تسعى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إعادة تقييم العلاقة مع السعودية، وفي هذا الإطار أعلنت المتحدثة باسم بايدن، أنه يعتبر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز محاوره المباشر، وليس ولي العهد محمد بن سلمان، كما كان في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
يأتي هذا التحول الجديد استكمالًا لسياسة إعادة ضبط العلاقة بين البلدين منذ وقف واشنطن صفقة أسلحة كانت قد وقعتها الرياض مع إدارة ترامب قبل فترة، حيث ترى الإدارة الجديدة أن التعامل مع ابن سلمان كشريك يمثل تحديًا دبلوماسيًا يتعارض وتعهداتها السابقة بشأن تعزيز حقوق الإنسان والمصالح الأمريكية حول العالم، باعتباره وزير دفاع بلاده والمسؤول الأول عن حرب اليمن ذات السمعة السيئة.
الأمور تسير بخطوات متسارعة، فربما يتحول عدم الاتصال مع ولي العهد إلى أكثر من مجرد التجاوز، ليتحول إلى “استبدال وتغيير أدوار” خاصة إن أخذت إدارة بايدن بالطلب الذي وجهه تقرير معهد “بروكينجز” بالضغط على السعوديين لإنهاء حالة الإقامة الجبرية لولي العهد السابق، الأمير محمد بن نايف، بل واعتباره رمزًا بديلًا لابن سلمان، خاصة أنه كان مقربًا من إدارة باراك أوباما ونائبه الرئيس الحاليّ، لدوره الفعال – من وجهة نظرهم – في مكافحة الإرهاب، ما دفع مسؤولين أمنيين أمريكيين لاعتباره من أهم وأذكى الشركاء في هذا الإطار، كما جاء على لسان المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية، جورج تينيت.
التوجه الجديد للإدارة الأمريكية يحمل الكثير من الرسائل والدلالات التي ربما تعيد بشكل أو بآخر رسم الكثير من المعادلات الإقليمية وتُحدث تغييرات جذرية في التعاطي مع عدد من الملفات الحساسة في المنطقة، لكن يبقى السؤال الأبرز: هل تقوض إدارة بايدن أحلام الأمير الشاب بأن يصبح ملكًا للبلاد وخادمًا للحرمين ذات يوم؟
صفعة لولي العهد
في تحليل مطول لها أشارت صحيفة “كوريير Kurier“ النمساوية أن سمعة ولي العهد السيئة التي تشوهت بفضل سياساته الداخلية والخارجية، ونجم عنها الكثير من الجرائم والانتهاكات أبرزها مقتل الصحفي جمال خاشقجي والحرب في اليمن، كانت سببًا رئيسيًا في امتعاض إدارة بايدن حيال التعامل معه.
الصحيفة نقلًا عن خبراء كشفت ملامح النهج الجديد لإدارة بايدن الذي يأخذ في الاعتبار استبعاد المتورطين في قضايا ضد الإنسانية وجرائم حرب من الحوار المباشر، التزامًا بالعهود التي قطعها الرئيس على نفسه خلال حملته الانتخابية، لافتة إلى حث السلطات السعودية المستمر من أجل إحراز تقدم في الملف الحقوقي لتحسين الأجواء بين البلدين خلال المرحلة المقبلة.
وفي المقابل فإن الإدارة الجديدة عبّرت أكثر من مرة عن استمرار دعمها الكامل للسعودية من أجل الدفاع عن نفسها في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما يعني أن العلاقات بين البلدين ستحافظ قدر الإمكان على ثوابتها الراسخة في ظل المصالح المشتركة، حتى إن عكر صفوها استحداث بعض الأدوات.
الباحث البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والمسؤول السابق في قسم الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية، آرون ديفيد ميللر، وصف هذه الخطوة بأنها “صفعة لمحمد بن سلمان، الذي تعتبره الإدارة الأمريكية الحاليّة متهورًا وعديم الرحمة”، حسب ما نشر موقع بلومبرغ.
التحفظ على سياسات الأمير الشاب لم تتوقف عند حاجز الدائرة الرسمية داخل البيت الأبيض فقط، لكنها انتقلت إلى دوائر البحث الأكاديمي، وهو ما أكده معهد بروكينغز في تقريره سالف الذكر الذي انتقد فيه انتهاكات ابن سلمان مع النشطاء والمعارضين له، حتى أبناء عمومته داخل الأسرة المالكة، محملًا إياه مسؤولية ما قد يتعرض له ابن نايف من مخاطر بسبب وضعه قيد الإقامة الجبرية.
الانقلاب على سياسة ترامب
التحول في الموقف الأمريكي حيال المملكة يعد انقلابًا مكتمل الأركان على السياسة الترامبية السابقة، التي كانت تتعامل مع الأمير الشاب على أنه الحاكم الفعلي للسعودية، والآمر الناهي في كل الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، بعدما وضع العاهل السعودي الصلاحيات كافة في يد نجله الشاب.
