“ما أتعرض له من تلفيق للقضايا يأتي في سبيل تصفية الحسابات السياسية”.. هكذا علق البرلماني المعارض السابق هيثم الحريري، على الاتهامات التي يتعرض لها خلال اليومين الماضيين، بشأن التحريض على تقديم رشاوى انتخابية خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرًا (أُقيمت على مرحلتين في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول وحتى ديسمبر/كانون الأول 2020).
ويضيف الحريري، عضو المكتب السياسي لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي حاليًّا: “أتمنى أن لا يكون هناك فجر في الخصومة وأن يخيب ظني، بعد نزع الحصانة عني، كنت أقوم بواجبي وحقي في ظل الحصانة وعبرت عن قطاع واسع من الشعب”.
تعيش المعارضة المصرية – حتى الشكلية منها – وضعًا شديد الاضطراب في ظل حالة الاستهداف السلطوي التي تواجهه رغم افتقادها لأي مخالب شرسة، إلا أن وجودها على الساحة رغم ضآلتها بات مصدر قلق للنظام الحاليّ الذي يرغب في غلق المجال بصورة مشددة.
التصفية الشرسة للمعارضة القابع معظم رموزها في الخارج ربما يكون أمرًا مفهومًا، لكن المعارضة الشكلية المستأنسة التي نشأت وفتح لها المجال بمباركة النظام هو الأمر المثير للجدل، إذ شهد العامان الماضيان على وجه التحديد مخططات تصفية سياسية شبه ممنهجة لرموز المعارضة الحديثة، وهو ما يمكن الاقتراب منه أكثر بالاضطلاع على خريطة البرلمان الجديدة بغرفتيه، النواب والشيوخ، الذي خلا تمامًا من أي صوت معارض، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن توجهات النظام خلال المرحلة المقبلة.
استهداف ممنهج
على صفحته الشخصية على فيسبوك، استعرض الحريري تفاصيل الاتهامات التي واجهها قائلًا: “في صباح يوم 24 نوفمبر 2020، اليوم الثاني والأخير في جولة الإعادة قام أحد الضباط بالقبض على 3 من أبناء قرية الدواخلية مدينة المحلة الكبري محافظة الغربية من ميدان الرصافة بشارع محرم بك أثناء خروجهم من العقار الذي يوجد به مكتبي ومقري الانتخابي ومعهم توكيلات خاصة وعامة بصفتهم مندوبين عني لمتابعة سير العملية الانتخابية”.
وأشار إلى أنه تم اقتيادهم إلى نقطة الشرطة التابعين لها، “وطبقًا لأقوالهم في تحقيقات النيابة أنه تم الضغط عليهم بوسائل غير قانونية للاعتراف بتوزيع رشاوى انتخابية بتحريض مني وتم تسجيل فيديو بهذه الاعترافات”، إلا أنهم أنكروا كل تلك الأقوال أمام النيابة.
ورغم الإفراج عن الثلاثة، فإن تحريات 3 ضباط شرطة ادعت علم البرلماني السابق بالواقعة والتحريض عليها، وعليه تم استدعاؤه للنيابة بتهمتي كسر الصمت الانتخابي وتقديم رشوه انتخابية، وعلى الفور توجه صباح السبت 13 من فبراير/شباط الحاليّ للنيابة، وقد أفرج عنه مساءً بكفالة ألف جنيه.
ويتساءل الحريري: ماذا استفاد من قام بتلفيق هذه الاتهامات سوى الإساءة إلى جهة رسمية في الدولة والإساءة إلى اسم مصر بتلفيق اتهامات لنائب معارض سابق؟ من المستفيد من هذه الواقعة الكاذبة سوى أعداء الوطن؟ هل كان الهدف من هذه الاتهامات الملفقة إسقاط عضويتي في حالة نجاحي في الانتخابات وفي حالة عدم نجاحي منعي من الترشح لمدة خمس سنوات بالإضافة إلى الحبس لمدة سنة طبقًا لنص القانون! وتدمير مستقبلي السياسي والوظيفي!
واختتم حديثه قائلًا: “نعم اختلفت مع النظام السياسي الحاليّ والسابق والأسبق وسأظل على يسار أي نظام سياسي، وإذا كانت هذه هي ضريبة كلمة الحق فقد دفعها قبلي من هم أفضل مني وهناك من ضحى بروحه من أجل كلمة حق في مواجهة الباطل”.
الطنطاوي.. نموذجًا
لم يكن الحريري الحلقة الوحيدة في مسلسل التصفية السياسية، فقد سبقه في ذلك زميله داخل البرلمان، النائب أحمد الطنطاوي، الذي أُطيح به في الانتخابات الأخيرة بعد فضيحة التزوير المدوية (بحسب وصف حملته الانتخابية) التي شهدتها نتائج الانتخابات.
