كثير من العرب والمسلمين، يحمّلون العثمانيين مسؤولية سقوط الأندلس في يد الحكام الأوروبيين خلال القرن الخامس عشر، لكن الحقيقة عكس ذلك، فقد حاول العثمانيون بداية من محمد الفاتح إنقاذ الأندلس من السقوط في مرحلة أولى ومحاولة إحيائها في مرحلة ثانية في الوقت الذي تخلى عنها حكام المغرب.
محمد الفاتح.. محاولة إنقاذ الأندلس عبر البندقية
في الوقت الذي كانت فيه دولة الأندلس بالغرب تسارع نحو الانهيار، حيث الصراع على الحكم بين ملوك الطوائف وانتشار الفتن واستعانة بعض ملوك المسلمين بالنصارى ضد أبناء جلدتهم، كانت الدولة العثمانية شابة في بداية انطلاقتها نحو أوروبا بعد فتح القسطنطينية.
كان حكام أوروبا، حينها، يستمدون قوتهم من ضعف الأندلسيين وتخلي حكام المغرب عنهم، فضلًا عن قوة دولة البندقية المجاورة لهم، التي كانت أهم دولة أوروبية في ذلك الوقت باعتبارها القطب التجاري العالمي.
كان الأسطول العثماني في ذلك الوقت، سبب خلاص كثير من المسلمين الأندلسيين من أيدي النصارى الكاثوليك الذين تكالبوا عليهم
وصلت محمد الفاتح استغاثات كثيرة من سكان الأندلس لنجدتهم، ورغم أنه كان منشغلًا بفتح أعظم مدن أوروبا في ذلك الوقت ”القسطنطينية”، فقد قرر مواصلة الزحف لفتح مزيد من الأراضي وإنقاذ الأندلس، فهجم على إيطاليا وسيطر على مدينة لاترانتوا وعيناه صوب الأندلس، لكن وافته المنية قبل أن يستكمل المسيرة.
محاولات بيازيد
تقلد بيازيد الحكم بعد وفاة والده محمد الفاتح، ورغم أنه كان في بداية حكمه والأطماع من كل طرف وجانب، اهتم بأمر الأندلس، خاصة بعد أن أرسل له أبو عبد الله محمد الثاني عشر (آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة) سفيرًا سنة 1486م أي قبل سقوط غرناطة بست سنوات يعرض عليه الوضع الأليم للمسلمين في الأجزاء المتبقية من الأندلس، ويناشده المساعدة العاجلة.
قرر العثمانيون إرسال أسطول بحري إلى غرب البحر المتوسط بقيادة البحار الشهير كمال ريس سنة 1487م، فضرب الأسطول العثماني بمدافعه جربة ومالطه وصقلية وساردينيا وكورسيكا ودخل المياه الإسبانية (آراغون) وقصف سواحلها الشرقية، محاولًا الحد من تقدم الإسبان، لكنه لم ينجح مع وجود خور داخلي كبير في غرناطة.
اقتنع كمال ريس بأن مهمته صعبة، فقرر التركيز على إنقاذ المسلمين الأندلسيين، فكان ينقل المسلمين من إسبانيا إلى الولايات العثمانية، وكان – كذلك – ينقل الحجيج عبر البحر ويحميهم من القراصنة الإيطاليين والإسبان.
كان الأسطول العثماني في ذلك الوقت، سبب خلاص كثير من المسلمين الأندلسيين من أيدي النصارى الكاثوليك الذين تكاثروا عليهم، إذ تم نقلهم إلى بلاد المغرب والأناضول للعيش والاستقرار هناك، بعد سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
المحاولات استمرت حتى بعد سقوط الأندلس
لم تتوقف محاولات العثمانيين لإنقاذ الأندلسيين عند هذا الحد، بل استمرت حتى بعد سقوط الأندلس، إذ سعى العثمانيون إلى إنقاذ إخوانهم المورسكيين في الأندلس، فبعد أن تولى سليم الأول الحكم أرسل إلى قائد الأسطول الإسلامي عروج وكلفه بمهمة عرفت في التاريخ بالمهمة المستحيلة.
تقوم المهمة على الإبحار من أقصى شرق البحر الأبيض المتوسط في الأناضول إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس ومحاربة أساطيل الجيوش الصليبية مجتمعة وهي عبارة عن جيوش وأساطيل إسبانية وبرتغالية وإيطالية وسفن القديس يوحنا.
فضلًا عن اختراق الحصون البحرية وتدمير الحامية البحرية الإسبانية وشل قوة العدو الدفاعية والتقدم نحو اليابسة وخوض حرب شوارع ضد القوات البرية القشتالية الإسبانية وتحرير سواحل إسبانيا والسيطرة عليها وإنقاذ مسلمي الأندلس من محاكم التفتيش والعودة بهم إلى الجزائر قصد إسعافهم.
أرسل السلطان سليمان 80 سفينة و8 آلاف مقاتل من الجيش الإنكشاري إلى قائد أسطوله في البحر المتوسط خير الدين بربروس، وأمره بمهاجمة الأندلس
نجح القائد عروج بتنفيذ هذه المهمة، فقد استطاع إنقاذ عشرات الآلاف من المورسكيين وهربهم من مقاصل محاكم التفتيش حتى ذاع صيته في حوض البحر الأبيض المتوسط كقائد مغوار يهابه الجميع ويعمل له ألف حساب.
