ترجمة وتحرير: نون بوست
في أحد المخيمات على قمة مطلة على مدينة عفرين، تكافح 300 عائلة سورية البرد القارس والأمطار والوحل. نزحت هذه العائلات ثلاث مرات منذ أن هُجّرت من مزارعها بالقرب من دمشق قبل سبع سنوات، وهي تعيش الآن على معونات ضئيلة وتُرسل أطفالها للحصول على المؤونة.
تقول بشرى سليمان الحمدو، 65 عاما، وهي ترفع اللحاف الذي يغطي الأرض الرطبة التي ينام عليها زوجها “الوضع سيء للغاية، المطر يهطل داخل الخيمة”. وتضيف: “لا يوجد طعام كاف، لا توجد منظمة تساعدنا ولا مياه شرب”.
قبل ثلاث سنوات، تعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسيل من الانتقادات من الأمم المتحدة والمسؤولين الغربيين عندما أصدر أوامره للقوات التركية بعبور الحدود السورية إلى عفرين، وهو ما اعتبره كثيرون خطوة انتهازية قد تزعزع الاستقرار في المنطقة. فرت آلاف العائلات الكردية والمقاتلين الأكراد جراء الهجوم التركي، وحلّ مكانهم مئات الآلاف من السوريين من مناطق أخرى، واستولوا على المنازل ونصبوا خياما على أراضٍ صالحة للزراعة.
وفي 2019، واجه تدخل تركي آخر شرقي سوريا موجة من الانتقادات والاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان. ولكن في أعقاب عقد كامل من الحرب الأهلية السورية التي لا تزال تثير حيرة العالم، أصبحت تركيا القوة الدولية الوحيدة على الأرض التي تحمي حوالي خمسة ملايين من النازحين والمدنيين المعرضين للخطر. في الوقت الراهن، أصبح الجنود الأتراك هم وحدهم من يتصدى لهجمات نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائه الروس ضد المدنيين.
قام المسؤولون الأتراك مؤخرًا بمرافقة عدد من الصحفيين في زيارة لعفرين، وهي منطقة في شمال غرب سوريا، أنشأت فيها تركيا منطقة آمنة بحكم الأمر الواقع على طول الحدود. حرص الأتراك على تسليط الضوء على إنجازاتهم في مجال البنية التحتية والتعليم والخدمات الصحية. في المقابل، لم يتوانوا عن الإشارة إلى معاناة السوريين المستمرة في المنطقة الخاضعة لسيطرتهم، بينما أكد النازحون رغم معاناتهم الواضحة أنهم سعداء بوجود الأتراك هناك، على الأقل في الوقت الحالي.
يقول عمار محمد، 35 عاما، والذي يعمل حمّالا في سوق عفرين: “هنا على الأقل يمكنني البقاء على قيد الحياة”. كان محمد مقاتلا في صفوف المعارضة بدمشق، لكنه فضّل عدم المخاطرة بالتعرض للقتل أو الاحتجاز من الحكومة السورية، وأوضح قائلا: “لو كنت هناك، لكنت ميّتا، أو خائفا طوال الوقت من الاعتقال”.
لم يكن التدخل التركي في عفرين بريئا، فلطالما أخذت تركيا مصالحها الخاصة بعين الاعتبار. لقد كان هدفها الرئيسي يتمثّل في استئصال القوات الكردية التي تعتبرها تهديدا أمنيا، وتوفير مساحة لقوات المعارضة التي تقاتل نظام الأسد، عدوّها اللدود، علما أن السوريين الذين استقروا حول مدينة عفرين فرّوا من قوات النظام السوري.
كان محمد وابن عمه محمد عمّار من بين مقاتلي المعارضة الذين تم إجلاؤهم في قافلة من الحافلات من الغوطة بريف دمشق إلى عفرين بموجب اتفاقيّة وُقّعت بين روسيا وتركيا قبل ثلاث سنوات. يقول محمد: “لقد تم تهجيرنا قسرا”. بعد رفضهم الانضمام إلى قوات الأمن المدعومة من تركيا، تم تسريحهم ليحاولوا كسب لقمة العيش بطرق أخرى. يؤكد محمد أن “بعض الناس ينامون ببطون خاوية. لا ندري كيف تمكّنا من النجاة إلى اليوم”.
