منذ اليوم الأول للثورة السورية بدأ النظام بعملية تعبئة وإخفاء السوريين في مسالخه ومستودعاته المخفية تحت الأرض وفوقها، فقد استخدم النظام هذا الأسلوب إلى جانب العنف المباشر لبث الرعب والخوف في قلوب الثائرين والثائرات، ليس الخوف على أنفسهم فحسب، وإنما أيضًا على عائلاتهم وأطفالهم ونسائهم وأزواجهن.
فحسب التقارير التي خرجت من الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2013، نفذ الجيش السوري والعناصر الأمنية انتهاكات جسيمة خلال اقتحامهم منازل وبيوت المدنيين، وصلت حد اغتصاب آلاف النساء والقاصرات خلال المداهمات في حمص وحماة وجسر الشغور وغيرهم أو اختطاف الرجال والنساء معًا نحو الأفرع الأمنية.
أما التقارير الصادرة في السنوات الأخيرة من عدة منظمات حقوقية منها منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد تحدثت عن وجود أكثر من 130 ألف معتقل ومعتقلة في سوريا يتحمل النظام السوري مسؤولية إخفاء أكثر من مئة ألف منهم. والجدير بالذكر هنا أن حسب عدد من التصريحات لناشطين حقوقيين فإن هذه الأعداد والإحصاءات “وردية” لأن عددًا كبيرًا ممن اعتقلوا يتعذر على المنظمات العاملة تسجيلهم وتوثيقهم، بسبب خوف أهاليهم وأقربائهم من التبليغ عن الأمر.
رغم كل الفظاعات التي كشفت والتي تم تسريبها كصور قيصر عام 2014 ومن ثم تقرير منظمة العفو الدولية “سجن صيدنايا – المسلخ البشري” الذي وثّق مقتل أكثر من 13 ألف معتقل وتصفيتهم على أيدي النظام السوري في سجن صيدنايا، لم تخلق أي جهود حقيقية لمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا، ولم يتم العمل على أي مسار حقوقي أو سياسي واضح للضغط على النظام السوري وبقية الأطراف لكشف مصير المعتقلين والمعتقلات لديهم وإطلاق سراحهم، ما دفع عددًا من المنظمات والمبادرات المشكّلة من أهالي وأقارب المعتقلين لإطلاق ما سمّي بـ”ميثاق الحقيقة والعدالة من أجل سوريا”.
لم يكن أمام المجموعات الخمسة إلا المبادرة بعد خذلان المجتمع الدولي لهم وللسوريين وتقديم هذه الوثيقة
الحقيقة والعدالة أولًا
أعلنت خمس منظمات مجتمع مدني متخصصة، الأربعاء المنصرم، عن مبادرة مستقلة، تعبّر عن رؤيتهم الخاصة والمشتركة فيما يخص موضوع الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري التي أسموها “ميثاق الحقيقة والعدالة من أجل سوريا”، ضم الميثاق كلًا من: عائلات من أجل الحرية ورابطة عائلات قيصر ومسار: تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية داعش ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ومبادرة تعافي.
ركز الموقعون على الميثاق على شقين مهمين جدًا في مسار العدالة في سوريا وهما: المسار القصير الأمد والمسار الطويل الأمد، وذلك حسب ما نشروه على منصات التواصل الاجتماعي قبل الإعلان بيوم قائلين: “على المدى القصير، هناك إجراءات فورية لا بد من اتخاذها لوقف الانتهاكات المستمرة، وعلى المدى الطويل، لدينا مطالب لضمان العدالة الشاملة وعدم تكرار الجرائم”.
أما عن المطالب المباشرة، فقد نشرت المجموعات الخمسة فيديو توضيحي في اليوم التالي للإعلان يرتكز على نقاط أساسية ومطالب تخص مستقبل الحل في سوريا كالإفراج الفوري عن المعتقلين والمعتقلات وكشف مصير المختفين والمختفيات والمغيبين والمغيبات قسرًا وتسليم جثامين المتوفين وإلغاء المحاكم الميدانية والاستثنائية والاعتراف بحقيقة ما حدث بشكل رسمي وحفظ السردية التاريخية وضمان الاعتراف الرسمي العام والعلني ضمن عملية العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مؤكدين أن لا إعادة إعمار ولا حل سياسي ممكن فوق مقابر جماعية وزنازين يقبع فيها أشخاص أبرياء.
الميثاق.. وثيقة أخلاقية لكل المدافعين عن حقوق المعتقلين
تحدث المشاركون في الإعلان عن الدافع الذي جعلهم يتفقون على ميثاق واحد بعد سنوات طويلة من الثورة السورية، وفي هذا الخصوص وضّح أحمد حلمي، وهو مدير مبادرة تعافي، قائلًا: “الميثاق أتى بعدما رأينا العديد من التساؤلات من السوريين عن شكل العدالة في سوريا، خصوصًا بعد ترجمة نص تحدث فيه السيد بيدرسون، المبعوث الأممي إلى سوريا، عن العدالة التصالحية، والضجة التي لحقته على منصات التواصل الاجتماعي. هذه الوثيقة هي شكل العدالة المستقبلية في سوريا التي يريدها أهالي الضحايا والضحايا أنفسهم”.