سليمان القانوني يتولى المهمة
سنة 1520، تولى سليمان القانوني الحكم خلفًا لأبيه السلطان سليم خان الأول، قاد سليمان الجيوش العثمانية لغزو المعاقل والحصون المسيحية في بلغراد ورودوس وأغلب أراضي مملكة المجر، وضم أغلب مناطق الشرق الأوسط في صراعه مع الصفويين ومناطق شاسعة من شمال إفريقيا.
وجه سليمان القانوني اهتمامه أيضًا نحو الأندلس لمحاولة إنقاذ المورسكيين، فجهز جيشًا قوامه 200 ألف جندي، وحاول الوصول إلى الأندلس عن طريق فيينا، لكنه لم يكمل المسير بسبب مهاجمة الصفويين الشيعة لعاصمة الخلافة العثمانية.
فضلًا عن ذلك أرسل السلطان سليمان 80 سفينة و8 آلاف مقاتل من الجيش الإنكشاري إلى قائد أسطوله في البحر المتوسط خير الدين بربروس، وأمره بمهاجمة الأندلس ومواصلة إنقاذ المسلمين من محاكم التفتيش، وقد فتحت الدولة العثمانية أبوابها أمام الأندلسيين الفارين من بلادهم فاستقبل العثمانيون قرابة نصف مليون أندلسي من المسلمين وغيرهم.
أراد سليمان القانوني مواصلة الإنجازات والفتوحات والانتصارات، ورغب بإعادة الأندلس كلها إلى حظيرة الإسلام، خاصة بعد أن سيطر على البحر المتوسط وشمال إفريقيا، لكن توفي قبل أن يصل مراده وقد حكم 46 سنة.
محاولات سليم الثاني عبر دعم الثورة الداخلية
رأى السلطان سليم الثاني أن الإمبراطورية الإسبانية بزعامة فيليب الثاني عدو قوي جدًا، يمكن أن تعرض الإمبراطورية العثمانية لخطر كبير في الغرب حال فتح حرب مباشرة معها، فقرر اعتماد خطة أخرى لمساعدة الأندلسيين.
رأى سليم الثاني ضرورة تقديم المساعدات السرية للحركات البروتستانتية المناوئة للكاثوليكية في غرب أوروبا، وتسليح الجيش الذي كان يجري الإعداد له من بقايا المسلمين في غرناطة وما حولها للثورة ضد الإسبان الكاثوليك.
كما تم تعيين القائد البحري الشهير علج علي، بكلر بك طرابلس (1565-1568م)، والعدو الأول للبابوية، ليكون بايليرباي (أمير الأمراء) على الجزائر، وأمر بالاستعداد للهجوم على الأندلس، بالتوازي مع الإعداد للثورة الشاملة في أوساط الموريسكيين.
نهاية سنة 1568، بينما كان الإسبان يحتفلون بأعياد الميلاد، اندلعت ثورة الموريسكيين في غرناطة ومنطقة البشرات الجبلية، وفي بسطة والمرية ووادي آش، واقتحم الموريسكيون الحاميات العسكرية الإسبانية المتفرقة في تلك الأنحاء وفتكوا بها.
توج الموريسكيون ثورتهم بإعلان استقلالهم، بزعامة أمير شاب منهم من أهل غرناطة، يدعى الدون فرناندو دي كردوبا فالور، فأطلق على نفسه اسم محمد بن أمية، لأنه كان من أعقابهم، في أثناء ذلك سارع علج علي والي الجزائر، إلى إرسال 40 مركبًا محملًا بالسلاح والمتطوعين لتأييد الثورة، لكن الأسطول لم يتمكن من الوصول، بسبب العواصف البحرية.
كرر علج علي المحاولة مرة ثانية وفشل أيضًا، فلم تتمكن إلا ستة مراكب من الوصول إلى شاطئ ألمرية، وتفريغ ما على ظهرها من مدفعية وبارود، مع مجموعات صغيرة من المجاهدين المتطوعين.
بقي علج علي ينتظر تمكن السلطان العثماني من تجميع جيوشه المنتشرة في البلقان وإرسال المدد إليه، حتى يباشر قيادة الحرب في الأندلس بنفسه، في أثناء ذلك وصل القائد دون خوان النمساوي على رأس أفضل وحدات الجيش الإسباني لإخماد الثورة، بطريقة بشعة، خوفًا من تدخل العثمانيون مباشر في هذه الثورة.
قام دون خوان النمساوي بحرب إبادة جماعية، فتمكن من سحق قوات المجاهدين الرئيسة وجعل الأطفال والنساء والشيوخ دروعًا بشرية، ليجبر المجاهدين على الاستسلام، كما اخترق الثوار عبر بعض الخونة.
تمكن الإسبان من إخماد ثورة المورسكيين وسقطت الأندلس بأيديهم مجددًا وطمعوا بتونس والجزائر، لكن هذه المرة كان الأسطول العثماني في انتظارهم، حيث فتح العثمانيون تونس وأنقذوا الجزائر من الإسبان.