مرّ عقد بالتمام والكمال على الحراك المغربي، منذ أن خرجت أولى المظاهرات إلى شوارع المملكة في سياق انتفاضات الربيع العربي، على الرغم من أنها لم ترفع شعار إسقاط النظام أسوة بالانتفاضات التي سبقتها في تونس ومصر مطلع 2011، فإن مطالب حركة 20 فبراير تقاطعت مع جلّ مطالب الحركات الاحتجاجية العربية على مستوى القطع مع الفساد والاستبداد وإحداث إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية.
انبعاث الأمل بالتغيير
بعدما أفلت آمال التغيير أمدًا طويلًا، جددت حركة 20 فبراير أمل الشباب المغربي بالحرية وتملك الحقوق وبناء مغرب جديد، تسوده العدالة الاجتماعية، كما شملت المطالب السياسية للحركة الفصل بين الثروة والسلطة في المناصب الحكومية واستقلال القضاء وحرية الإعلام وإقامة ملكية برلمانية وإجراء انتخابات نزيهة ووضع دستور جديد.
عمت الاحتجاجات مدن وقرى المغرب، شارك فيها مواطنون من مختلف المشارب الفكرية والسياسية والإيديولوجية، واتسمت معظمها بطابع مدني سلمي ومسؤول، إذ لم تسجل أي أعمال شغب أو تخريب للممتلكات العامة، على الرغم من قمع بعض المسيرات والوقفات الاحتجاجية وتفريقها بالقوة من طرف عناصر الأمن.
سرعان ما تفاعل أعلى هرم في الدولة مع هذه الاحتجاجات، وأعلن الملك محمد السادس، في خطاب 9 من مارس/آذار 2011، حزمة من الإصلاحات الاجتماعية كما أطلق عملية صياغة دستور جديد.
فيما أصرت حركة 20 فبراير على الاحتجاج رفضًا للدستور الجديد الذي نال ثقة الأغلبية الساحقة من المغاربة، بعدما تجاوزت نسبة المصوتين بنعم 98%، إلا أن الحركة الاحتجاجية اعتبرته دستورًا “ممنوحًا” ورفعت شعار المطالبة بدستور ديمقراطي، تعزز بإعلان مجموعة من أحزاب اليسار المعارض وجماعة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة، عدم قبولها نتيجة الاستفتاء نظرًا لما شابه من خروقات لم تحددها بالتفصيل ولم يرد بشأنها أي ذكر في تقرير أولي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة حكومية) الذي أكد سلامة عملية الاستفتاء.
أفول وهج الحراك
قبل استفتاء 1 من يوليو/تموز 2011 نجحت حركة 20 فبراير في إخراج الآلاف إلى شوارع المملكة، لكن لم يتعد حجم المشاركة في أولى مسيرات الحركة بعد التصويت على الدستور المستويات التي بلغها في المسيرات السابقة، خاصة أن الكثير من أعضاء الحركة أعلنوا مشاركتهم في الاستفتاء على الدستور ودعوا إلى المشاركة بنعم، فيما خرجت مسيرات مضادة لحركة 20 فبراير، عد المشاركون فيها بالآلاف حسب تقديرات رسمية.
إلى الوارء تراجع وهج حركة 20 فبراير، لأنها لم تحتكم إلى رؤية محددة تبني لها التصور والإستراتيجية وفرص الاستدامة، بل كانت حركة عفوية بامتياز، فكانت هذه العفوية مكمن أفولها، علاوة على ذلك بعدما جفت ينابيع الدينامية التي أطلقتها، ولم يعد في صالحها التدافع السياسي الذي جرى حينها، أو لم تستطع أن تبني عليه لتغيير موازين القوى أو توجيهها لفائدتها.
يُنظر إلى المجلس الوطني لحركة 20 فبراير، على أنه أحد أسباب تراجع الثقة في الحركة الاحتجاجية، وذلك بعدما هرولت إلى تأسيسه أحزاب وهيئات نقابية فاقدة لثقة المغاربة، الذين خرجوا في الأصل محتجين على الفشل الذي راكمته سواء في مهامها الحكومية أم في المعارضة داخل البرلمان.
كما كان لانسحاب جماعة العدل والإحسان المحظورة، دور في إضعاف وجود الحركة في الشارع، فالموالون لهذه الجماعة الإسلامية كثر، وتتعارض توجهاتهم الأيديولوجية مع باقي التيارات اليسارية المنتمية لحركة 20 فبراير، بالتالي كان من الطبيعي أن تتأثر الحركة من هذا الانسحاب من حيث الوجود العددي والتنظيم.
العفو عن المفسدين
وبطبيعة الحال كان المستفيد المباشر من رياح هذا التغيير هو حزب العدالة والتنمية، الذي امتنع منذ البداية عن الخروج إلى الشارع، عكس ما كان متوقعًا، وعلى الرغم من ذلك حظي بثقة المغاربة وتصدر أول انتخابات نظمت في ظل الدستور الجديد، إثرها سُمي أمينه العام عبد الإله بنكيران رئيسًا للحكومة من طرف الملك.
