بعد فترة من الصدمة وخيبة الأمل والغموض خيمت على العلاقة بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بشكل عام، وبين بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وجو بايدن رئيس الولايات المتحدة الجديد بشكل خاص، يبدو أن الرجلين اتخذا قرارًا معًا بالخروج من مربع المكايدات إلى مربع السياسة، حيث تفرض الالتزامات التاريخية وسرديات الحماية من الاضطهاد والتفاهمات الأمنية نفسها على العلاقات الثنائية، وذلك عبر الطرق التقليدية مثل الاتصالات الرسمية وعقود الصفقات.. فماذا حدث؟
أسباب الخلافات
شعرت الأوساط السياسية، خاصة اليمينية، والأمنية في دولة الاحتلال بالحسرة عقب أنباء سقوط الحليف الإستراتيجي لـ”إسرائيل”، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية ضد خصمه الديمقراطي جو بايدن، بدايةً من نوفمبر/تشرين الماضي، حيث انطلاق سباق الانتخابات الداخلية في الولايات المتحدة.
ليست المشكلة بالنسبة لـ”إسرائيل” في قدوم بايدن بنفسه على الأرجح، فقد كان الرجل طوال مسيرته السياسية مناصرًا لا لـ”إسرائيل” فقط، بل لسردياتها عن الصهيونية أيضًا، كما أن العلاقات بين البلدين منذ بدايتها مؤسسة على نحو هيكلي وتاريخي عابر للأشخاص.
لكن الأزمة في أن “إسرائيل”، ونتنياهو بشكل خاص، فقدا زعيمًا أمريكيًا كان يعمل لـ”إسرائيل” ورئيس وزرائها، مع فريق مؤلف من بومبيو وكوشنر، أكثر مما يعمل لصالح بلاده، كما يقول مراقبون ومحللون.
قد يكون من الصعب حصر القرارات التاريخية التي اتخذها ترامب لصالح الاحتلال، على غرار الاعتراف بشرعية احتلال الجولان والقدس ونقل السفارة الأمريكية واستيراد معدات دفاعية والاعتراف بشرعية المستوطنات وهندسة صفقة القرن، لكن يكفي تذكر أن إدارة ترامب كانت تفصل جدول أعمالها على مقاس خدمة نتنياهو في الأوقات الانتخابية، كما كانت الحال عند إقناع الدول الأجنبية بنقل سفاراتها إلى القدس أو في صفقات التطبيع العربي مع الاحتلال.
وفي عرضٍ من أعراض الصدمة القياسية كما هو مكتوب عنها في مراجع الطب النفسي، الإنكار، غير نتنياهو صورة غلاف حسابه على موقع “تويتر”، عبر وضع صورة ترامب بدلًا من صورته، فور ترجيح نتائج الفرز الأولية هزيمته أمام بايدن، وذلك بعد أن أفردت قنوات فضائية تابعة له من الباطن أو مقربة منه مساحات واسعة لدعم ترامب قبل ساعات من انطلاق الانتخابات.
وبطبيعة الحال وكأي رئيس ديمقراطي في الولايات المتحدة، فإن بايدن يختلف نسبيًا في برنامجه الرئاسي بشأن المنطقة عن نظرائه الجمهوريين، الذي قد لا يعجب حكومةً يمينيةً مثل حكومة نتنياهو، كالموقف من إيران وممالك النفط الخليجية والسلام في فلسطين والإسلام السياسي.
نمو الفقاعة
نهاية الشهر الماضي، وبالتزامن مع تنصيب بايدن رئيسًا للولايات المتحدة بشكل رسمي، بدأ الخلاف بين الإدارتين يتخذ شكلًا أكثر حدةً، فقد خرج من مساحة التحليلات والمستوى السياسي، إلى العلن وعلى مستوى الجيش.
أثلج بايدن صدر نتنياهو بمكالمة هاتفية مطولة، استمرت قرابة ساعة، بحثا خلالها مشكلات المنطقة مثل موجة التطبيع العربي مع دولة الاحتلال والموقف من إيران، بالإضافة إلى التعاون الثنائي
على الهواء مباشرةً وضمن خطاب مطول، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي والرجل الأهم في المؤسسة العسكرية أڤيڤ كوخافي، إن الولايات المتحدة لا ينبغي لها العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إذ يعد ذلك خطأً تكتيكيًا وإستراتيجيًا، وإن “إسرائيل” قد تجد نفسها مضطرةً إلى العمل ضد إيران بشكل منفرد في الفترة المقبلة.
