قبل أسابيع قليلة مضت، كان مجرد طرح فكرة أن يغادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، البيت الأبيض، فضلًا عن كونه مستبعدًا، أمرًا مفزعًا بالنسبة لكثيرٍ من الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، وعلى رأسها النظام في مصر.
فبخلاف العلاقة الإستراتيجية المستقرة بين القاهرة وواشنطن لنحو 40 عامًا على أساس السلام والأمن، فقد نشأت علاقة شخصية حميمة بين الرئيس الأمريكي الذي ضرب عرض الحائط بكل القيم الأمريكية محل الفخر، دونالد ترامب، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى درجة اعتباره ديكتاتوره المفضل.
دعم ترامب السيسي في أحلك مواقفه، كما حدث في أخطر وأول خروج شعبي جماهيري ضد النظام المصري الحاليّ، سبتمبر/أيلول 2019، فقال إن الاضطرابات تحدث في كل بلاد العالم وإنه يثق في قدرة السيسي على ضبط الأمور، واستدرجا معًا إثيوبيا إلى مفاوضات شبه دولية بشأن قضية سد النهضة، أسفرت نتائجها عن إضعاف موقف أديس أبابا وهروبٍ محرج من الالتزام بالحلول السلمية شهده العالم.
في المقابل، أيد السيسي صراحةً أو ضمنيًا الرئيس الأمريكي في كثيرٍ من مشاريعه الإقليمية التي هددت بعضها الثوابت التاريخية والمصالح الإستراتيجية لمصر، مثل خطة القرن التي كان يراد لها قطع أوصال القضية الفلسطينية مقابل حوافز اقتصادية غير مستدامة، وأجندة التطبيع الخليجي مع الاحتلال التي تقلص من مكانة مصر على المدى البعيد لدى واشنطن، وتفتح الطريق أمام كثير من مشروعات الجغرافيا الاقتصادية إقليميًا، بما يهدد المركزية القديمة لمصر في المنطقة.
أما بعد خسارة ترامب الانتخابات، ومجيء رئيس آخر من الديمقراطيين، هو چو بايدن، كان المرجو والمتوقع منه حيال الأوضاع القاتمة في الإقليم، ونحو الإدارة المصرية بشكل خاص، مختلفًا عما حدث خلال السنوات الأربعة الماضية.
صحيح أن الإدارة الأمريكية الجديدة لديها أولويات داخلية وخارجية قد تكون أكثر أهمية من معالجة أخطاء ترامب في هذا الشأن، وصحيح أن هذه الإدارة لم يمر على توليها السلطة رسميًا إلا شهر تقريبًا، لكن كما يقولون فإن مستقبل الأشياء وطريقة الحكم عليها في الحياة بشكلٍ عام، وفي السياسة بشكل خاص، تتحدد وفق الطريقة التي تبدأ بها الأمور وتنتهي، خاصة أن الرئيس بايدن كان قد تعهد من قبل خلال حملته الانتخابية باتباع سياسة مغايرة لسياسة ترامب فيما يخص الشأن المصري.
يراوغ النظام المصري الإدارة الأمريكية في حقيقة نواياه نحو التغيير، والإدارة الأمريكية إما صامتة وإما تقدم له الهدايا
وبالفعل كانت مرحلة ما بعد إعلان تقدم الرئيس الأمريكي الحاليّ في السباق الانتخابي وما قبل توليه المنصب مباشرة، مبشرةً على مختلف الأصعدة الإقليمية، ومنها مصر، لكن في هذه الآونة، لا يبدو أن الأوضاع تسير في نفس الاتساق، إذ يراوغ النظام المصري الإدارة الأمريكية في حقيقة نواياه نحو التغيير، والإدارة الأمريكية إما صامتة وإما تقدم له الهدايا.
بشائر بايدن
في تلك الفترة قبل 4 أشهر من الآن، كانت الديكتاتوريات العربية تتبارى في استظهار علامات تغيير جلدها أمام الإدارة الأمريكية الجديدة بشكل ملحوظ، عبر الإفراجات السياسية وإخراج ملفات تحسين الأوضاع الاجتماعية من الأدراج العتيقة.
