يبدو أن وصول الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض سينعكس سلبًا على الطموحات السياسية والعسكرية لدولة الإمارات وحليفتها السعودية، فبعد أيامٍ قليلةٍ من تنصيبه رئيسًا، شرعت إدارته الجديدة في تبني إستراتيجية جديدة تهدف إلى إنهاء حرب اليمن المشتعلة منذ العام 2015، وفي سبيل ذلك عين بايدن مبعوثًا خاصًا إلى اليمن تكون مهمته السعي إلى إيجاد تسوية سياسية للحرب التي تسببت في أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم.
الارتباك كان واضحًا لدى كل من أبو ظبي والرياض، فكلتا العاصمتين لم تتوقعا أن يصل بايدن إلى السلطة، إذ وضعتا كل البيض في سلة الرئيس الخاسر دونالد ترامب، وقد اتضح ذلك في تغريدة للأكاديمي والكاتب المقرب من ولي عهد أبو ظبي عبد الخالق عبد الله، إذ قال: “في أول شهر له في البيت الأبيض اتصل الرئيس بايدن بالعديد من زعماء العالم شرقًا وغربًا باستثناء أي زعيم عربي أو خليجي أو شرق أوسطي. ترى هل هذا تجاهل مدروس ومتعمد لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي؟ ومن هو الرئيس/الزعيم العربي المحظوظ الذي سيتلقى المكالمة الرئاسية الأمريكية الأولى؟
تغريدة الأكاديمي الإماراتي المقرب من الحاكم الفعلي لبلاده توحي بحجم المأزق الذي تعيشه أبو ظبي “أسبرطة الصغيرة” المصطلح الذي أطلقه الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزير دفاع الرئيس الأمريكي الأسبق على الإمارات، فشبهها بالبلدة اليونانية الصغيرة التي كان يقاتل رجالها في كل مكان.
استشعرت الإمارات الخطر فور انتهاء مراسم تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد الذي سارع إلى إعلان وقف دعم العمليات العسكرية في اليمن، بما في ذلك بيع الأسلحة والمعدات، بسبب التكلفة الأخلاقية الباهظة، إذ أسفرت الحرب في اليمن عن مقتل 110 آلاف شخص، ودفعت بملايين اليمنيين إلى حافة المجاعة فيما وُصف بأكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم حيث يحتاج نحو 80% من السكان للمساعدات الإنسانية.
وفي أول ردة فعلٍ على قرار بايدن، صرح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش بعد ساعات من القرار الأمريكي قائلًا: “أنهت الإمارات تدخلها العسكري في اليمن في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي حرصًا منها على انتهاء الحرب، دعمت الإمارات جهود الأمم المتحدة ومبادرات السلام المتعددة، ظلت دولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من أكبر مقدمي المساعدات الإنسانية للشعب اليمني”.
تطور آخر بموازاة تغريدة قرقاش.. المغادرة من قاعدة عصب
بينما كان الوزير الإماراتي السابق أنور قرقاش يغرد بالإنجليزية عن إنهاء الإمارات وجودها العسكري في اليمن – وإن كانت هذه المعلومة غير صحيحة -، فإن دولة الإمارات اتخذت قرارًا مفاجئًا بإخلاء قاعدتها العسكرية في ميناء عصب الإريتري على ساحل البحر الأحمر.
لم تعلن أبو ظبي هذه الخطوة رسميًا بل اتخذتها سرًا، إذ أظهرت صور الأقمار الصناعية في الأيام الماضية أن القوات المسلحة الإماراتية المتمركزة في مدينة عصب الإريترية بدأت في تعبئة حقائبها بشكل سري، حيث غادر جميع الأفراد المنتشرين هناك على متن طائرات الشحن C-17 Globemaster التي أرسلتها القوات الجوية الإماراتية (EAF)، كما تم تفكيك المنشآت العسكرية بما في ذلك حظائر الطائرات والثكنات وأنظمة الرادار.
وذكر تقرير لموقع “أفريكا إنتلجنس” المتخصص في التسريبات العسكرية أن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان أبلغ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي رسميًا باعتزام أبو ظبي وقف انتشارها العسكري في عصب.