بعيدًا عن التأويلات التحليلية التالية لهذا الخطاب، فقد برهن كوخافي على جديته في هذه التهديدات، عبر الإشارة إلى نجاح جيشه خلال الأعوام الماضية في خطة “الحرب بين الحروب” (مبام) وتنفيذ عملية كوماندوز بحري بالقرب من مياة إيران ديسمبر/كانون الماضي، بعد اغتيال الفخر زادة، بالإضافة إلى طلب دعمٍ مالي إضافي للجيش بغرض إعادة تجهيز خطط قصف إيران بشكل منفرد.
وفقًا لمحللين إسرائيليين من اليسار، فإن خطاب كوخافي في معهد دراسات الأمن القومي المرموق (INSS) كان السابقة الأولى التي ينذر فيها قائد عسكري إسرائيلي نظراءه في الولايات المتحدة، كما أن هذه الجرأة الشديدة لا تخرج إلا بعد تنسيق رفيع بين الجيش والمستوى السياسي (نتنياهو)، ضمن صفقةٍ انتخابية داخلية يعلن فيها كوخافي دعم الجيش لـ”بيبي” في سرديته عن إيران مقابل حصوله على دعم مالي لتنفيذ خططه الحربية (تنوڤا)، خاصة أن بيني غانتس وزير الدفاع وزعيم حزب أزرق أبيض اليساري خرج بعد هذه الكلمة وهاجم الجيش ونتنياهو، لأن كوخافي لم يستشره في مضمونها.
من ضمن المخاوف التي طرحها خبراء أمنيون غير سياسيين مثل غابي أشكنازي وعاموس جلعاد من عواقب هذا الخطاب، كان أن يؤثر سلبًا على مستوى التنسيق السياسي الإستراتيجي بين البلدين كما حدث في الفترة التي سبقت توقيع أوباما على الاتفاق النووي الإيراني، وحدوث مزيد من التعطل في برنامج المساعدات الأمنية الذي وافق عليه ترامب عام 2018 ولم تفعله “إسرائيل” بعد، في ظل احتياجات عسكرية كبيرة لا يمكن الوفاء بها إلا من واشنطن.
مؤشرات الانفراجة
يوم الأربعاء الماضي، أثلج بايدن صدر نتنياهو بمكالمة هاتفية مطولة، استمرت قرابة ساعة، بحثا خلالها مشكلات المنطقة مثل موجة التطبيع العربي مع دولة الاحتلال والموقف من إيران، بالإضافة إلى التعاون الثنائي.
أنهت هذه المكالمة التي وصفت بالدافئة حالةً طويلةً من القلق والجدل حيال العلاقات بين الطرفين، بالنظر إلى هرولة دونالد ترامب للاتصال بنتنياهو بعد 3 أيام فقط من تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة بشكل رسمي، مقابل ما يصل إلى شهر من الانتظار الإسرائيلي لمكالمة بايدن، بعد أن هاتف طابورًا طويلًا من الدول الكبرى والمهمة بالنسبة للولايات المتحدة.
بالتزامن مع هذه المكالمة تقريبًا، أعلن الجانب الإسرائيلي ممثلًا في اللجنة الوزارية الأمنية المصغرة (كابينيت) تفعيل برنامج المساعدات الأمنية المشار إليه بين البلدين، بعد سنوات من تعليقه، وعامين على توقف مثل هذه النوعية من الاجتماعات، وذلك من خلال الموافقة على صفقة أسلحة ضخمة تحصل عليها “إسرائيل” من الولايات المتحدة.
الصفقة التي تعد بمثابة جيش جديد بالنسبة لكثير من الدول تضم أسلحةً شديدة التقدم في معظم الأفرع الرئيسية مثل القوات الجوية والدفاع الجوي والأمن السايبراني والمعلوماتي، حيث تضم شراء سرب جديد من طائرات F-35 التي تحصل “إسرائيل” على نسخة خاصةٍ منها، وسرب من طائرات F-15، وما لا يقل عن 4 طائرات تزود بالوقود جوًا طراز KC- 46، بالإضافة إلى تحديث مشترك لمنظومة القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى ومنظومة “آرو” (السهم الأحمر) لاعتراض الصواريخ الباليستية، وكميات هائلة من الذخائر الجوية.
