تشهد تونس، مؤخرًا، تطورات عديدة تخص مسألة التعديل الوزاري الذي صادق عليه البرلمان نهاية الشهر الماضي، حتى أصبحنا أمام مسلسل متعدد الحلقات يصعب التنبؤ بنهايته، ما يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذه الأزمة السياسية والسيناريوهات المحتملة لنهايتها.
المشيشي يعفي وزراء جدد
آخر حلقات المسلسل، كشفت عن قرار رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي إعفاء 5 وزراء من المحسوبين على رئيس الجمهورية قيس سعيد من مناصبهم، ليضافوا إلى 3 وزراء سابقين كان قد شملهم الإجراء.
وشمل الإعفاء، بحسب بيان رسمي صادر عن رئاسة الحكومة أمس الإثنين، كلًا من وزير العدل والصناعة والرياضة وأملاك الدولة والفلاحة، مع تكليف من ينوب عنهم على رأس تلك الوزارات، وسبق أن أقال المشيشي كلًا من وزير الداخلية والثقافة والبيئة المحسوبين على الرئيس أيضًا.
جاء قرار المشيشي في أعقاب أزمة سياسية ودستورية بين رأسي السلطة التنفيذية، فالرئيس قيس سعيد متمسك إلى الآن برفض التعديل الوزاري الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب بالأغلبية يوم 26 من يناير/كانون الثاني الماضي.
أوضحت رئاسة الحكومة في بيانها أمس، انفتاحها على كل الحلول الكفيلة باستكمال إجراءات التعديل الوزاري ليتمكن الوزراء من مباشرة مهامهم في إطار الدستور، وسبق أن توجه المشيشي بمراسلتين إلى رئاسة الجمهورية، طلب فيهما مده بقائمة أسماء الوزراء الذين يتحفظ عليهم قيس سعيد ويرفض أداءهم اليمين الدستورية أمامه بحجة وجود شبهات فساد، لكنه لم يظفر بأي رد.
وفي وقت سابق، توجه رئيس الحكومة إلى القضاء الإداري بحثًا عن حل للأزمة، وكان رد المحكمة أن الخلاف الحاصل بين رأسي السلطة التنفيذية هو اختصار حصري للمحكمة الدستورية دون غيرها وأنها الجهة الوحيدة التي تتولى التأويل الدستوري للفصول والنصوص محل الخلاف.
سعيد يرد
حلقة البارحة لم تنته هنا، فكان فيها تعليق الرئاسة على قرار المشيشي، فقد توجه رئيس الجمهورية قيس سعيد برسالة مطولة إلى رئيس الحكومة، كتبها بيده بالخط العربي وأظهرت صفحة الرئاسة سعيد وهو يخط الرسالة.
لم يخل جواب سعيد من طابع اللوم والتهجم بعبارات لاذعة، اتهمه خلالها بخرق فصول من الدستور ذات علاقة بالتعديل الوزاري، وقال الرئيس “ما أشد مصائبنا، وأثقل وقعها حين يريد الكثيرون إيهامنا بأننا لا نزال في طور انتقال يصفونه بالديمقراطي، فهو في ظاهره فقط كذلك، وفي باطنه انتقال من الحزب الواحد إلى مجموعة فاسدة واحدة”.
يرفض سعيد التعديل الوزاري الأخير، بحجة أنه لم يحترم الدستور، كما أن بعض المقترحين في التعديل الوزاري تتعلق بهم قضايا أو لهم ملفات تضارب مصالح
اعتبر سعيد أنه بالرجوع إلى نص الدستور، فإن رئيس الدولة غير ملزم بأجل محدد لدعوة الوزراء إلى أداء اليمين الدستورية، قائلًا: “اليمين لا تقاس بمقاييس الإجراءات الشكلية أو الجوهرية، بل بالالتزام بما ورد في نص القسم وبالآثار التي ستُرتب عليه لا في الحياة الدنيا فقط ولكن حين يقف من أداها بين يدي أعدل العادلين”.
وفي حلقة سابقة، نعت قيس سعيد هشام المشيشي خلال اجتماعه مع نواب بالبرلمان بالجاهل، ملمحًا بقوله “الجاهلي لم يكن يعرف الحقيقة، أما من يعرف الحقيقة ويتجاهلها فهو جاهل ومتجاهل يتظاهر بالعلم ويصر على التظاهر بالمعرفة”.
كما استذكر سعيد في لقاء جمعه مؤخرًا بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ما جاء في رسالة الغفران للمعري للتهكم على سعي المشيشي والحزام الحكومي الذي يدعمه، حيث قال “ذكرني موقفهم بموقف ابن القارح برسالة الغفران للمعري: ستِ إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة، فقال: ما زقفونة؟ فرد: أن يحمله وراء ظهره فضربه ضربة دخل بها الجنة. هذه المرة يريدون أن يضربوا ضربة يدخلون بها إلى باردو أو القصبة”.
ويرفض الرئيس سعيد التعديل الوزاري الأخير، بحجة أنه لم يحترم الدستور، كما أن بعض المقترحين في التعديل الوزاري تتعلق بهم قضايا أو لهم ملفات تضارب مصالح، وهم الأشخاص الذين لا يمكنهم أداء اليمين، على اعتبار أنه ليس إجراءً شكليًا بل إجراء جوهري، وفق قوله.
حرب صلاحيات
بعيدًا عن الأسباب التي يطرحها الرئيس قيس سعيد لهذه الأزمة، يقول المحلل السياسي رضا كزدغلي إننا أصبحنا أمام صراع صلاحيات بين سعيد والمشيشي بناء على الخلفية القيادية لكلا الطرفين.
