“الناس اللي بتقولي أخبار التعليم إيه، هقولهم وأخبار تحديد النسل إيه؟”، هكذا تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رابطًا بين تردي المنظومة التعليمية والزيادة السكانية خلال افتتاح مشروعات جديدة في محافظة بورسعيد في 23 من يناير/كانون الثاني الماضي، متابعًا “ولا أنتم عايزين تطلبوا مننا، وإحنا منطلبش منكم حاجة؟”.
وقبل أيام أعاد السيسي الحديث عن نفس الموضوع خلال كلمته في افتتاح عدد من مشروعات القطاع الصحي في محافظة الإسماعيلية بشأن مشكلة الزيادة السكانية، الثلاثاء الماضي، قائلًا: “لا نسعى لحل هذه المشكلة من خلال إصدار قوانين حادة.. مش كل الأمور ممكن تتعمل بشدة.. وإحنا شغالين على برنامج لمواجهة الزيادة السكانية.. ونوفر الخدمات المطلوبة لهذا الأمر”.
بين الحين والآخر يخرج الرئيس المصري ليضع العربة أمام الحصان، مستعينًا بشماعة الزيادة السكانية لتبرير أي إخفاق في معدلات التنمية، ملقيًا بالكرة في ملعب الشعب الذي يعتبره السيسي متقاعسًا عن الدور المنوط به وهو تحديد النسل وتقليل معدلات النمو السكاني.
حديث السيسي – الذي يمتلك أربعة أبناء – عن خطة حكومية لتقليص عدد الأطفال ليصبح أقل من طفلين خلال الأعوام المقبلة، أثار الكثير من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما بعد هرولة الإعلام الموالي للنظام ومؤسساته الدينية والثقافية للعزف على ذات الوتر، ليبقى السؤال الجدلي على مدار عقود طويلة مضت ما زال قائمًا: هل أزمة مصر في ثروتها البشرية فعلًا؟
يذكر أن إجمالي عدد السكان في مصر بلغ نحو 101 مليون و375 ألفًا و894 نسمة، بداية العام الحاليّ، بزيادة بلغت مليون و375 ألفًا و894 خلال 10 أشهر و20 يومًا، فيما تصدرت القاهرة والجيزة قائمة المحافظات الأكثر اكتظاظًا بالسكان، بحسب إحصاءات الساعة السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
حملة ممنهجة
بعد ساعات قليلة من تصريحات السيسي شنت الأذرع الإعلامية الموالية للنظام حملة ممنهجة ضد الزيادة السكانية، كأنها حدث طارئ، لا تعود بجذورها إلى ستينيات القرن الماضي، عازفة على وتر التقنين وتحديد النسل، محملة إياها مسؤولية عدم إحساس المصريين بأي جهود للتنمية خلال السنوات الأخيرة.
وزيرة التخطيط، هالة السعيد، كانت على رأس المهللين لحديث الرئيس، حيث خرجت لتؤكد أن المواطن المصري يكلف الدولة منذ الولادة حتى سن 70 عامًا نحو 1.5 مليون جنيه (96 ألف دولار)، مضيفة “لا نستطيع التحدث عن تنمية مستدامة دون التطرق إلى الزيادة السكانية التي تلتهم كل ثمار التنمية”، وهي التصريحات التي أثارت غضب المصريين على منصات التواصل الاجتماعي، رغم أنها ليست الأولى من نوعها.
المجالس القومية والمتخصصة أدلت هي الأخرى بدلوها في هذا الماراثون، حيث أكد المجلس القومي للمرأة على لسان مقررة لجنة الصحة بالبرلمان وعضو المجلس، أحلام حنفي، أن معاناة مصر مع الزيادة السكانية تعود إلى 30 عامًا مضت، فيما فشلت كل محاولات السيطرة عليها.
حنفي في تصريحات صحفية لها أكدت أن “المجلس يدعم أي قرار تتخذه الدولة لوقف تزايد السكان ولا بد من قرارات صارمة، لأن الطفل يكلف الكثير في تعليمه والمحافظة على صحته”، مقترحة أن يتوقف الدعم للأسر التي تنجب أكثر من طفلين، مستشهدة ببعض التجارب الدولية في هذا الشأن.
الأمر تجاوز انتقاد الزيادة السكانية إلى إهانة بعض الفئات المجتمعية وتحميلها مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع، كما هو الحال مع الإعلامي المقرب من النظام، تامر أمين، الذي أحدثت تصريحاته بشأن صعيد مصر جدلًا واسعًا وكانت سببًا في وقف برنامجه المقدم على قناة النهار وإحالته للتحقيق.
وكان المذيع المثير للجدل في آخر حلقات برنامجه قال تعليقًا على موضوع الزيادة السكانية “في الريف والصعيد في نسبة كبيرة جدًا بيخلفوا (ينجبوا) أولاد وبنات مش عشان يصرفوا عليهم ولا عشان يدخلوهم التعليم يتعلموا وياخدوا شهادة ويكبروا ويتوظفوا ويبقى عندهم فرص عمل، لا، دول بيخلفوهم عشان العيال دي هي اللي تصرف على الأب والأم، بيخلف الولد وأول لما يبقى عنده 7 سنين بالكتير، يقوم راميه (يرسله) على ورشة”، وتابع “طب جالي (رزقت) بنت هغلب لا هدخلها لمدرسة لا، أول لما تبقى 8 سنين أشحن على القاهرة والإسكندرية تشتغل خدامة في البيوت”.
