بينما كانت وسائل الإعلام العالمية تبرز أخبار الخلاف العسكري والسياسي المتصاعد بين فرنسا وتركيا في الأشهر الأخيرة، بدأت خلف الأبواب توترات من نوع آخر بين البلدين، ثقافية هذه المرة، وهو ما يظهر حجم الصراع والتنافس الذي وصلت إليه العلاقة بين البلدين في السنوات الأخيرة، فإلى جانب الخلاف المرتبط بدعم الوحدات الكردية في سوريا والعمليات العسكرية التركية في شمال العراق، تفجر خلاف كبير بين البلدين بشأن الملف الليبي كاد يتحول إلى اشتباك مسلح مع امتداده وارتباطه بشكل مباشر بصراع شرق المتوسط الذي انخرطت فيه فرنسا بقوة إلى جانب اليونان ضد تركيا، وليس انتهاءً بالموقف الفرنسي من نزاع قرة باغ في أذربيجان.
وهي جميعها تأتي في سياق تنافس نفوذ إقليمي ودولي واسع تصاعد بين البلدين في المنطقة ووصل إلى دول المغرب العربي، ودول أخرى في أقاصي القارة الإفريقية مثل مالي، لكن الصراع بين البلدين، لم يقف عند هذا الحد، وامتد مؤخرًا ليشمل ملفات مختلفة تتعلق بالثقافة والتعليم وتأثير المجموعات الداخلية المؤثرة في البلدين، حيث عمل ماكرون على التضييق على الجالية التركية والمدارس التركية ومساجد رئاسة الشؤون الدينية التركية بطرق مختلفة كان أبرزها قانون محاربة الانفصالية.
في المقابل بدأت تركيا بالتضييق على المدارس والجامعات المرتبطة بفرنسا على أراضيها في مسلسل تضييق يجري في الخفاء ولا يُعرف إلى أين سيصل بعد.
أسباب الخلاف
وصل الخلاف السياسي بين تركيا وفرنسا لمراحل متقدمة قد تضر بأعرق الشراكات الثقافية بين البلدين، والمتضرر الأكبر جامعة غلطة سراي التركية التي تعتبر جوهرة هذا التلاقي الثقافي، وذلك بحسب تقرير استقصائي لموقع “ميديا بارت” الفرنسي، جاء فيه أن السلطات التركية طلبت من البعثة التدريسية الفرنسية شرط إتقان اللغة التركية لاستكمال إجراءات استخراج إقامات العمل الخاصة بهم، بعد أن عرقلت إجراءات استخراج الإقامات في وقت سابق.
وبحسب التقرير، فإن هذا الإجراء الجديد جاء ردًا من السلطات التركية على مشروع القانون الفرنسي الذي يتناول النزعات الانفصالية، وهو القانون الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سابقًا، ويهدف بحسب رأيه إلى محاربة النزعة الإسلامية المتطرفة داخل الجمهورية الفرنسية.
الأمر الذي اعتبرته أنقره تهديدًا لمدارسها المختصة بتعليم اللغة والثقافة التركية بالإضافة طبعًا لجمعياتها الدينية الفاعلة على الأراضي الفرنسية.
انتقد الاتحاد الأوروبي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طريقة تعامل الحكومة التركية مع التظاهرات الطلابية، وجاء الرد سريعًا من أردوغان
وبالرجوع لعام 2019، عندما أرسلت تركيا بعثة دبلوماسية لمناقشة الحكومة الفرنسية وطلب السماح لها ببناء مدارس خاصة تركية على الأراضي الفرنسية، جاء الرفض سريعًا وبشكل حاد، حيث صرح وزير التعليم الفرنسي آنذاك جان ميشيل بلانكر بأن فرنسا لن تعطي الإذن بذلك، مؤكدًا أن تركيا في الفترة الأخيرة أدارت ظهرها لقيم العلمانية وبدأت بتبني الفكر الإسلامي التوسعي، وهذه المدارس ما هي إلا وسيلة تسعى لنشر نسخة مسيّسة من الإسلام على الأراضي الفرنسية.
وبالنظر إلى هذه الإجراءات والتصريحات، فإن باريس لم تترك لأنقرة فرصة أخرى للتعامل مع سياساتها سوى بالمثل، ولكن يرى البعض من منظور مختلف أن ما يجري اليوم في جامعة غلطة سراي ما هو إلا استمرار لمخططات حزب العدالة والتنمية لفرض سيطرته ومد نفوذه على أفضل وأعرق الجامعات التركية التي تعتبر بدورها آخر معاقل وحصون العلمانية في وجه أردوغان، ولتسيرها داخليًا يجري تعيين العمداء ورؤساء الجامعات الموالين لحزب أردوغان.