وأوضح الموقع أن قاعدة عصب تعمل منذ العام 2015، وهي أول قاعدة عسكرية للإمارات خارج حدودها، وقد شُيّدت لهدفين أولهما: إحكام السيطرة على مضيق باب المندب، إضافة إلى المساعدة في الهجمات ضد قوات الحوثيين في جنوب اليمن، إذ أُسند أمر تشييدها إلى اللواء عقاب شاهين العلي الذي أشرف على أعمال تحديث المحور الجوي الذي يضم مدرج بطول 3500 متر تم بناؤه لاستيعاب طائرات C-17 كما تضم القاعدة أيضًا منفذًا إلى البحر الأحمر ومركزًا للتدريب.
يُضيف الموقع أنه تم إضفاء الطابع الرسمي على شروط الانتشار الإماراتي في إريتريا باتفاقية تعاون مع نظام الرئيس أسياس أفورقي تضمنت الاتفاقية تأجير الأرض للإمارات لمدة ثلاثين عامًا بتكلفة متواضعة تبلغ 5 ملايين دولار سنويًا.
ويقول الموقع إنه رغم الانسحاب الحاليّ، فإن ابن زايد أعطى لنفسه خيار العودة مجددًا إلى قاعدة عصب، فلم يتم إلغاء عقد الإيجار مع أسمرة.
وتفسير هذه الخطوة ربما يكون أن ولي عهد أبو ظبي ما زال يتعشم في عودة صديقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة مرة أخرى بعد نحو 4 سنوات، إذ تشير التوقعات إلى أن الأخير يفكر في الترشح مرة أخرى لانتخابات عام 2024، هذا إذا استطاع تجاوز المتاعب القانونية التي تنتظره.
أهمية قاعدة عصب للإمارات
على الرغم من صغر مساحة دولة الإمارات وقلة عدد سكانها، فإن الطموح السياسي والعسكري لولي عهد أبو ظبي الحاكم الفعلي للدولة غير محدود، إذ شهدت السنوات الماضية تدخل الإمارات بقوة في عدد من دول المنطقة أبرزهم الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي (مصر وسوريا وتونس واليمن)، كما تدخلت أبو ظبي في دول عربية إفريقية أخرى مثل الصومال والسودان.
كان الهدف الأساسي من هذه التدخلات إيجاد نفوذ سياسي وأمني واقتصادي للإمارات في هذه الدول، فضلًا عن سعيها لإجهاض ثورات الربيع العربي وعدم السماح بمجيء أنظمة ديمقراطية لأنها تتعارض مع مصالحها ولن تتوافق مع الديكتاتورية التي تُكرّس لها وتدعمها أبو ظبي.
وعلى هذا الأساس أبرمت الإمارات مع رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي اتفاقًا لتشييد القاعدة العسكرية في مدينة عصب الساحلية على البحر الأحمر وهي مدينة قريبة من اليمن، إذ تبعد عنه بنحو 70 كيلومترًا فقط.
الصفقة تمت في الظلام، لم يتم الإعلان عنها ولا عن تفاصيلها، والأرجح أن الإمارات أقنعت السعودية آنذاك بأهمية استغلال القاعدة في الحرب على الحوثيين، فقد جرفت أجزاءً من ميناء المدينة، وحسّنت مدرج طائرات بطول ثلاثة كيلومترات ونصف، حتى يسهل ذلك هبوط طائرات الدعم الثقيل.
بينما لفت تقرير لوكالة أسوشييتد برس إلى أن الإمارات ضخّت ملايين الدولارات لتحسين المنشأة فبنت في قاعدة عصب ثكنات وحظائر للطائرات وأسيجة في القاعدة التي تبلغ مساحتها 9 كيلومترات مربعة، التي شيدتها إيطاليا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، القوة الاستعمارية في ذلك الوقت.