أفرج النظام المصري عن دفعات متتالية من المعتقلين، بدايةً من أعضاء المبادرة المصرية لحقوق الإنسان، مرورًا بعشرات المعتقلين السياسيين ممن اعتقلوا خلال الموجة الثانية من مظاهرات المقاول سبتمبر/أيلول الماضي، وصولًا إلى الإفراج عن أقارب الناشط الأمريكي، المصري سابقًا، ونجل أحد أبرز قيادات الإخوان: محمد سلطان.
بعد إعلان تفوق بايدن على ترامب في المؤشرات الأولية للانتخابات أيضًا، هرع السيسي إلى خطب ود الرئيس الأمريكي الجديد، فكان من أوائل الرؤساء المهنئين بهذه النتائج غير الرسمية، وقد سربت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المطلعة على حركة “اللوبيات” خبر تعاقد النظام المصري مع شركة علاقات عامة ومحاماة بقيمة 65 ألف دولار شهريًا بغرض تحسين صورته عند الإدارة الجديدة.
بالتزامن مع هذه التحركات المصرية، أعلنت كل من السعودية والإمارات حزمة إصلاحات اجتماعية جديدة تتعلق بنظام الكفالة الذي يشبه العبودية في المملكة، وببعض الإصلاحات الليبرالية التي تخص تقنين الاختلاط وتحرير المرأة في الإمارات العربية المتحدة.
لم يكن هناك أي تفسير لهذه التحركات إلا استباق هذه الأنظمة، الملكية العائلية في الرياض وأبو ظبي والجمهورية العسكرية في القاهرة، مجيء الرئيس الأمريكي الجديد، فهذه الأنظمة تتحفظ في الأصل تحفظًا شديدًا على الحريات السياسية بمعناها العام، وقد جاءت هذه الإصلاحات متزامنةً إقليميًا من جهة، ومتزامنة مع المؤشرات الأولية لانتخاب رئيسٍ قال إن برنامجه الخارجي يتضمن مراجعة سياسات بلاده مع هذه الدول بوضوح، من جهة أخرى.
مسكنات شكلية
حتى أيامٍ قليلة مضت، ظل مؤشر الرهان على إدارة بايدن لدى أنصار فتح المجال العام في العالم صاعدًا، حيث أعلن الرئيس الأمريكي تراجعه عن سياسات سلفه الانغلاقية والداعمة للاستبداد، فسمح مجددًا بهجرة المسلمين إلى أمريكا وعاد إلى اتفاقية المناخ وعلق صفقة السلاح الضخمة إلى الإمارات وكرر دعمه وقف الحرب على اليمن وانتقد التعسف الصيني ضد أقلية الإيغور المسلمة.
بدأ السيسي يغير من خطابه الداخلي مع المصريين إيجابيًا بشكلٍ ملحوظ، وظهر حوار إعلامي محلي عن ضرورة تغيير بعض سياسات لتلافي إغضاب الإدارة الأمريكية
أمام هذه التطورات التي من البديهي أنها ستمتد إلى المنطقة، أعلنت دولٌ مثل الإمارات تغييرات في تشكيلتها الوزارية، حيث سحبت قيادات طالما عرفت بنزعتها التأجيجية وأحلت محلها وجوهًا أخرى جديدة، كما حدث في وزارة الخارجية، وقالت تقارير صحافية مؤكدة إن السعودية أفرجت عن أبرز الناشطات النسويات العاملات في المجال الحقوقي لچين الهذلول.
وفي مصر التي قال بايدن عن رئيسها إنه لن يحصل على شيكات بيضاء مجددًا، أفرج النظام عن أشهر صحافي في سجونها، محمود حسين مراسل الجزيرة المعتقل منذ 4 أعوام، وبدأ السيسي يغير من خطابه الداخلي مع المصريين إيجابيًا بشكلٍ ملحوظ، وظهر حوارٌ إعلامي محلي عن ضرورة تغيير بعض سياسات لتلافي إغضاب الإدارة الأمريكية الجديدة.