من ناحية أخرى تحدثت السيدة مريم الحلاق، وهي المتحدثة باسم رابطة عائلات قيصر، عن عدم قدرة المنظومة الدولية على الوصول إلى حل يخص قضية المعتقلين قائلةً: “التقينا بالسيد بيدرسون في بروكسل عام 2019 بعد استلامه مهامه كمبعوث إلى سوريا، وبعد سماعه قصصنا، وضع يده على صدره وتعهد بأن ملف المعتقلين سيكون من أول اهتماماته. التقينا بعدها في مجموعة رابطة عائلات قيصر وسألته شخصيًا عن وعده فأجابني قائلًا: النظام السوري لا يستجيب”.
في اجتماعات أستانة لم يظهر ملف المعتقلين إلا بشكل طفيف في الاجتماع السابع ومن ثم الثامن عام 2018
لم يكن أمام المجموعات الخمسة إلا المبادرة بعد خذلان المجتمع الدولي لهم وللسوريين وتقديم هذه الوثيقة على حد قولهم، كما ذكرت السيدة مريم في اجتماع الإعلان قائلةً: “إلى متى؟ هناك عشرات الآلاف من الشباب والصبايا السوريين والسوريات يقبعون في سجون الأسد، النظام يستخدم الاعتقال كسلاح في وجهنا ليفكك العائلات والأسر. نريد من الجميع أن يؤيد هذا الميثاق وأن يتعاون معنا لفرضه على المجتمع الدولي”.
ما يعطي هذا الميثاق شرعية للحديث عن العدالة والمعتقلين هو إطلاقه من مجموعات مكونة من أهالي المعتقلين وأسرهم، وحتى من المعتقلين السابقين الذين نجوا من السجون كما في حالة منظمة تعافي، هذا الأمر، اتحاد هذه المجموعات من أسر وأفراد هم على صلة بالمعتقلين والمعتقلات في سجون الأسد وبقية الأطراف، يعطي أملًا بسعي حقيقي في ملف يتيم منذ مارس/آذار 2011.
أين ملف المعتقلين اليوم؟
خرجت القضية السورية من أيدي السوريين منذ سنوات عدة، وأصبحت تقبع في ملاعب وساحات السياسات الدولية، ومن ضمن ذلك أيضًا ملف المعتقلين، فعلى الرغم من أن العديد من الأطراف السياسية المعارضة شكلت كيانات ومجالس وهيئات تقول عنها إنها مختصة ومهمتها ملاحقة ملف المعتقلين والاهتمام بقضيتهم، فإن الملف على أرض الواقع لم يتقدم ولا نسمع عن تلك الهيئات شيئًا إلا اسمها.
أما في اجتماعات أستانة التي تقيمها الدول الضامنة وهي تركيا وروسيا وإيران، فملف المعتقلين لم يظهر إلا بشكل طفيف في الاجتماع السابع ومن ثم الثامن عام 2018، حيث شكلت لجنة جديدة لمتابعة الملف، التي لم يخرج منها أي نتائج تذكر حتى يومنا هذا.
ما شهدناه من صفقات تبادل قامت بها الفصائل السورية المعارضة مع النظام، لم تكن أكثر من لعبة في يد الأخير
في ذلك الوقت اقترحت روسيا الإفراج عن 50 معتقلًا في سجون النظام و50 معتقلًا في سجون المعارضة، الأمر الذي دفع المراقبين حينها إلى انتقاد الاقتراح بشدة نظرًا إلى أعداد المعتقلين في سجون النظام السوري التي تتجاور الـ100 ألف معتقل، ورآها البعض الآخر من الحقوقيين أنها صفقة تبادل أسرى لا أكثر ولا أقل.
التفّت اجتماعات أستانة على ملف المعتقلين فيما بعد وناورت به من خلال خلق اللجنة الدستورية المتعثرة، فخرجت أصداء تتحدث عن عدالة تصالحية وعدالة تعويضية لا تغني ولا تسمن من جوع، ما أدى لبقاء الملف عالقًا بل ومخفيًا تحت طاولة الاجتماعات التي إما ترى بملف المعتقلين صفقة تبادلية وإما لا تراه أبدًا.
منذ بداية الثورة السورية، لم يقدم النظام السوري أي تنازلات في ملف المعتقلين أو غيره، وما شهدناه من صفقات تبادل قامت بها الفصائل السورية المعارضة مع النظام، لم تكن أكثر من لعبة في يد الأخير حيث كان يحدد الأسماء والأرقام التي يريد إطلاق سراحها، وهنا يجب الانتباه إلى أن الملف المعتقلين هو ملف حقوقي وليس عسكريًا بتاتًا، وتحويل الأمر إلى تبادلات وصفقات بين الضباط والعسكر قد يودي بمن بقي في السجون حيًّا إلى الهلاك.