“التشبيح الإعلامي” مثّل واحدًا من أبرز أدوات القهر التي مارسها نظام بشار الأسد على الانتفاضة الشعبية ضد حكمه، وكان لها وقعها الخاص بين تنويعة أشكال “التشبيح” التي واجهه بها الأسد شعبه، فقد قادت وسال الإعلام الرسمية وشبه الرسمية حملة تشويهية مضادة للانتفاضة والناس، إذ أظهرت خبرة بتلفيق الأكاذيب وتدشين حملات التضليل وصناعة البروباغندا وكأنها مدربة على هذه اللحظات، ولعل السوريون يتذكرون تلك المذيعة التي ظهرت في إحدى نشرات الأخبار تقول عن إحدى مظاهرات دمشق إن “الناس قد خرجوا ليشكروا ربهم على نعمة المطر”.
كان الإعلام الرسمي أيضًا رديفًا لدبابات الجيش والميليشيات في اقتحامهم للمدن، لا بل أكثر من ذلك عندما كانوا شركاءً في المجازر، والمثال الأبرز على ذلك عندما أجرت مراسلة قناة الدنيا ميشلين عازر التابعة للنظام لقاءات مع جرحى في طرقات مدينة داريا وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، حدث ذلك بعد أن ارتكب الشبيحة وعصابات الأسد مجزرة في المدينة راح ضحيتها ما يفوق 900 قتيل وآلاف الجرحى ودمار هائل.
خلال سنوات طويلة لم يكن ذلك الإعلام إلا لسانًا يتحدث بما تمليه عليه السلطة فقط، غير قريب من هموم المجتمع وواقع الشارع الذي كان يعاني دائمًا من أزمات اقتصادية متلاحقة، بل كان وما زال أداةً لتجميل الحاكم وسلطته، لكن الثورة السورية هتفت بأعلى صوتها في المظاهرات “كاذب كاذب كاذب الإعلام السوري كاذب”.
أتاحت الثورة السورية الفرصة للإعلام الحر بالانطلاق وتأسيس منصات كانت في بداية الأمر عبارة عن صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، ليتطور بعد ذلك إلى خدمات متطورة في التليفزيون والإعلام الرقمي والراديو وغير ذلك، منها ما ظل مواظبًا على مهنيته وحياديته ومنها من حاد عن الهدف والطريق مع طول أمد الأزمة.
في تركيا ونتيجة للوجود السوري الكبير، كان لزامًا وجود وسائل إعلام تخدم القضية من جانب ومن جانب آخر تسلط الضوء على المشاكل والواقع والمجتمع السوري في هذه البلاد وبلاد الشتات بشكل عام، من أجل ذلك نشأت عدة وسائل إعلامية خلال السنوات الماضية منها ما صمد أمام عوامل الإغلاق والأفول مثل “تلفزيون سوريا” وقناة “الجسر” وقناة “حلب اليوم” وعشرات المواقع الإعلامية والصحف والوكالات مثل شبكة “بلدي نيوز” وصحيفة “إشراق” ووكالة “قاسيون” للأنباء، وعدة إذاعات مثل “راديو روزنة” و”نسائم” و”فجر”، ومنها ما وجد نفسه خارج الساحة بسبب توقف الدعم والتمويل كقناة “دار الإيمان” و”سوريا الشعب” ومئات التجارب غيرهما، وهذه مجرد أمثلة.
في هذا التقرير نسلط الضوء على تجربة اثنتين من أبرز المؤسسات الإعلامية السورية في تركيا، وهما تلفزيون سوريا، ومنصة تأكد.
تلفزيون سوريا
على موقعه بشبكة الإنترنت تجد التعريف التالي لتليفزيون سوريا: “خدمة إعلامية عامة، تتوجه لكل السوريين، تبث حاليًا من تركيا على أمل الانتقال إلى سوريا، تستخدم وسائل التواصل الجديدة والتقليدية، من أجل الإضاءة على قضايا السوريين، في الداخل والشتات. تدافع في عملها عن قيم الثورة السورية لجهة تعزيز مبادئ المدنية والمواطنة في سوريا الجديدة، وترفض التسلط والديكتاتورية والتطرف الديني، مؤكدةً على وحدة سوريا شعبًا وأرضًا وتنبذ جميع أشكال التدخل الأجنبي”.