طالب السيسي في مداخلةٍ تليفزيونية على إحدى القنوات المصرية المملوكة للسعودية الشعب المصري بالثبات خلال الفترة القادمة، لأن الأمور في الخارج ترتبط وثيقًا بما يحدث في الداخل على حد قوله، وأظهر رفقًا نادرًا بالمصريين في زيارةٍ استثنائية إلى إحدى أسوأ المناطق العشوائية بالقاهرة بصحبة حكومته، وأطلق عددًا من المشروعات القومية الجديدة التي ينتظر أن تحدث نقلة نوعيةً في حياة ملايين المصريين، فيما يشبه خطة إعادة بث الروح في شرعية وجوده مجددًا، داخليًا وخارجيًا.
هذه الخطوات جاءت بالتزامن مع إطلاق الإعلامي المقرب من النظام، عمرو أديب، الذي شهد برنامجه “الحكاية” مداخلة السيسي على فضائية “إم بي سي مصر”، حوارًا إعلاميًا عن الأسماء المطروح الإفراج عنها والسياسات التي ينبغي اتباعها، لنزع فتيل الاحتقان بين النظام المصري وإدارة بايدن التي تتحفظ على سياسات النظام أيضًا.
ريما والعادة القديمة
تحقق للسيسي ما أراد، فقد حصد تصفيق إدارة بايدن التي احتفت بقرار إفراجه عن الاسم المعروف في قناة الجزيرة، مرحبةً بالخطوة ومثمنةً إياها، لكنه عاد إلى سياساته الأصلية بمجرد إدارة المسؤولين الأمريكيين عيونهم عنه، حيث اعتقل أسماء أخرى سبق وأفرج عنها.
بحلول الثانية فجرًا، يوم الأحد الماضي، أعادت السلطات المصرية القبض على 2 من أقارب الناشط محمد سلطان من الإسكندرية والمنوفية، كانت قد أفرجت عنهما في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد اعتقالهما ضمن حملةٍ أمنية ضمت 5 من أقارب سلطان، يونيو/حزيران الماضي، بغرض الضغط عليه عقب رفعه قضيةً ضد حازم الببلاوي، رئيس الوزراء المصري الأسبق، في وقائع تعذيب خلال فترة حبسه في مصر بعد فض ميدان رابعة العدوية.
اللافت هنا، أنه رغم هذه المقامرة التي شرع فيها المسؤولون المصريون بمعاودة اعتقال أشخاصٍ كان الإفراج عنهم محل ثناءٍ أمريكي وعلامة على نية احتواء الوعود الأمريكية بتحسين وضع حقوق الإنسان في مصر، أعلنت الخارجية الأمريكية موافقتها على تمرير صفقة سلاح ضخمة إلى النظام المصري بقيمة تناهز 200 مليون دولار أمريكي، أمس الثلاثاء.
تضم الصفقة نحو 170 صاروخًا جويًا متطورًا من طراز “RAM Block II”، شاملة الخدمات الفنية واللوجيستية ووثائق التشغيل وعددٍ من السفن الهجومية الصغيرة، برعاية وكالة التعاون الأمني الدفاعي بوزارة الدفاع، وتوريد شركة “رايثيون” الأمريكية المعروفة.
السيسي يستخدم أسلوبًا مركبًا في التعامل مع الإدارة الأمريكية الحاليّة، فهو يعلم أن هناك نزاعًا بين مصالح الإدارة المرتبطة بالتقاليد الأمنية الراسخة مع مصر وقيم حقوق الإنسان التي تريد نفس هذه الإدارة الدفاع عنها
بررت الإدارة الأمريكية هذه الصفقة بأنها جزء من ترتيبات أمنية تهدف في الأخير إلى حماية المصالح الوطنية في الخارج، وأنها لن تؤثر على التوازن الإقليمي في المنطقة، وأن النظام المصري سيستخدم هذه المعدات في الحرب المشتركة على الإرهاب وحماية مداخل قناة السويس، الممر الملاحي الدولي المهم.
