع بالجنرال المنقلب لإشعال النزاع لمستويات الحرب حين أعلن عن استهدافه طرابلس، ونظرًا لما يمتلكه من قوة عسكرية، ارتأت بعض الدول الرهان عليه لحسم الأمور داخليًا، فيما تصدت له أنقرة بكل حسم.
– المرحلة الرابعة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حين وقعت تركيا مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة الدول الداعمة لحفتر وعلى رأسها مصر والإمارات ومعهما بالطبع فرنسا، حيث هرول هذا الحلف لاتخاذ مواقف مناهضة لهذا الاتفاق عبر إبرام اتفاقيات أخرى مع اليونان وقبرص، رغم ما تحمله من تهديدات للسيادة الوطنية لبعض الدول وحرمانها الكثير من ثرواتها المائية.
وشهدت تلك المرحلة تسارعًا كبيرًا لتعزيز التعاون المشترك بين ليبيا وتركيا لم يشهده البلدان من قبل، حيث وقعا مذكّرة للتعاون الأمني، شملت التدريب العسكري، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، واللوجستيات، والخرائط، والتخطيط العسكري، ونقل الخبرات.
في هذه الأثناء جيًشت ميليشيات حفتر من جهودها للاستيلاء على أجزاء كبيرة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة حكومة الوفاق، الأمر الذي دفع الأخيرة للتقدم بطلب رسمي للحصول على دعم عسكري تركي جوي وبحري وبري، ليأتي رد أنقرة سريعًا على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان، لكن بعد موافقة البرلمان.
المرحلة الخامسة، في الثاني من يناير/كانون الثاني 2020، صدًق البرلمان التركي على مشروع قرار يسمح بإرسال قوات تركية إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق، القرار حظي بتأييد 325 نائبًا، في حين عارضه 184 نائبًا، وهنا تغيرت قواعد اللعبة، حيث كبًد جيش الوفاق المدعوم تركيًا ميليشات حفتر العديد من الخسائر التي وضعته وحلفه في مأزق لا يحسدون عليه، جعلهم في مرمى الانتقادات الدولية، لتتغير قواعد اللعبة تمامًا.
قاد حلف الثورات المضادة حملة دولية لإدانة التدخل التركي في ليبيا، مستخدمًا في ذلك نفوذه المالي والسياسي، فيما استخدمت فرنسا نفوذها الدولي داخل الأروقة الأممية، لكن ما تحقق على الأرض كان مرغمًا للجميع في ظل دخول أمريكا على خط الأزمة لاسيما بعد استدعاء روسيا لدعم حلف حفتر.
وأمام تلك الوضعية لم يجد هذا الحلف إلا الانصياع لمقررات الأمم المتحدة التي تمخضت عن اتفاق جنيف الأخير وتشكيل حكومة موحدة لإدارة شئون البلاد حتى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية نهاية العام الجاري، وهي الخطوة التي اعتبرها البعض هزيمة ساحقة للثورة المضادة ورموزها.
وهكذا وبعد عشر سنوات على مرور ثورة السابع عشر من فبراير/شباط استطاعت تركيا أن تبقي على أمل الثورة الليبية على قيد الحياة بعدما جنبتها سيناريو السقوط المدوي في مستنقع الثورة المضادة كما حدث في مصر، لتحمل الأيام القادمة المزيد من الأمل نحو استعادة الروح الثورية مرة أخرى، وإن كان ذلك يتطلب أدوات وإستراتيجيات مختلفة.. فهل يفعلها الليبيون؟