رغم الانتقادات التي لاقاها تليفزيون سوريا المنحاز للثورة السورية منذ تأسيسه، فإنه لا يمكن الحديث عن الإعلام العربي بتركيا عمومًا والسوري خصوصًا دون ذكره، خاصة أن هذه المؤسسة تعد من أكبر المؤسسات الإعلامية العربية من ناحية عدد الموظفين وساعات البث.
كانت الانتقادات التي طالت هذه المؤسسة على خلفية إدارة الصحفي أنس أزرق للتليفزيون، وهو صحفي ومراسل سابق في تليفزيونات موالية لنظام الأسد، وفجأة اختفى أزرق من قنوات النظام ليظهر مجددًا في تركيا عام 2015، ويصبح مديرًا لتليفزيون سوريا منذ انطلاقته عام 2018 حتى استقالته في 2019، فكان لوجوده إشكاليةً واضحة لدى العديد من النشطاء السوريين الذين يعتبرونه وجهًا من وجوه النظام لأنه لم يعلن مواقف صريحة بانشقاقه عن نظام الأسد.
في المقابل، يرى بعض السوريين أن وجود شخص لا ينسف مؤسسة كاملة تمتلك خطًا تحريريًا واضحًا بانحيازه للثورة السورية ونقل معاناة الشعب السوري، في هذا السياق يقول الصحفي السوري غسان ياسين وهو مدير العلاقات في “تليفزيون سوريا” إن مؤسسته تحاول من خلال برامجها وأنشطتها في مختلف منصاتها قدر المستطاع خدمة السوريين والعرب المقيمين في تركيا عبر تسليط الضوء على مشاكلهم والعقبات التي تواجههم.
يرى ياسين أن تليفزيون سوريا “نشأ من رحم ثورات الربيع العربي وأنه لا بد أن يعمل على نقل ما يجري في المنطقة العربية عمومًا والداخل السوري خصوصًا، وإبراز الجوانب الإيجابية لثورات الربيع العربي التي وإن انتابتها بعض النكسات فهي تظل بالنهاية حراكًا مستمرًا ودفعت عجلة التحول الديمقراطي في المناطق العربية ولو بحركة بطيئة نسبيًا”.
مضيفًا: “نعمل على حفظ الذاكرة والرواية الصحيحة للأجيال القادمة حتى تكون على وعي تام بما حصل دون تحريف، بالإضافة إلى بث روح التفاؤل والأمل والمحافظة على حقوق الملايين ممن ضحوا في سبيل رسم الطريق لهذه الأجيال”.
ولأن المقر الرئيسي للتليفزيون في تركيا كان لزامًا عليه أن يواكب كل طارئ يحصل في هذه البلاد مع المقيمين العرب والسوريين خصوصًا، ووفقًا لياسين فإن تليفزيون سوريا “يسارع في الاستجابة الطارئة ضد حملات الكراهية ضد السوريين على الأراضي التركية التي تحركها بعض الأحزاب المعارضة لسياسة الحكومة التركية في تعاملها مع القضية السورية، وتسلط الضوء عليها من خلال استضافة مسؤولين أتراك ومحللين للوقوف على أسباب هذه الظواهر ووسائل إخمادها، معتمدين في ذلك على إبراز الجوانب الإيجابية للسوريين وقصص نجاحهم في مختلف المجالات والأصعدة”.
يتابع ياسين في حديثه لـ”نون بوست” أن التليفزيون يواكب الأحداث والقرارات الجديدة الصادرة من الحكومة التركية التي تمس هموم ومشاكل العرب والسوريين في تركيا، بالإضافة إلى التواصل الدائم مع الجهات الحكومية المسؤولة والحصول منها على أجوبة واستفسارات تهم المتابعين والمقيمين على الأراضي التركية، ويهتم أيضًا بمواكبة الأخبار السياسية التي تأخذ حيزًا كبيرًا من ساعات البث الخاصة في التليفزيون عبر منصاته المختلفة.
وعلى سبيل الخدمة المجتمعية فإن القصص الإنسانية التي ينشرها التليفزيون على منصاته تلاقي تعاطفًا ورواجًا كبيرًا، ومثال ذلك قصة لطفل عراقي مصاب كان موجودًا في إدلب، وبعد نشر تقرير عنه في التليفزيون، تحركت جهات عراقية دبلوماسية وتواصلت مع معدي التقرير ليتم إعادة الطفل إلى العراق مع وفد رسمي، والتكفل بعلاجه وتدريسه، وغير ذلك من القصص.