بارك دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر كل الانتهاكات التي قام بها ابن سلمان من أجل الوصول إلى ولاية العهد ومن بعدها السيطرة على مقاليد الأمور، بداية من مخطط الإطاحة بولي العهد السابق، ابن نايف، وصولًا إلى غض الطرف عن جريمة مقتل خاشقجي، والتصدي لأي مساءلات دولية بشأن الانتهاكات الممارسة في اليمن.
وفي الجهة الأخرى كانت تلك الجرائم محط انتقاد واستنكار وغضب الديمقراطيين الذين طالبوا ترامب أكثر من مرة بالتوقف عن دعم الأمير المتهور، لكن لغة المال المشتركة بينهما كانت الفائز في هذا السجال الذي أسقط الكثير من الأقنعة عن الرئيس الأمريكي وشوه صورته على المستوى الحقوقي الدولي.
اليوم وبعد انهيار سياسة “الشيك على بياض” الممنوح لولي العهد من ترامب، التي كانت تعطيه حصانة كاملة لممارساته محل انتقاد المؤسسات الحقوقية الدولية، من المرجح أن تتغير الكثير من المعادلات السياسية داخل المملكة، لكن كيف تتعامل إدارة بايدن مع ولي العهد في وضعيته الجديدة وهو يمتلك الكلمة العليا في الكثير من الملفات؟
التعامل مع ابن سلمان
“عبارات إعادة ضبط العلاقات وتقييمها في حقيقتها عناوين صحفية أكثر منها مواقف سياسية.. لم نسمع في علوم السياسة والعلاقات الدولية عن مثل تلك التصريحات” هكذا علق المحلل السياسي السعودي سالم اليامي، المستشار السابق بوزارة الخارجية السعودية، على ما أعلنته المتحدثة باسم الرئيس الأمريكي.
اليامي أشار إلى أن هناك تغيرًا ملحوظًا في سياسة بايدن عن سلفه ترامب في التعاطي مع المملكة، لكن ذلك لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على مستقبل العلاقات بين البلدين، نافيًا أن تكون خطوة الإفراج عن بعض الناشطات السعوديات مؤخرًا مغازلة للإدارة الأمريكية الجديدة واستجابة لطلبها بشأن تعزيز وضعية الرياض الحقوقية، بحسب تصريحاته المتلفزة لبرنامج “مسائية dw ” المذاع على قناة “DW عربية”.
الحديث عن استبدال ولي العهد وتصعيد ابن نايف مرة أخرى وفق ما ذكرت بعض التقارير الأمريكية حديث بعيد نسبيًا عن الواقع، كونه من الممكن أن يُحدث صدامًا كبيرًا في العلاقات بين البلدين وهو ما يتجنبه النظام الحاكم هنا وهناك، في ظل المصالح المشتركة والملفات العالقة التي تتطلب توحيد الجهود والتعاون بينهما، خاصة تقويض النفوض الإيراني.
لكن هل يعني ذلك استبعاد ابن سلمان من الحوار الأمريكي السعودي مستقبلًا؟ بالطبع لا يمكن ذلك خاصة أن ولي العهد يحكم قبضته على كل الملفات الحساسة، الداخلية والخارجية، هذا بخلاف علاقته القوية بالأنظمة الحليفة لواشنطن في الشرق الأوسط وعلى رأسها “إسرائيل” والإمارات.
هناك أدوات يمكن من خلالها الإبقاء على ابن سلمان في المشهد لكن بعيدًا عن صدارته التي اعتادها طيلة السنوات الماضية، إذ من المحتمل أن يكون التعامل معه على مستوى وزير الدفاع الأمريكي وما هو في تلك الوضعية في ترتيب سلم القيادة، وهو التحول الذي سيكون له تداعياته أيضًا إن لم تكن بالشكل الذي يهدد العلاقات بين البلدين.
البرغماتية الأمريكية تجعلها تقدم مصالحها العليا فوق أي اعتبارات، وإن كانت ترفع شعارات حقوق الإنسان بين الحين والآخر لتوظيفها بما يخدم سياساتها في المنطقة، وعليه فإن ضبط العلاقات مع المملكة من المرجح أن يأتي في هذا الإطار، تعزيز المصالح والمكاسب، بعيدًا عن أي صدام في الوقت الحاليّ.
وفي الأخير فإن التغيرات التي طرأت على السياسة الأمريكية الجديدة في تعاملها مع السعودية لا شك أنها ستقلم أظافر ولي العهد وتلجم تهوره السياسي والحقوقي إلى حد ما، فـ”الشيك على بياض” الممنوح له سابقًا بات اليوم دون رصيد كافٍ، الأمر الذي يجعله يعيد النظر في كل تحرك، داخلي كان أو خارجي، لا سيما أنه سيكون تحت دائرة المراقبة.