ومع مرور الوقت، وضعت الإمارات العربية المتحدة في المطار المجاور للقاعدة، دبابات لوكلير القتالية ومدافع هاوتزر ذاتية الدفع من طراز “جي 6” ومركبات قتالية مدرعة من طراز “بي إم بي-3″، وفقًا لخبراء الأمم المتحدة، وهذه الأنواع من الأسلحة الثقيلة شوهدت في ساحات القتال اليمنية، وبحسب أسوشييتد برس، شُوهدت طائرات هليكوبتر هجومية وطائرات مسيَّرة وطائرات مقاتلة أخرى على مدرج المطار نفسه.
مع استمرار حرب اليمن، استخدم الإماراتيون أيضًا قاعدة عصب لاحتجاز السجناء، حيث واجه التحالف الذي تقوده السعودية ضغوطًا دوليةً متزايدةً بشأن إساءة معاملة المحتجزين
كيف استخدمت الإمارات قاعدة عصب؟
بحسب العديد من التقارير الموثوقة، استفادت أبو ظبي من قاعدة عصب لنقل الأسلحة الثقيلة إلى اليمن في أثناء قتالها إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
وضمّت الثكنات الموجودة في القاعدة قوات إماراتية ويمنية، وكذلك صُوّرت قوات سودانية في أثناء نزولها في مدينة عدن الساحلية اليمنية، وتظهر التسجيلات أن السفينة التي كانت تقلهم “سويفت-1″، سافرت ذهابًا وإيابًا إلى عصب.
وتعرضت السفينة في وقت لاحق لهجوم من قوات الحوثيين عام 2016، وأكدت الحكومة الإماراتية أنها كانت تحمل مساعدات إنسانية، وهو ادعاء قال خبراء الأمم المتحدة في وقت لاحق إنهم “غير مقتنعين بصحته”.
كذلك ساعدت القاعدة الجنود الجرحى من خلال توفير “واحد من أفضل المستشفيات الجراحية الميدانية في الشرق الأوسط”، بحسب قول مايكل نايتس، زميل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الذي درس قاعدة عصب بصورة متعمقة.
ومع استمرار حرب اليمن، استخدم الإماراتيون أيضًا قاعدة عصب لاحتجاز السجناء، حيث واجه التحالف الذي تقوده السعودية ضغوطًا دولية متزايدة بشأن إساءة معاملة المحتجزين، والغارات الجوية التي قتلت مدنيين.
وأعلنت الإمارات في صيف 2019 أنها بدأت في سحب قواتها من الحرب التي ما زالت مستعرة حتى اليوم، رغم أن القوات الإماراتية لا تزال موجودة في سقطرى وغيرها من المواقع، كما تنتشر القوات الحليفة للإمارات في محافظات عدن ولحج وأبين والضالع (جنوب) والحديدة (غرب)، وغيرها من محافظات جنوب اليمن، ضمن إطار “قوات الدعم والإسناد” التي تضم قوات “الحزام الأمني”، التشكيل الأكبر والأكثر فاعلية من التشكيلات الأخرى الممولة والمدعومة من الإمارات.
إلا أن خروج أبو ظبي من قاعدة عصب الإريترية سيقلل من قدرة التحالف على شن المزيد من الهجمات الجوية على مواقع الحوثيين، وسيقلل كذلك من توفير الدعم للمليشيات والتنظيمات التي تدين بالولاء لدولة الإمارات وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى حين التوصل لصيغة الاتفاق السياسي الذي تتعهد من خلاله إدارة بايدن بإنهاء حرب اليمن.
حرب تيغراي.. دور آخر لقاعدة عصب
بعد أيام قليلة من إطلاق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عمليته العسكرية ضد جبهة تحرير تيغراي شمال البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اتهمت الجبهة، دولة الإمارات بدعم الحكومة الإثيوبية في الحرب الدائرة بالإقليم، إذ قال المتحدث باسم الجبهة قيتاتشو ردّا إن الإمارات دعمت الحكومة الإثيوبية بالطائرات المسيرة في حربها، مؤكدًا أن هذه الطائرات تنطلق من القاعدة الإماراتية العسكرية في عصب بإريتريا المجاورة التي يقاتل جيشها في الحرب ضد الجبهة، وقد اتهمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جيش أسياس أفورقي بالتورط في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الإقليم المضطرب.