“تأكد”.. صحافة التحقق
لم يكن تليفزيون سوريا الوحيد في المجال الإعلامي العربي في تركيا، فقد سبقه الكثير والسوق مفتوحة لأعمال جديدة، ولأن المؤسسات الإعلامية السورية أصبحت كثيرةً وجد بعض الصحفيين السوريين الحاجة للتصدي للأخبار المضللة والكاذبة وغير الموضوعية، وكان ذلك عبر إطلاقهم لمنصة تحت اسم “تأكد”، حيث بدأت هذه المنصة مع انطلاقة الثورة وظهور إعلام مضاد لبعضه وكانت بعض الوسائل تشوه صورة بعضها البعض وتلمع صورة الطرف المنحاز له.
يقول أحمد بريمو مؤسس ومدير منصة “تأكد” لـ”نون بوست”، إن الأسباب الآنفة الذكر ساهمت في خلق الكثير من الأخبار المغلوطة والكاذبة في بعض الأحيان، فغياب الرقيب وغياب الصحافة الموضوعية التي تكون محايدة وغير منحازة لطرف من الأطراف، دعانا للتفكير جديًا بأنه كم هو مضر لنا فقد مصداقيتنا كإعلام ثورة منحاز للحق”.
مضيفًا “خاصة أن نظام الأسد بدأ بإنتاج برنامج التضليل الإعلامي الذي يتصيد به أخطاء الوسائل الإعلامية المنحازة للمعارضة والثورة”، مشيرًا إلى “من هنا كانت الفكرة بأنه يجب التصدي للأخبار المضللة والمعلومات الكاذبة بطريقة موضوعية ومهنية بعيدًا عن أي انحياز سياسي”.
تعتمد السياسة التحريرية لـ”منصة تأكد”، على التحقق من الأخبار التي يتداولها الناس دون الرجوع إلى مصدرها والتحقق من صحتها وغالبًا ما تكون إشاعات أو أخبار مكذوبة، في هذا السياق يقول بريمو: “أضف إلى أن هذا الأسلوب من أساليب الصحافة منتشر ببعض الدول العربية كمبادرات صغيرة غير صحفية لكن منتشر بشكل جيد في دول أجنبية، من أجل ذلك بدأنا وتابعنا التطور، وأصبحنا نعمل على هذا السياق لتصحيح ما أمكن تصحيحه من أخبار، لأن الهدف هو إيصال الحقيقة للجميع”.
ومن الأهداف التي ذكرها بريمو لمنصتهم، أن لا يكون هناك ضغوطات غير عادلة تمارس على المتابع أو الجمهور سواء العربي أم السوري في تقييم الموقف في سوريا.
بدأت “تأكد” بتغطية مواضيع لا تخص سوريا فحسب بل انطلقت إلى ما هو أبعد من ذلك من الأخبار العالمية بسياقات متنوعة كالطبية والصحية والسياسة والفن وفي كل ما يمكن العمل عليه، بحسب ما ذكر بريمو.
أما عن أعمالهم الحاليّة يتحدث بريمو عن إطلاقهم لنسخة جديدة تعتمد على منهجية جديدة أعدوها بعد استشارة أشخاص عاملين في هذا المجال في العالم، ومن خلال الاطلاع على تجارب مماثلة “استطعنا صياغة منهجية نعتمد عليها في صياغة التدقيق والنشر وتصحيح وسنبدأ بسياسة تقييم المصادر بناءً على عدد نقاط معينة مشروحة بالمنهجية وسيتم منح كل مصدر من مصادر الادعاء التي تساهم بنشر الأخبار المضللة أو الخاطئة علامات محددة، وسيكون لدينا تقييم بـ3 مستويات للمصادر هو تقييم مصدر عالي الخطورة ومصدر متوسط الخطورة ومصدر منخفض الخطورة” بحسب وصف مدير المنصة.
بالمحصلة، احتضنت تركيا مئات المؤسسات الإعلامية السورية التي يقودها الشباب من خلفيات مختلفة، وتمثّل هدف تلك المنصات برفد المجتمع السوري بالأخبار والتوعية، ويبقى المأمول منها عدم الحيد عن منهجية خدمة القضية والمجتمع، كما المطلوب منها السعي بشكل أكبر لبناء مؤسسات قوية ورصينة تكون قادرة على التصدي لبروباغندا النظام والثورة المضادة.