عاد الجزائريون إلى الشوارع وعادت معهم الأصوات المنادية بالإصلاح في الذكرى الثانية لحراكهم الشعبي، فرغم مرور سنتين على الحراك لم يتغير شيء في البلاد، ذلك أن سياسة مد اليد للحوار التي اتبعها الرئيس عبد المجيد تبون في بداية ولايته الرئاسية سرعان ما تغيرت وأصبحت سياسة القبضة الحديدية.
تجدد المظاهرات
في الوقت الذي ما زالت إجراءت الغلق الصحي سارية في الجزائر، قرر الآلاف الخروج في خراطة (شرقي الجزائر) إحياءً للذكرى الثانية من الاحتجاجات الشعبية التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
شارك في هذه المظاهرة شخصيات سياسية عديدة على غرار محسن بعباس رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وزبيدة عسول رئيسة حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي، وكريم طابو المعتقل السابق والمنسق الوطني لحزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي غير المعترف به والأمين العام السابق لحزب جبهة القوى الاشتراكية.
في هذه المظاهرة رفعت لافتات، كتب عليها “من أجل استقلال الجزائر” و”الجنرالات في سلة المهملات” و”الرئيس تبون مزور غير جابوه العسكر” وغيرها من الشعارات التي رفعت قبل سنة وسنتين لكن لم يتحقق منها شيء.
تعتبر مدينة خراطة (محافظة بجاية) مهد الحراك الجزائري، ففي الـ16 من شهر فبراير/شباط 2019، شهدت المدينة التي تعد معقلًا لأحزاب معارضة، مظاهرة ضخمة، حيث خرج المئات من المتظاهرين، رافعين أعلامًا سوداء تعبر عن الألم ورفضهم الكبير لإصرار السلطات الحاكمة على فرض عبد العزيز بوتفليقة “القعيد” لخمس سنوات أخرى على كرسي الرئاسة.
كانت تلك المظاهرة الشرارة الأولى لمظاهرات أخرى ستشهدها مدن الجزائر المختلفة، ما أربك سلطات البلاد التي اتهمت منظميها والمشاركين فيها بتهديد الأمن العام واستقرار البلاد، رغبة منها في محاصرتها، حتى لا تسمح بتوسعها وانتشارها، الأمر الذي من شأنه إدخال البلاد في أتون المجهول، وفق تصور القائمين على النظام.
تطورت المظاهرات وارتفعت المطالب وقويت الإرادة وهاجس الخوف رحل بلا عودة، حتى تمكن الجزائريون من الضغط على الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة وأجبروه على الاستقالة من منصبه والرحيل عن قصر المرادية دون رجعة.
نتيجة حتمية
عودة تحرك الشارع في الجزائر في رأي الصحفي رياض المعزوزي نتيجة حتمية، نظرًا إلى الترجمة غير المجسدة لوعود الرئاسة على الأرض، خاصة ما تعلق بفتح صفحة حوار شامل مع الحراك وتلبية مطالبه، مع انهيار الوجه الاقتصادي بداية بالدينار الجزائري وصولًا إلى القدرة الشرائية.
يرى المعزوزي في حديثه مع “نون بوست” أن “تواصل مسلسل اعتقالات الرأي وناشطي الحراك زاد الطين بِلَة، فالسلطة كما يراها وقعت في تناقض مع نفسها، فهي تعتبر الحراك الشعبي مباركًا وقطيعةً مع عهد العصابة وبوابةً لمرحلة الجزائر الجيدة، وتم ترسيم 22 من فبراير/شباط يومًا وطنيًا وتاريخيًا، ومن جهة أخرى ما زال عدد من نشطاء الحراك يقبعون في السجون”.
حتى اليوم، يقبع العشرات من النشطاء بسبب مشاركتهم في الحراك الشعبي في السجون ومراكز الإيقاف
التناقض أيضًا، يظهر في التضييق على الإعلام لكي لا يتكلم عن الحراك كأنه جريمة، بدليل أن مسيرة خراطة في 16 من فبراير/شباط 2021 رغم مهابتها وجاءت عشية إحياء الذكرى الثانية للحراك ومشاركة مئات الآلاف بها، فإنها لم تنقل ولو كصور سواء على التليفزيون الرسمي أم القنوات الخاصة.
هذا الأمر، سيزيد وفق المعزوزي، من عمق الهوة في منسوب الثقة بين الشعب والسلطة، ويعتقد المعزوزي أن جائحة كورونا أعطت للسلطة فرصةً لتجسيد الإصلاحات والوعود في ظل خمول الحراك مع بداية انتشار الوباء، لكنها لم تستثمر الفرصة.
عوض تنفيذ الإصلاحات، استغل نظام تبون تراجع وتيرة الحراك الشعبي بفعل جائحة كورونا، من أجل التضييق أكثر على الجزائريين، حيث واصلت السلطات حملة قمعها للنشطاء، فتوالت المحاكمات التي تستهدفهم بتهم تستند إلى مشاركتهم في الاحتجاج السلمي أو انتقاد السلطات.
ومارس النظام طيلة أشهر عدة سياسة القبضة الحديدية، حيث ضاعفت السلطات من وتيرة الاعتقالات والملاحقات القضائية والإدانات للنشطاء والمعارضين والإعلاميين ورواد مواقع التواصل، من أجل منع الحراك الذي أعاقه الوباء من أن يستعيد عافيته.
حتى اليوم، يقبع العشرات من النشطاء بسبب مشاركتهم في الحراك الشعبي في السجون ومراكز الإيقاف، منهم من تمت محاكمته ومنهم من ينتظر إلى الآن، ويأتي ذلك بالتزامن مع استهداف وسائل الإعلام المستقلة والمعارضة للنظام.
ويتوقع الصحفي الجزائري عودة الحراك إلى الشوارع الجزائرية بداية من الـ22 من الشهر الحاليّ، خاصة مع بداية عودة الحياة إلى حالتها العادية أمام تراجع أعداد الإصابات بفيروس كورونا ووصول لقاحات من روسيا وبريطانيا.
ازدواجية الخطاب والممارسة
يرى الناشط السياسي سمير بلعربي، أن هناك فرقًا بين التصريحات والأفعال عند الماسكين بالحكم في الجزائر، فالنظام وفق بالعربي يستعمل ازدواجية الخطاب والممارسة، فمنذ تنصيبه ونحن نسمع حديثًا عن تهدئة ومصالحة وطنية ورص الصفوف وإطلاق سراح المعتقلين لكن الممارسات خلاف ذلك تمامًا.
وأكد بلعربي في حديث لـ “نون بوست” أن “الوعود التي أطلقها تبون مخالفة تمامًا لما نعيشه على أرض الواقع، فقد استطاع بخبثه أن يركب على ثورة شعبية مباركة وأن يعمل على تحويلها وسرقتها واستعمالها لبقاء النظام وإعادة هيكلة نفسه بنفس الممارسات والآليات”.
كل المعطيات تؤكد أن الحراك الذي بدأ قبل سنتين في خراطة سيتواصل وسيعاد تشغيله في وقت ما قريب
كان الرئيس تبون قد عرض مباشرة بعد استلام مهامه على رأس السلطة في البلاد الحوار على الحراك، حيث قال في مؤتمر صحافي: “أتوجه مباشرة للحراك المبارك وأمد له يدي لحوار جاد من أجل جمهورية جديدة”، كما التزم أن يصدر قرارات تتماشى مع طلبات الحراك، وتطلع إلى أن يتحرر جهاز القضاء بعد الحراك، بعد أن كان يعمل بالهاتف واستعمل أحيانًا كأداة قمع (لأن العدالة كانت مسيسة)، آملًا في أن حرية العدالة ستكرس إلى الأبد.
لكن كل ذلك لم يحصل، فالصديق المقرب لبوتفليقة واصل نهج سلفه وتنكر لوعوده التي كان الهدف منها فقط ربح الوقت وامتصاص غضب الشارع وتهدئته في مرحلة أولى وتشتيت قواهم في مرحلة ثانية حتى يحكم قبضته على الحراك بصفة قطعية في مرحلة ثالثة.
ويؤكد سمير بلعربي أن النظام الجزائري يعمل على تجديد نفسه داخليًا، فهو يرفض الانفتاح على الغير والتغير الحقيقي وبناء دولة حقيقية، كما يرفض أن تكون هناك مؤسسات منتخبة شعبيًا، فحتى لو ذهب لحل البرلمان وتنظيم انتخابات فلن يختلف المشهد عن البرلمانات التي عرفتها البلاد منذ1997.
يضيف بلعربي: “اللقاءات والاجتماعات التي نظمها تبون مع الأحزاب السياسية منذ توليه الحكم أسفرت عن خيبة أمل لدى الطبقة السياسية والمعارضة والشارع بعدم استجابته لأي مطلب من مطالب الحراك وقد ضيع فرصة حقيقية للاستماع لمطالب الشعب وإجراء تغيير حقيقي جاد وبناء”.
وأردف: “بدل الاستعانة بشخصيات ذات كفاءة ومصداقية، استعان عبد المجيد تبون بنفس رموز نظام عبد العزيز بوتفليقة، ما أفرز حكومة فاشلة لا تستطيع تسيير الشأن العام، ما جعل مطالب الحراك متواصلة”.
كل هذه المعطيات تؤكد أن الحراك الذي بدأ قبل سنتين في خراطة سيتواصل وسيعاد تشغيله في وقت ما قريب، فالدعوات للاحتجاج تزداد يومًا بعد يومٍ والوضع العام يزداد سوءًا دون أن يبدي النظام حسن النية لمعالجة مطالب المحتجين.