مؤشرات خطيرة
اعتبر محمد سلطان إعادة السلطات المصرية اعتقال بعض أقاربه تحديًا من النظام المصري إلى بايدن والضحية أناس لا علاقة لهم بالأمر، وهو كذلك على الأرجح، لأن الرئيس الأمريكي كان قد تبنى بنفسه ملف الإفراج عن أقارب سلطان من السجون المصرية خلال حملته الانتخابية، ولأن القوانين الأمريكية من المفترض أنها تحمي أقارب المواطنين بشكل يصل إلى فرض عقوبات على الأنظمة التي تستمرئ ترويعهم، ولأن سلطان يعد خصمًا سياسيًا للنظام المصري في الوقت الحاليّ.
أما ملف صفقة السلاح، فبغض النظر عن حاجة الجيش المصري إليها، فهي مسألةٌ فنية تخضع إلى تقديرات المتخصصين، لكنها من زاويةٍ سياسية مؤشر غير إيجابي، خاصةً في ضوء معرفة أن عددًا من نواب المجالس النيابية في الولايات المتحدة يخوضون سجالًا داخليًا منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي لربط جزءٍ من المعونة بتطور سجل النظام في مصر بملف حقوق الإنسان، ومن ناحية التوقيت، يعتبر هذا أول قرار رسمي من إدارة بايدن بخصوص الوضع في مصر.
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد قال في كلمةٍ رسمية مصورة خلال مناقشة الموازنة الجديدة للبلاد قبل ساعات من تسليم السلطة إلى بايدن إنه غير ميال لفكرة تمرير كامل المساعدات الأمريكية للجيش المصري، بسبب مخالفة الأخير لقانون معاقبة الدول المتعاونة مع خصوم الولايات المتحدة، في إشارة للتعاون التقني بين الجيش المصري ونظيره الروسي، وما ينفقه النظام في مصر من أموال في هذا الصدد.
رجح سلطان أيضًا بحسب ما ورد في تغطية “واشنطن بوست” لهذا الخبر، أن يكون سبب هذا الإجراء الانتقامي هذه المرة دعمه لـ”تجمع حقوق الإنسان في مصر”، الذي ساهم في تأسيسه عضوا الكونغرس الديمقراطيان، دون باير من ڤيرجينيا وتوم مالينوسكي نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، بغرض الضغط على النظام المصري لتحسين سجله الحقوقي، في الذكرى العاشرة لثورة يناير، الشهر الماضي.
من المرشح أن تكرر هذه الأنظمة نفس أسلوب السيسي، الذي صاغه بعد مداولاتٍ بدأت قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية، بين وزارة الخارجية والمخابرات والأمن الداخلي
وفقا لمحللين تحدثوا مع الصحيفة الأمريكية، فإن السيسي يستخدم أسلوبًا مركبًا في التعامل مع الإدارة الأمريكية الحاليّة، فهو يعلم أن هناك نزاعًا بين مصالح الإدارة المرتبطة بالتقاليد الأمنية الراسخة مع مصر وقيم حقوق الإنسان التي تريد نفس هذه الإدارة الدفاع عنها، كما يعلم أنه لا يريد الصدام مع هذه الإدارة في نفس الوقت الذي لا يريد خلاله أن تؤدي هذه الرغبة إلى تمرير رسائل مستمرة للداخل بأنه يخشى ردة فعل الأمريكيين، ومن ثم، فإنه يقوم بإجراءات تبدو متناقضة ظاهرًا، لكنها تهدف إلى الحفاظ على الوضع الحاليّ بأقل الخسائر الممكنة.
قد يكون هذا الأسلوب مثاليًا بالنسبة للسيسي، لكنه ليس بنفس الوصف بالنسبة للإدارة الأمريكية التي تعهدت بضمان الحد الأدنى من الانفتاح في مصر، أو بالنسبة لمستقبل بعض الإصلاحات الشكلية التي تعتزم بعض الديكتاتوريات العربية تنفيذها، إذ من المرشح أن تكرر هذه الأنظمة نفس أسلوب السيسي الذي صاغه بعد مداولاتٍ بدأت قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية، بين وزارة الخارجية والمخابرات والأمن الداخلي، على حد قول مراقبين.