أنشأت تركيا إدارتها الخاصة ودرّبت ودمجت الميليشيات السورية الموالية لها ضمن قوات الشرطة العسكرية وأقامت مجالس محلية سورية لإدارة المنطقة. تم ربط المدينة بشبكة الكهرباء التركية، مما ساعد على حلّ مشكلة انقطاع التيار الكهربائي؛ كما تُستخدم خطوط الجوال والعملات التركية؛ وهناك 500 شركة سورية تعمل بشكل قانوني عبر الحدود.
يقول أورهان أكتورك، نائب حاكم مقاطعة هاتاي التركية المجاورة، والمسؤول عن عفرين: “هدفنا الرئيسي هو جعل حياتهم طبيعية قدر الإمكان، وإبقاء المدارس مفتوحة، وتسيير عمل المستشفيات حتى يتمكن الناس من استئناف حياتهم”. لكن الواقع أن أنقرة تدخلت في سوريا من أجل أن لا يزيد عدد السوريين النازحين إلى أراضيها. وتستضيف تركيا بالفعل أكبر عدد من اللاجئين السوريين في العالم، حيث يصل عددهم إلى 3.6 مليون لاجئ مسجل رسميا. ولطالما دعا الرئيس التركي إلى إنشاء منطقة حظر طيران ومنطقة آمنة محمية دوليا في شمال سوريا.
في الوضع الحالي، أنشأت القوات التركية هذه المنطقة لخدمة مصالحها. وفيما تشرف الأمم المتحدة على تقديم معظم المساعدات الإنسانية للنازحين السوريين، تسعى تركيا للإشراف عن قرب على عمل منظمات الإغاثة الدولية في المنطقة.
تدخلت تركيا لأول مرة في سوريا سنة 2016 في عملية مشتركة مع الجيش الأمريكي ضد تنظيم الدولة، ثم في عفرين سنة 2018، وتدخلت مرة أخرى في سنة 2019 بعد أن سحب الرئيس دونالد ترامب فجأة القوات الأمريكية من المنطقة.
في الواقع، سمح اتفاق أردوغان مع ترامب لروسيا والحكومة السورية باستعادة السيطرة على مناطق في شمال شرق سوريا، الأمر الذي كان كارثيا بالنسبة للمعارضة. في السنة الماضية، اتخذت أنقرة موقفا مفاجئا ضد الهجوم الروسي السوري على محافظة إدلب، وأظهرت رغبتها وقدرتها على حماية مناطق نفوذها.
يقول معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لمنظمة الطوارئ السورية، ومقرها في واشنطن، إن وضع خط أحمر في إدلب حوّل تركيا من لاعب سيء في المنطقة إلى لاعب جيد، أو على الأقل إلى طرف له مصالح مشتركة مع واشنطن.
ويدعو مصطفى إدارة الرئيس بايدن إلى استئناف الاتصالات العسكرية مع تركيا وتزويدها بالدعم اللوجستي والاستخباراتي لتعزيز دفاعها عن الجزء المتبقي تحت سيطرة المعارضة.
وأضاف مصطفى قائلا: “يعتبر شمال غرب سوريا وإدلب مفتاح القضية”، مشيرا إلى أن إدلب، التي يعيش فيها حاليا أربعة ملايين نسمة، منهم مليون طفل، في مساحة تتقلص تدريجيا، تمثل ضرورة إنسانية واستراتيجية. ويرى مصطفى أن “إدلب وحدها، في حال تعرضت للهجوم، سوف تضاعف عدد اللاجئين في أوروبا”.
لكن سيطرة الأتراك التي يرحّب بها الفارون من نظام الأسد، لا تخلو من المنغصات. منذ تدخل تركيا في المنطقة، وقعت عديد الهجمات الإرهابية – 134 هجوما في سنتين ونصف – بما في ذلك انفجار أربع سيارات مفخخة في المنطقة هذا الشهر. وقال أكتورك إن قوات الأمن أحبطت مئات الهجمات الأخرى.