الطنطاوي في مقطع فيديو نشره على حساب حملته على فيسبوك عقب خسارته قال: “كنت قد قررت تأجيل الحديث إلى حين الاستقرار على رؤية أو تصور للمستقبل، لأن الحديث عن الماضي تحصيل حاصل. ما جرى معنا في الحملة الانتخابية محل اتفاق من كل المنصفين، وأوجه الشكر إلى جميع من انتخبوني في دائرة قلين وكفر الشيخ، ومن وقف معنا في هذه المعركة الانتخابية”.
وتابع الطنطاوي “لقد حصلت على الترتيب الأول في الجولة الأولى، وفي جولة الإعادة كذلك، وبفارق كبير عن أقرب المنافسين، وهو ما يخالف ما أعلنته اللجنة العامة في المحافظة من نتائج. وأقول هذا حتى لا يُلام أو يُعاتب أي ناخب في دائرة كفر الشيخ، فلا توجد خصومة لدينا إلا مع الساعين إلى قهر إرادة الناخبين، أو شراء ذممهم بأموال قليلة استغلالًا لحاجتهم المرة”.
وأضاف النائب الذي طالما عبر عن عدم حبه للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعدم رضاه عن أداء حكومته: “يجب أن تتوقف جميع هذه المظالم في مصر، وأن تكون هناك وقفة جادة من خلال قراءة متأنية في نتيجة الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي مثلت مواجهة بين أفكار منتمية إلى الماضي، وأخرى منتمية إلى المستقبل. ونحن نتحدى أي فرد أو جهة في الدولة بنشر أرقام مغايرة للنتيجة التي نشرناها، وهي نتيجة موثقة تشير إلى فوزنا بالترتيب الأول في جولة الإعادة كما جرى في الجولة الأولى”.
واستدرك “ليس لدي أي رغبة في الانتقام من هؤلاء، وعلى العكس أنا مشفق عليهم، وأتمنى أن لا يُقهر أحد في مصر قريبًا. وسنستمر في المجاهدة لتحسين الأوضاع الحاليّة، ولو قُدر لنا أن نكون يومًا ما من أصحاب القرار، فلن نستخدم ذلك أبدًا في التشفي أو الانتقام. وكل ما نطلبه هو المحاسبة، لأن هناك مؤسسات في الدولة لا تستحق الصورة التي يقدمها عنها بعض أفرادها”، على حد تعبيره.
يذكر أنه في 2019 تعرض النائب المعارض لحملة ممنهجة للإطاحة به من البرلمان مبكرًا، حيث رفع ضده بلاغان أحدهما من المحامي المثير للجدل، سمير صبري، والآخر من المحامي محمد حامد سالم، اتهما فيه الطنطاوي بـ”تهديد الأمن القومي ومحاولة زعزعة الاستقرار والترويج لأفكار الجماعة الإرهابية وقنوات فضائية معادية”.
حتى الذين نجوا من مقصلة التصفية خلال الدورة السابقة في البرلمان بحكم غيابهم عن المشهد يواجهون اليوم السيناريو ذاته، حال استمروا على نفس الأيديولوجية السياسية التي تتعارض ولو ظاهريًا مع ما يريده النظام، وهو ما يحدث الآن مع النائب عبد العليم داوود، الذي حُول للجنة القيم والتأديب بالمجلس بسبب انتقاده لحزب الأغلبية “مستقبل وطن” ونعته بـ”حزب الكراتين” وهو الأمر الذي استفز البرلمان، هذا بخلاف فصله من حزب الوفد (يفترض أنه معارض) الذي دخل البرلمان تحت لوائه، ليواجه النائب مصيرًا مجهولًا قد يصل إلى الفصل من البرلمان ثم المحاكمة.
ليس الداخل فقط
استهداف المعارضة لا يتوقف على معارضي الداخل وفقط، فاستهداف النظام حتى من الخارج أمر مرفوض للسلطات الحاكمة، ففي تقرير لها في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش حالات مداهمة منزلية وتنكيل بأسر وأقارب 28 حالةً لصحفيين وإعلاميين وناشطين سياسيين ونشطاء حقوقيين مصريين انتقدوا الحكومة ويعيشون حاليًّا في الخارج.