ليس مطروحًا أن تنتهي الخلافات، هكذا قال نتنياهو، مشيرًا إلى أنها بشأن الإيرانيين والفلسطينيين في الأساس
لم تحصل الصفقة التي تصل قيمتها إلى 8 مليارات دولار، وتتعاون فيها مؤسسة الدفاع الإسرائيلية مع كبرى الشركات العسكرية الأمريكية مثل “لوكهيد مارتن” و”بوينغ” على الضوء الأخضر الأمريكي بعد، لكن وصولها إلى هذه المرحلة، ضمن هذا البرنامج، في هذا التوقيت الذي أكد فيه بايدن التزامه بتطوير التعاون الدفاعي بين البلدين يبشر بتمريرها خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الكونغرس كان قد أخطر من قبل بحصول “إسرائيل” على طائرات التزود بالوقود جوًا بالفعل.
ماذا تغير؟
تصريحات كوخافي التي توعد فيها الأمريكيين بالعمل منفردًا أو مع حلفاء جدد، ضد الإيرانيين خاصةً أن “إسرائيل” بدأت تستعد منذ حقبة ترامب إلى مرحلة الاعتماد الكامل على نفسها بسبب النوايا الأمريكية للخروج من المنطقة والتركيز على مناطق أخرى، كانت كفيلةً بإثارة أزمة دبلوماسية كبرى، إذا صدرت من أي دولة أخرى غير دولة الاحتلال، وفقًا لخبراء إسرائيليين.
لكن الولايات المتحدة فضلت أن تتعامل معها بقدر من الحكمة، أولًا عبر عدم التوقف كثيرًا عندها، ثانيًا وفي ترجمة عملية لأولًا، فقد زار مسؤول عسكري رفيع من أركان الجيش الأمريكي دولة الاحتلال بعد ساعات من هذه التصريحات، واكتفى بغرس شجرة ترمز إلى متانة العلاقات بين الطرفين مع نظرائه في الجيش الإسرائيلي.
وبحسب سعيد بشارات الخبير في الشأن العبري، فقد تدخل مدير جهاز الموساد يوسي كوهين الذي لم يكن راضيًا عن تصريحات كوخافي وقال ذلك في العلن، لنزع فتيل الأزمة بين البلدين، عبر زيارة عاجلة إلى واشنطن بعد ساعات قليلة من خطاب قائد أركان الجيش الإسرائيلي في المعهد الأمني.
وبناءً على هذه الوساطة، بدأ الطرفان في تبادل ملطفات الأجواء قبل اتخاذ هذه الخطوات الأخيرة، حيث رفض نتنياهو في لقاء مع القناة 12 العبرية يوم الإثنين الماضي الحديث عن تجاهل بايدن له، مؤكدًا أنه “سيتصل، تجمعنا علاقات شخصية دافئة منذ 40 عامًا، عندما وفدت إلى الولايات المتحدة دبلوماسيًا إسرائيليًا، وكان بايدن عضوًا في مجلس الشيوخ”، في المقابل قال بيان البيت الأبيض عن الزيارة إنها تضمنت تذكيرًا من بايدن لنتنياهو بالتزامه الشخصي تاريخيًا تجاه “إسرائيل”.
ليس مطروحًا أن تنتهي الخلافات، هكذا قال نتنياهو، مشيرًا إلى أنها بشأن الإيرانيين والفلسطينيين في الأساس، لكن الظاهر أن ما هو مطروح حاليًّا، إعطاء دفعة للعلاقات الثنائية، مع عمل “إسرائيل” العسكري منفردة ضد طهران في الساحات الخلفية (الحرب بين الحروب) دون توقف، وتحقيق أكبر استفادة من واشنطن، سواءً في تعديل بنود الاتفاق النووي أم في الحصول على أسلحة نوعية تضمن لها استمرار التفوق الكاسح على الجميع في المنطقة، كمًا ونوعًا.