المشيشي يعمل بشعار “أنا موجود إذا أنا بقي”، فهو يرى أن عليه أن يستكمل المهمة التي جاء من أجلها في المؤسسة التي يقودها بناءً على تكوينه الإداري، فهو ابن الإدارة التونسية وليس متسيسًا وفاهمًا لسياسة الإدارة، وفق قول كزدغلي.
يؤكد رضا كزدغلي في حديث لنون بوست أن المشيشي أظهر شراسة كبيرة وكاريزما خاصة في تعامله مع أزمة التحوير الوزاري الأخير، فهو يريد الانتقال من الإداري إلى القيادي بما يكفله له دستور سنة 2014.
يشير كزدغلي أيضا أن “المشيشي يمتلك نزعة تنافسية غير مبنية على الانسحاب والخسارة، رغم أنه في بداية مشواره على رأس الحكومة ارتبك قليلا وتراجع لفائدة سعيد في خصوص اختيار الوزراء والمستشارين إلا أنه تدارك أمره بعد ذلك وأثبت شراسته”.
في مقابل ذلك، فإن خلفية قيس سعيد مبنية على شخصيته وهو الأستاذ المساعد في القانون الدستوري الذي سكر بالسلطة حتى الثمالة، وفق رضا كزدغلي، فسعيد يريد أن يستثمر في العدد الكبير الذي انتخبه لإضفاء مشروعية على عمله حتى إن كان فيه تجاوز لصلاحياته الدستورية.
واعتبر المتحدث أن سعيد يسعى إلى تحقيق وإثبات الذات مهما كانت الأدوات، ما يجعلنا أمام تغيير في فكر سعيد قبل الانتخابات وبعدها، فقد كان سعيد المرشح الرئاسي حريصًا على فكرة الانطلاق من القاعدة نحو القمة، أما سعيد الرئيس فهو يعمل بناءً على فكرة الانطلاق من القمة نحو القاعدة، وهو ما يناقض قناعته في اللامركزية.
وأشار كزدغلي لنون بوست، أن سعيد يعرف أنه غير سياسي ولا يفقه السياسة، لذلك يريد استعمال مدخلات إقناعية للتأثير وكسب المؤيدين قصد تنفيذ رؤيته للحكم بعيدًا عن الأحزاب السياسية، فمواقفه تتراوح بين الاستعارات الأدبية والتصويرية المستقاة من التراث ومن الأحداث مثل التشبيه بالكورونا واللغة التواصلية الاندفاعية بالتهجم اللفظي على خصومه واستحداث مصطلحات جديدة مثل الانفجار الثوري عوضًا عن الثورة، بالإضافة إلى النبرة المتوترة جدًا.
أمام هذا الإشكال وتشبث كل طرف برأيه ورفض الرئيس للتعديل الوزاري ورفضه الكشف عن أسماء الوزراء الذين تتعلق بهم شبهات فساد، يصعب توقع السيناريوهات المرتقبة
يحيلنا هذا، وفق محدثنا، إلى نقطة مهمة وهي سعي سعيد للسيطرة على كل الصلاحيات لإدارة الديمقراطية بمفهومه الخاص، فهو يريد المرور إلى نظام الزعيم الواحد كما كانت عليه البلاد زمن حكم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
في هذا الإطار يريد سعيد دفع المشيشي للاستقالة كما حصل مع سلفه إلياس الفخفاخ حتى تعود المبادرة له (وفق تؤويله الخاص للدستور) في تعيين رئيس حكومة جديدة، يسيره كيف يشاء حتى ينفذ خططًا في تسيير الدولة، بعيدًا على ما ضبطه الدستور.
لا يهم سعيد المشيشي أو غيره، فالمهم عنده، وفق محدثنا، أن يكون ماسكًا بكل أدوات السلطة وأدوات الشأن العام في البلاد، وفق ما يخدم توجهه حتى إن كان ذلك مخالفًا للدستور الذي ضبط نظام الحكم في تونس بعد الثورة.
سيناريوهات ضبابية
أمام هذا الإشكال وتشبث كل طرف برأيه ورفض الرئيس للتعديل الوزاري ورفضه الكشف عن أسماء الوزراء الذين تتعلق بهم شبهات فساد، يصعب توقع السيناريوهات المرتقبة، ولا يتوقع رضا كزدغلي أن تقع حلحلة الأزمة بين الطرفين في القريب العاجل.
يؤكد كزدغلي أن سعيد شخصية صعب البناء على خياراتها، فهو شخص غامض لا يمكن أن نتوقع ما يدور في فكره وما الخطوات التي يمكن أن يلجأ إليها، خاصة أنه حديث عهد بالسياسة، وتصريحاته قبل الوصول إلى قرطاج وبعدها تغيرت جميعها.
يضيف “نحن أمام مآلات ضبابية، سيكون للعامل الخارجي دور في تحديدها، فمن الصعب أن تبقى بعض القوى الإقليمية تتفرج دون أن تتدخل لحل الأزمة بين رأسي السلطة التنفيذية، فتدهور الأوضاع في تونس سينعكس سلبًا على بقية دول المنطقة”.
كما سيحدد هذه السيناريوهات أيضًا عامل داخلي مهم وهو البرلمان وقدرة الحزام الحكومي الداعم لهشام المشيشي على الصمود، فهذا الحزام سيمكن المشيشي من فرص أكبر للمناورة والتشبث بتطبيق فصول الدستور التي تنص على كون رئيس الحكومة هو صاحب الصلاحيات الكبرى.