إذ تعد جامعة غلطة سراي على غرار جامعة “بوغازيتشي” من الجامعات التركية المرموقة، حيث يرتادها قرابة الـ5000 طالب عاملهم المشترك أنهم من الأذكى على مستوى البلاد، حيث يتبوأ خريجو هذه الجامعات ومثيلاتها مناصب عليا سواء في القطاع الحكومي العام أم في القطاع الخاص، لهذا يهدف أردوغان من خلال هذه التعديلات إلى وضع الأطر والسياسات التي قد تساعده على استمالة النخب الطلابية الشابة لتبني أفكاره ودعم مشروعة السياسي.
جدير بالذكر، أنه في الوقت الذي يتظاهر به طلبة ومدرسو جامعة البوسفور “بوغازيتشي” رفضًا لرئيس الجامعة الجديد، انتقد الاتحاد الأوروبي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طريقة تعامل الحكومة التركية مع التظاهرات الطلابية. وجاء الرد سريعًا من أردوغان عندما قال: “لا يحق لأي جهة التدخل في شؤوننا الداخلية وحقوق التجمع والتظاهر وحرية التعبير مضمونة وفقًا للدستور”، مضيفًا “على ماكرون حل مسألة السترات الصفراء أولًا”.
إذ ينص التعديل الدستوري الذي جرى بعد محاولة الانقلاب عام 2016 على منح رئيس الجمهورية الحق بتعيين رؤساء الجامعات مباشرة من خلال مرسوم رئاسي، وبذلك توقف العمل بالنظام السابق الذي كان يعتمد على الانتخابات الداخلية بشكل جزئي.
التعاون الثقافي بين البلدين
لم يمنع لا البعد الجغرافي بين البلدين ولا الاختلاف الديني من تعزيز أواصر الصداقة والتعاون بين فرنسا وتركيا قديمًا وحديثًا، فقد بدأت العلاقات الثنائية بين البلدين في الربع الأول من القرن الـ16 أي إبان فترة الخلافة العثمانية واستمرت بعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة إلى يومنا الحاليّ.
وتعزيزًا للتعاون التعليمي والثقافي، ففي تركيا اليوم 6 مدارس فرنسية تأسست في فترات مختلفة من زمن الدولة العثمانية تستخدم اللغة الفرنسية كأساس للتعليم بالإضافة للغة التركية، أقدمها ثانوية سانت بينوا الفرنسية التي أنشئت عام 1783 في مدينة إسطنبول.
وبعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة كفلت معاهدة لوزان الموقعة عام 1923 الحق لجميع المدارس الأجنبية باستمرارية ممارسة التعليم على الأراضي التركية ومن ضمنها المدارس الـ6 الفرنسية (سانت بينوا وسانت بولشيري ونوتردام دي سيون وسانت جوزيف – إسطنبول والقديس يوسف – إزمير وسانت ميشيل).
وتأكيدًا على قوة الروابط بين البلدين وتتويجًا للعلاقات التركية الفرنسية، أُنشئت جامعة غلطة سراي عام 1992على ضفاف البسفور في مدينة إسطنبول في حفل حضره الرئيسان الأسبقان الفرنسي فرانسوا ميتران والتركي توركوت أوزال، وتعد الجامعة الامتداد التاريخي لثانوية غلطة سراي العريقة التي تأسست عام 1481.
في الوقت الذي يجري تجريم هذه الاحتجاجات ووسمها بالإرهاب من الحكومة التركية، تدعم الحركات الطلابية وجميع أحزاب المعارضة هذا الحرك الطلابي وتصفه بالمشروع
وتعتبر غلطة سراي الجامعة التركية الوحيدة التي تعتمد اللغة الفرنسية كلغة للتعليم داخل أروقتها بالإضافة للمدرسة الثانوية الملحقة بها، ويضم طاقمها التعليمي 30 أستاذًا فرنسيًا ضمن ما يسمى بـ”بعثة التعاون التربوي واللغوي” التي تشرف عليها السفارة الفرنسية في تركيا، ويتم تخصيص ميزانية سنوية تبلغ 2.5 مليون يورو للطاقم العامل في الجامعة والثانوية.