لم ينتظر المغاربة طويلًا لكي يستفيقوا من آمالهم أو أحلامهم على وقع خيبات أمل متوالية، لعل أبرز عناوين هذا الخذلان عندما خرج رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران في حوار تليفزيوني، وهو يحاول تبرير عجزه عن محاربة من أسماهم بالتماسيح والعفاريت، لأن الرجل لم يكن ينوي مطاردة الساحرات ولا متابعة الفاسدين والمفسدين في جحورهم وأوكارهم، على حد تعبيره، أطلق شعار “عفا الله عما سلف” في إشارة إلى التنازل عن المطالبة بحقوق الدولة تجاه ناهبي المال العام والمفسدين، ما يعني إجهاض واحد من المطالب الأساسية لحركة 20 فبراير.
صلاحيات متخلى عنها
خلال فترة ولايته، لم يستطع بنكيران تفعيل الصلاحيات الواسعة التي مُنحت له بموجب الوثيقة الدستورية، حيث أصر طواعية على الحد منها لفائدة المؤسسة الملكية، وعلى الرغم من المكتسبات الخاصة برئيس الحكومة، فإنه عاد بالممارسة السياسية إلى الوراء، أي وضعها السابق قبل إعلان الدستور الجديد.
استمر حزب العدالة والتنمية في قيادة الحكومة لولاية ثانية، بعد شهور من “البلوكاج” في تشكيل الائتلاف الحكومي، تدخل الملك وأعفى بنكيران مكلفًا مكانه سعد الدين العثماني.
بدا واضحًا أن الملك، لم يرد الخروج عن مقتضيات الدستور والمنهجية الديمقراطية، حيث حاول تفعيل صلاحياته الدستورية لإيجاد صيغة مقبولة لإنهاء الوضعية المتعثرة لتشكيل الحكومة.
خلال السنوات الماضية، شهد المغرب عددًا من الاحتجاجات المطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان المناطق المهمشة، أبرزها احتجاجات الريف (شمال) التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2016، واستمرت نحو 10 أشهر، ومدينة جرادة (شرق) في ديسمبر/كانون الأول 2017، وهي الاحتجاجات التي شهدت وقوع إصابات خلال تفريق السلطات لها باستخدام القوة، ولا يزال الأساتذة المتعاقدون يحتجون بين الفينة والأخرى من أجل المطالبة بإدماجهم في القطاع العام، بدل العمل بعقود تمتد سنتين قابلة للتجديد.
الجائحة كشفت المستور
دشنت حركة 20 فبراير لمرحلة مهمة من الوعي المجتمعي، فأضحى الاحتجاج سلوكًا جماعيًا لوضع غير مقبول بدل التطبيع معه، وكان لشبكات التواصل الاجتماعي دور أساسي في تبني أشكال غير مسبوقة في الاحتجاج، مثل حملة المقاطعة عام 2018، التي دعت إلى الامتناع عن شراء منتجات ثلاث شركات كبرى من أجل تخفيض أسعارها، وتعممت هذه الحملة لتشمل منتجات أخرى كسمك السردين بسبب غلائه رغم ضم المغرب لواحدة من أكبر الثروات السمكية.
في المقابل، عدت الحكومة حملة المقاطعة هذه بأنها غير قانونية، وتستند إلى معطيات مغلوطة، وتروج أخبار زائفة من شأنها أن تضر بالاقتصاد الوطني.
عمت جائحة كورونا لتعري واقع الحرية والممارسة الديمقراطية في البلد، إذ حاولت الحكومة استغلال ظروف الطوارئ الصحية لتمرير قانون ينظم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وصف بقانون “تكميم الأفواه” وأثار قلقًا بتأثيره على حرية الرأي والتعبير، حيث يدعو هذا القانون إلى معاقبة كل من دعا أو حرض علانية على مقاطعة بعض المنتجات أو الخدمات، وسحب الأموال من مؤسسات الائتمان أو الهيئات المعتبرة في حكمها، ونشر أخبارًا زائفةً متعلقةً بالتشكيك في جودة وسلامة بعض المنتجات والبضائع، بعقوبة تتراوح بين الغرامة والحبس تصل مدته إلى ثلاث سنوات.
خوّل حراك 2011 صلاحيات واسعة لرئاسة الحكومة، لكنها بدت عديمة الحيلة في تدبير جائحة كورنا، حيث فقد سعد الدين العثماني السيطرة بالكامل على وزارات الصحة والتعليم والمالية، التي فرضت عليها ظروف الأزمة الوبائية اتخاذ قرارات مستعجلة، وبرزت وزارة الداخلية كفاعل عمومي في الميدان مع إعطاء سلطة خاصة للأجهزة الأمنية، وكل ما اتخذ من قرارات مهمة في تدبير الجائحة صدر من القصر الملكي، ما أدى إلى تهميش لا دستوري لرئيس الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية.