ألمحت إثيوبيا عن طريق المتحدث باسم وزارة خارجيتها، دينا مفتي، إلى رغبتها في قيام تركيا بالوساطة بينها وبين السودان من أجل حل النزاع الحدودي بين البلدين، والمتصاعد خلال الفترة الأخيرة، منوهة إلى إمكانية حل الأزمة في منطقة “الفشقة” الحدودية، بالطرق الدبلوماسية.
وقال مفتي: “سنشعر بالامتنان إذا عرضت تركيا القيام بدور الوساطة بيننا”، لافتًا إلى أن بلاده تتمتع بعلاقات بناءة مع دول القرن الإفريقي، قائلًا: “دون مبالغة، نمتلك علاقات رائعة مع كل إريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا، فضلًا عن السودان، رغم الخلاف الحدودي”، بحسب الأناضول.
تأتي تلك التصريحات على هامش زيارة مفتي لأنقرة، رفقة وزير خارجية بلاده ديميكي ميكونين، للاحتفال بالذكرى 125 لتأسيس العلاقات الثنائية الدبلوماسية، التي تخللها حفل افتتاح سفارة إثيوبية جديدة في العاصمة أنقرة، بمشاركة وزيري خارجية البلدين.
وتشهد العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا موجة جديدة من التوتر في أعقاب النزاع العسكري على المناطق الحدودية، حيث يتبادل الطرفان الاتهامات الخاصة بالاعتداءات العسكرية، فيما أعلنت الخرطوم، في 31 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، سيطرة الجيش على كامل أراضي بلاده في منطقة “الفشقة” الحدودية، الأمر الذي قوبل بتصعيد إثيوبي، وسط مخاوف من اندلاع حرب مباشرة بين البلدين.
علاقات تركية إثيوبية جيدة
تتمتع تركيا بعلاقات قوية مع إثيوبيا منذ عشرات العقود، إذ تأتي تلك العلاقات على رأس اهتمامات الأتراك بالقارة الإفريقية، نظرًا لما تمثله الدولة الإثيوبية من ثقل إستراتيجي شرق القارة، بجانب الروابط التاريخية والحضارية المشتركة بين البلدين التي كانت رافدًا قويًا لتعزيز أواصر الصداقة.
اقتصاديًا، هناك طفرة كبيرة في حجم التعاون بين البلدين خلال العقد الأخير تحديدًا، حيث بلغت الاستثمارات التركية في إثيوبيا نحو 2.5 مليار دولار، بما يعادل نصف الاستثمارات التركية في القارة الإفريقية، وهي النسبة التي ترغب أنقرة في رفعها بنحو 300% خلال السنوات القادمة.
كما يخطط الأتراك رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 420 مليون دولار ليبلغ مليار دولار بنسبة زيادة تبلغ 138% خلال الأشهر القادمة، علمًا بأن الشركات التركية في إثيوبيا توفر أكثر من 30 ألف فرصة عمل في مختلف المجالات، على رأسها النقل والطاقة والزراعة.
ثقافيًا، تعد تركيا من أوائل الدول التي حرصت على تعزيز الأواصر الثقافية والحضارية مع إثيوبيا، حيث شرعت في تطوير المناطق المرتبطة بالتاريخ الإسلامي كما هو الحال في منطقة “نجاش” الواقعة في أقصى شمال شرق إثيوبيا، بجانب تشييدها أحد أكبر المساجد في البلاد وهو مسجد “النجاشي” الذي يضم قبر ملك الحبشة (أصحمة بن أبهر 610 – 630 ميلادية) الذي آوى المهاجرين المسلمين الأوائل.
ومن ثم فإن العلاقات القوية بين البلدين والانفتاح الكبير بينهما خلال الآونة الأخيرة ربما تكون أرضية جيدة نحو وساطة تركية محتملة لتخفيف التوتر الحدودي مع الجار السوداني، خاصة في ظل العلاقات الجيدة نسبيًا بين الخرطوم وأنقرة.. لكن يبقى السؤال: هل يوافق السودان على الوساطة التركية؟
رغم أن أنقرة لم تحدد موقفها بعد من قبول تلك الدعوة، خيمت حالة من القلق على الأوساط القاهرية بعد الطلب الإثيوبي
ماذا عن السودان؟
العلاقات السودانية التركية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وتعود بدايتها للعام 1555، عندما دخلت المنطقة تحت سيادة الدولة العثمانية، فيما عرف حينها بإيالة “الحبش” على جزء من شرق السودان ودولة إريتيريا الحاليّة، أما العلاقات الرسمية للأتراك بشمال وجنوب السودان فقد بدأت في العام 1821.
تميزت العلاقات بين الخرطوم وأنقرة بالمتانة والقوة في كثير من محطاتها، إلا أنها في الآونة الأخيرة ومنذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، شابها بعض التوتر، بسبب خضوع عسكر السودان لإملاءات الإمارات والسعودية في ذلك الوقت.
ومع ذلك لم تتخل تركيا عن دعمها لإرادة الشعب السوداني، فيما تحدث رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، عن العلاقات السودانية التركية، خلال لقاء له يونيو/حزيران الماضي، مع السفير التركي في الخرطوم، عرفان نذير أوغلو، مشيدًا بتلك العلاقات في المجالات كافة.
ورغم عدم وجود خلافات معلنة على ساحة العلاقات بين البلدين، فإن ما يدور في الكواليس يذهب إلى وجود تأثير قوي للنفوذ الإماراتي السعودي على جنرالات الجيش السوداني وعلى رأسهم البرهان بجانب قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي” الذي يعد رجل محمد بن زايد في السودان، انعكس هذا النفوذ على مستوى العلاقات مع تركيا مقارنة بما كانت عليه إبان النظام السابق.
الصحفي السوداني وائل نصر الدين، يرى أنه لا تحفظات سودانية في الوساطة التركية طالما ستساهم في تخفيف التوتر بما يضمن حقوق الشعب السوداني، مشيرًا إلى أن قبول بلاده لوساطة أنقرة يتوقف على عدة شروط، أبرزها أن تنسحب إثيوبيا من الفشقة، لافتًا إلى أن هذا الشرط هو الحلقة الأصعب في هذا الملف، مضيفًا “لا تفاوض مع بقاء الاحتلال، يتم الانسحاب أولًا ثم التفاوض على وضع العلامات الحدودية”.
قلق القاهرة
رغم أن أنقرة لم تحدد موقفها بعد من قبول تلك الدعوة، فإن حالة من القلق خيمت على الأوساط القاهرية بعد الطلب الإثيوبي، حيث استنكر النائب البرلماني المصري علاء عصام العبودي هذه الخطوة التي وصفها بأنها تأتي في إطار “المكايدة السياسية والتهديد وربما لفتح قنوات لمساعدات مالية”.
العبودي خلال حديثه مع “روسيا اليوم” أضاف “إثيوبيا تبحث عن الدول التي لها عداء مع العرب وخاصة مصر والسودان كورقة ضغط في كل الملفات”، لافتًا إلى أن إثيوبيا تعلم جيدًا أن تركيا لن تستطيع أن تنقذها مثلما فشلت عندما استعان بها السراج في ليبيا.
بدوره واصل البرلماني المثير للجدل، مصطفى بكري، هجومه على أنقرة قائلًا: “لا شك أن الطلب الإثيوبي من تركيا للتدخل للوساطة بين السودان وإثيوبيا يحمل في طياته التحريض ضد السودان، فتركيا ليست طرفًا محايدًا ولا تصلح أن تكون وسيطًا كونها منحازة ضد السودان الذي أغلق قاعدة سواكن ومواقفها ضد المصالح العربية فهي تحاول أن تستعيد الماضي وتقوم بدور المستعمر في المناطق العربية”.
وتابع “كنت أتوقع أن تلجأ إثيوبيا لمنظمة الاتحاد الإفريقي أو إلى مجلس الأمن للتحكيم خاصة أن الجانب الإثيوبي هو المعتدي على السودان وحدود السودان وهو يدافع عن حدوده ضد الهجمات الإثيوبية على أراضيه، وأتمنى من الجامعة العربية أن تعلن موقفها تجاه هذا العدوان السافر على الأراضي العربية وأن تعلن دعمها الكامل للسودان وتتقدم بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن”.
مصادر خاصة لـ”نون بوست” أشارت إلى زيارة سرية سريعة لمسؤولين سعوديين للخرطوم خلال الساعات القليلة الماضية لبحث ملف الأزمة الحدودية
جدير بالذكر أن هناك العديد من مبادرات الوساطة عُرضت لأجل تخفيف هذا التوتر الحدودي، وعلى رأسها مبادرة الاتحاد الأوروبي، حيث أجرى المبعوث الأوروبي الخاص ووزير الخارجية الفنلندي، محادثات مكثفة في الخرطوم وأديس أبابا خلال المدة من السابع وحتى التاسع من فبراير/شباط الحاليّ، لكن أحدًا لم يعترض أو يتحفظ على مثل هذه التحركات.
وتخيم حالة التوتر على مناخ العلاقات التركية المصرية منذ الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في 2013، جعلت من أي تحرك تركي داخل إفريقيا أو في منطقة الشرق الأوسط “مثار شك وريبة وقلق” الأمر الذي جعل أنقرة دومًا في مرمى الانتقادات المصرية، رغم التهدئة النسبية التي تشهدها العلاقات مؤخرًا والمتمثلة في العديد من الشواهد.
هل تقبل أنقرة؟
العديد من المسائل المعقدة على الساحة السودانية تحديدًا تدفع أنقرة للتفكير مليًا قبل الموافقة على الطلب الإثيوبي، إضافة إلى أن القرارات الإلزامية لحلحلة تلك الأزمة تحتاج إلى كيان ذي حيثية إقليمية أو دولية، كالاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة، في ظل تشبث كل طرف بمواقفه، هذا بجانب ضرورة التنسيق المبكر مع بعض الدول المجاورة للبلدين.
مصادر خاصة لـ”نون بوست” أشارت إلى زيارة سرية سريعة لمسؤولين سعوديين للخرطوم خلال الساعات القليلة الماضية لبحث ملف الأزمة الحدودية، ومحاولة تقديم يد العون لتخفيف التوتر مع إثيوبيا، وهو التحرك الذي لم تقدم عليه الرياض إلا بعد طلب أديس أبابا الوساطة التركية.
ولم تكشف تلك المصادر عن الدوافع الحقيقية وراء تلك الزيارة وما إذا كانت تحريضًا ضد الوساطة التركية أم عرضًا لوساطة خليجية جديدة، في ظل العلاقات القوية التي تربط بين عواصم الخليج وعلى رأسها الرياض وأبو ظبي وطرفي النزاع، إلا أن إجراءها بعد ساعات قليلة من الطلب الإثيوبي يشير إلى أن لها أهدافًا محددةً، مع الوضع في الاعتبار أنها لم تكن محددة سلفًا.