التقرير تناول الفترة من 2016-2019 مستعرضًا، وفق شهادات أهالي المعارضين، الانتهاكات التي تعرضوا لها على أيدي قوات الأمن، فيما ذهبت نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، جو ستورك، إلى أنها تأتي “في سبيل تصميمها على إسكات المعارضة، تعاقب السلطات المصرية عائلات المعارضين المقيمين في الخارج، ينبغي للحكومة وقف هذه الهجمات الانتقامية التي ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي”.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” وثق – رجوعًا إلى بيانات المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج – العشرات من حملات اعتقالات ومداهمات منزلية واستجوابات بالجملة تنفذها السلطات المصرية بين الحين والآخر، بعضها موسمي كما هو الحال قبيل ذكرى ثورة يناير، والآخر اعتباطيًا دون مبرر أو دافع ظرفي أو زمني.
هناك 3 أهداف رئيسية وراء تلك الحملات، بحسب التقرير، أولها: الانتقام من المعارضين لا سيما من يعجز النظام عن القبض عليهم ممن هم في الخارج، ثانيها: الضغط على المعارضين أنفسهم من خلال أهاليهم، وهذا الأسلوب الأكثر اتباعًا مع معارضي الداخل، الأمر الذي قد يدفع المعارض إلى تسليم نفسه في مقابل الإفراج عن أهله، أو أن يتم الضغط عليهم للحصول على معلومات تفصيلية عن أماكن وجوده وعلاقاته وطبيعة نشاطاته، أما الثالث فيتعلق بتخويف أهالي المعارضين وإرهابهم عبر جرس إنذار تحذيري من السير قدمًا في نفس اتجاه الشخص المطلوب.
مأزق المعارضة في مصر
تعيش المعارضة المصرية، وفق دراسة للخبير السياسي، بدر حسن شافعي، مدرس العلوم السياسية بأكاديمية العلاقات الدولية، بإسطنبول، أزمة ثلاثية الأبعاد، كان لها دورها في تقزيم دورها وتضييق الخناق عليها، وفشلها في تحقيق الأهداف المنشودة منها.
البعد الأول للواقع المتأزم للمعارضة ينبع من داخلها، ويتعلق بفقدان الثقة بين أطرافها في ظل سياسة التشكيك في النوايا والتخوين في الأهداف، فضلًا عن استمرار التباينات الأيديولوجية لا سيما بين الإسلاميين والعلمانيين، فيما يأتي البعد الثاني من خارجها، ويتمثل في هيمنة النظام السياسي على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية بجانب تشويه الصورة الذهنية للمعارضة عبر حملات إعلامية ممنهجة.
أما البعد الثالث فهو نتيجة منطقية للبعدين الأول والثاني، ويتمحور في تراجع الدعم والتأييد الشعبي لتيارات المعارضة بكل انتماءاتها في ظل سقوطها المدوي في مستنقع التشويه والتخوين، بجانب تجييش النظام لكل أذرعه لترهيب الناس من تلك التيارات والعزف على وتر تهديدها للأمن القومي واستقرار البلاد.
تعززت تلك الوضعية المتأزمة مع فرض السلطات المصرية قيودًا واسعة على القوى السياسية المعارضة، سواء التي تعمل بشكل قانوني أم غير قانوني، فكلاهما محاطين ببيئة ترهيبية غير مسبوقة، دفعتها للانزواء خلف الجدران المغلقة بعيدًا عن الاقتراب من الشارع.
النظام المصري استند في تلك الإستراتيجية إلى أداتين متوازيتين، الأولى استمرار التنكيل بالمعارضة عبر التوسع في أحكام الإعدام والتصفيات الجسدية والاختفاء القسري، والثانية من خلال غلق تام للمجال العام عبر تجريم التظاهر والممارسات السياسية وفق منظومة من التشريعات والقوانين الحديثة التي سدت الأفق بشكل كامل.
وإذا كان الرئيس الراحل حسني مبارك يسمح بهامش معارضة ضيق من أجل إكمال الديكور السياسي عالميًا، فاتحًا المجال نسبيًا أمام متنفس للمواطنين تجنبًا للوصول إلى مرحلة الانفجار بسبب الكبت، إلا أن السيسي يسير عكس عقارب الساعة المباركية تمامًا.
فالسيسي ونظامه بات يزعجهم أي صوت يغرد خارج سربهم، حتى لو كان من بني جلدتهم وأحد أبناء هذا النظام، لكن كونه لا يعزف على نفس سلمهم الموسيقي فهو في عرفهم “مارق” يستوجب الاستتابة وإلا كانت العين الحمراء هي أداة التعامل مع كل من يفكر أن يشذ عن اللحن.
ورغم نجاح السلطات المصرية – بشكل كبير – في كتم أفواه المعارضة منذ انقلاب 2013 وحتى اليوم، من خلال ملاحقات وحملات اعتقال طالت ناشطين وصحافيين ومدونين وقياديين حزبيين، فإنها فشلت في وأدها من جذورها، فمع كل نفق مظلم تضاء شمعة في آخره، حتى يتلاشى الظلام يومًا ما، وإن طال أمده.