من جهته، قال قائد الشرطة التركية في عفرين إن 99 بالمئة من الهجمات خطط لها حزب العمال الكردستاني، الحركة الانفصالية الكردية، وفرعها في سوريا، وحدات حماية الشعب، المتحالفة مع القوات الأمريكية في محاربة تنظيم الدولة.
في هذا السياق، أكد أكتورك أن السيارات المفخخة التي انفجرت مؤخرا تم إخفاؤها في شاحنات جلبها تجار غير شرعيين من منطقة منبج التي يسيطر عليها الأكراد، وقد فقد أحدهم ابنه في انفجار بالمنطقة الصناعية في عفرين.
وقال وزير الدفاع التركي خلوصي آكار الأسبوع الماضي إن تركيا ستطرح مناقشة مسألة الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية ضمن القضايا ذات الأولوية مع إدارة بايدن.
في عفرين، تعامل الأتراك مع المسألة الأمنية مثل أي قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي، حيث أحاطوا المباني الإدارية بجدران خرسانية عالية وأغلقوا “المنطقة الخضراء” التي تشمل شارع التسوق الرئيسي في وسط المدينة. وقد اشتكى أصحاب المتاجر السوريون من تضرر تجارتهم جراء هذه الإجراءات.
يقول إبراهيم حاج خليل، صاحب محل فايف ستارز للآيس كريم، “إننا نتدبر أمرنا، لكن الأمر صعب للغاية”. ويضيف أن عدد العملاء تقلص بشكل كبير بعد انفجار شاحنة وقود مفخخة في السوق في أبريل الماضي. ويتابع قائلا: “اعتدنا أن يكون لدينا طوابير في الشارع، ولكن الآن لا يوجد أحد”.
وطالب سعيد سليمان، رئيس المجلس المحلي، بمزيد من الدعم قائلا: “نحن بحاجة إلى مزيد من الدعم الدولي والمزيد من المساعدات من المنظمات غير الحكومية”.
يعتقد ملايين الأشخاص أن تركيا تقدم الفرصة الوحيدة.
تقول نور حلاق، وهي ناشطة سورية تعيش في الجزء الخاضع للسيطرة التركية من محافظة حلب، إن الطلاب السوريين مشغولون بتعلم اللغة التركية والبحث عن طرق للوصول إلى تركيا للدراسة أو العمل. وتضيف: “إنه شيء يجعلني أضحك وأبكي في الوقت ذاته. اللغة التركية تنتشر، إنها اختيار الشعب”.
بالنسبة للعائلات في المخيم القريب من عفرين، لا خيار لهم إلا طلب الحماية من تركيا. تقول رسمية هونان العبد الله وهي تحمل طفلًا صغيرًا بين ذراعيها: “نحن 16 شخصا نعيش في خيمة واحدة. كل شيء صعب للغاية، العثور على الخشب والطعام”. وتضيف أن زوجها طريح الفراش وفاقد للبصر، لكن “الأطفال يعملون أحيانًا ويجمعون البلاستيك”.
تضغط العائلات في المخيم من أجل مساعدتهم في البحث عن أقاربهم المحتجزين في سجون نظام الأسد، ويؤكد المسؤول عن المخيم أن كل فرد تقريبا لديه أقارب يحتجزهم النظام.
يقول جرير سليمان، أحد النازحين المسنين المقيمين في المخيم: “لو لم نكن خائفين، لما جئنا إلى هنا”. يؤكد سليمان أنه كان في السابق من مالكي الأراضي الأثرياء، قبل أن تفسد القوات الحكومية بساتين الزيتون التي كان يملكها في قرية خيارة جنوبي دمشق. وقد استبعد جرير العودة إلى قريته ما دام الأسد في السلطة، وأضاف: “لن نعود إلى قرانا حتى توفر لنا تركيا الحماية. بدون الأتراك لا يمكننا البقاء على قيد الحياة”.
المصدر: نيويورك تايمز