غيّر دخول الطائرات المسيرة الإماراتية في حرب تيغراي لمساندة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي تربطه علاقات وثيقة مع أبو ظبي من توازن القوى، إذ يشير مراقبون عسكريون إلى أن طائرات الدرون وفّرت غطاءً جويًا للجيش الإريتري مكّنه من تفادي هجوم قوات جبهة تحرير تيغراي والتوغل في الإقليم، كما دمرت الطائرات المسيرة الإماراتية جانبًا مقدرًا من الأسلحة الثقيلة للجبهة، ووُجهت إليها اتهامات بالضلوع في تصفية عدد من القيادات العسكرية للجبهة والتورط في تدمير عدد من المنشآت المدنية مثل المصانع ومنازل مواطني إقليم تيغراي.
صحيح أن هذه الاتهامات لم يتم تأكيدها بعد، لكن الطائرات المسيرة الإماراتية قصفت من قبل مدنيين ومنازل ومدارس وحتى مستشفيات في ليبيا، عندما دعمت الإمارات حليفها الجنرال المتمرد خليفة حفتر.
هذه الطموحات والانتشار العسكري الذي يفوق حجم دولة الإمارات، أصبح يهدد صانع القرار في أبو ظبي مع المتغيرات الإقليمية والدولية
اللافت أن دولة الإمارات لم تعلق على اتهامات جبهة تحرير تيغراي، ما يؤكد صحة هذه المزاعم، خاصة أن أبو ظبي سبق أن تعهدت بتقديم 3 مليارات دولار إلى إثيوبيا من بينها مليار دولار وديعة في البنك المركزي الإثيوبي، كما رعت الإمارات اتفاقًا للسلام بين آبي أحمد وأسياس أفورقي، وهو الاتفاق الذي رأى كثيرون أن هدفه الأساسي كان شن الحرب على جبهة تحرير تيغراي بسبب الرغبة المشتركة للزعيمين في الإطاحة بالجبهة ورموزها.
تشير الأنباء إلى أن قوات جبهة تحرير تيغراي كثّفت مؤخرًا من عملياتها ضد الجيشين الإثيوبي والإريتري بعد وقف هجمات الطائرات المسيرة الإماراتية التي لعبت دورًا مفصليًا في سرعة تقدم الجيشين واستيلائهما على كل المدن الكبرى في إقليم تيغراي، لكنّ الحرب ظلّت مستمرة.
ويبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي سيواجه المزيد من المتاعب بعد تخلي الحليف الإماراتي عن مساندته عسكريًا في ظل الضغوط الدولية التي يواجهها آبي من القوى الكبرى بسبب إعاقة حكومته للجهود الإنسانية، إضافة إلى مزاعم جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان التي تتهم بها قواته إضافة إلى قوات الجيش الإريتري.
وبصورة عامة يشكل تفكيك الإمارات قاعدتها في عصب ذات الموقع الإستراتيجي انتكاسة كبيرة لطموحات أبو ظبي المتمثلة في السيطرة على مضيق باب المندب رابع أهم الممرات عالميًا، كما كانت أبو ظبي تسعى إلى ضمان وجود عسكري كبير في منطقة القرن الإفريقي التي تتوسط العالم، وتشكل ممرًا مهمًا لأي تحركات عسكرية، قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة، في اتجاه منطقة الخليج العربي.
لكن هذه الطموحات والانتشار العسكري الذي يفوق حجم دولة الإمارات، أصبح يهدد صانع القرار في أبو ظبي مع المتغيرات الإقليمية والدولية، حيث قال رايان بوهل، المحلل في شركة ستراتفور للاستخبارات الخاصة، ومقرها تكساس: “الإماراتيون يقلصون طموحاتهم الإستراتيجية، وينسحبون من الأماكن التي كان لديهم وجود فيها.. إن نشرهم لهذه القوة الصارمة عرّضهم لمخاطر أكثر مما يرغب الإماراتيون الآن في تحمله”.
والأرجح كذلك أن عهد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن سيشهد المزيد من التقوقع والتراجع في نفوذ وتأثير دولة الإمارات على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالانسحاب من قاعدة عصب لن يكون المشهد الأخير الذي سنراه في الفترة القادمة.