ورغم اعتذاره 3 مرات من خلال مقاطع بثها على حسابه الشخصي على فيسبوك، ثم تقديم القناة اعتذارًا رسميًا، وتحويله للتحقيق من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، إلا أن حالة الغضب ضد ما قاله لا تزال تتصاعد ساعة تلو الأخرى.
العباءة الدينية كانت حاضرة هي الأخرى في هذا الماراثون، وبقوة، لما تمثله هذه القضية “تحديد النسل” من جدل كبير لدى الشارع المصري بشأن مشروعيتها لا سيما بعد عشرات الفتاوى السابقة التي حرمتها، استنادًا إلى أحاديث نبوية وآراء فقهية في هذا الشأن.
البداية كانت مع دار الإفتاء المصرية التي لم تقف عند حاجز تأييد موقف الرئيس وفقط، بل دشنت حملة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، بهاشتاغ #تنظيم_النسل_جائز، للتأكيد على جواز تنظيم النسل، فيما أكد أمين الفتوى بالدار، خالد عمران، أن تنظيم النسل من الإسلام.
عمرن خلال مداخلة هاتفية مع برنامج “على مسؤوليتي” المذاع على قناة “صدى البلد” شدد على أن تنظيم النسل ليس بدعة ولا يتعارض مع شرع الله، منوهًا أن هذا الإجراء كان معمولًا به أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلًا “الصحابة كانوا يعزلون بعلم الرسول محمد صلى عليه وسلم لأسباب كثيرة منها رعاية لصحة الأم وجودة النسل للحفاظ عليهم”.
وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة (المقرب من النظام الذي أبقى عليه رغم أخطائه والانتقادات الموجهة له) خصص جمعة الأمس للحديث عن هذا الموضوع، تحت عنوان “تنظيم النسل قضية أخذ بالأسباب الشرعية“، محذرًا أئمة المساجد في كل أنحاء الجمهورية بالخروج عن مضمون الخطبة المحدد.
الأمر أكده أيضًا عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الشيخ خالد الجندي، صاحب مقولة “أنا شيخ السلطان”، الذي أشاد بجهود السيسي في مسألة القضاء على الزيادة السكانية التي حمها مسؤولية “أكل الأخضر واليابس” التي تتطلب تضافر كل الجهود لمواجهتها.
إستراتيجية قديمة
لم يكن حديث السيسي أول مرة عن خطورة الزيادة السكانية خلال مؤتمر الشباب الذي عقد في 2017، حين قال: “أكبر خطرين يواجهان مصر، هما الإرهاب وزيادة السكان”، إلا استدعاء لإستراتيجية قديمة تعود إلى أحداث يوليو/تموز 1952 حين تم الإعلان عن “برنامج تنظيم الأسرة القومي” في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
إلا أن هذا الاتجاه خفت نسبيًا إبان فترة الانفتاح الاقتصادي على الآخر، في عهد الرئيس أنور السادات، الأمر الذي كان له مردوده على زيادة أعداد السكان في هذا الوقت، لكنها الزيادة غير المقلقة، حيث نجح الافتتاح في امتصاص أي أعباء من الممكن أن تترتب على تلك الزيادة.
ومع بداية عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، عاد الاتجاه مرة أخرى وبقوة، وأصبحت حملة “عيّلين كفاية” هي الأكثر حضورًا لدى الشارع المصري الذي لم يستجب كثيرًا لمثل تلك الحملات التي كان يراها تتعارض وكثير من المؤشرات التي تشير إلى مخطط جمع ثروات الوطن في أيدي حفنة قليلة من دائرة الرئيس والمقربين منه.
القارئ الجيد لفحوى تلك الحملات يجد أنها تستهدف في المقام الأول الفلاحين وسكان الصعيد والمناطق النائية، فيما تشن هجومًا شرسًا بين الحين والآخر حيال تلك الفئات، بين الازدراء والسخرية تارة، والترهيب والوعيد بالعقاب تارة أخرى، دون أن يفكر القائمون على تلك الحملات في تحسين الأحوال المعيشية لسكان تلك المناطق التي تعتبر زيادة النسل جزءًا من اقتصادهم اليومي للحياة، حيث يساهم وجود أيدي عاملة أكثر في الزراعة والحفاظ على الأرض.
وتسير إدارة السيسي على ذات النهج الناصري المباركي، وإن كان بشكل أكثر شراسة، إذ تجاوز الأمر مجرد حملات توعية إلى التلويح بعقوبات تتأرجح بين منع الدعم أو تقليل حجمه والتشويه المتعمد ليل نهار في محاولة لإحراج فئة بعينها، وهي الإستراتيجية التي كشفت الساعات القليلة الماضية فشلها المبكر.
= #تامر_أمين في الريف و الصعيد بيشحنوا البنات على القاهرة عشان يشتغلوا خدمات!
ــ “هما دول بقي اصحاب الفضل عليك” pic.twitter.com/ODALQ3rejm
— رياض باشا المنفلوطي? (@RiadManfalouti) February 18, 2021
هل الأزمة في الزيادة السكانية؟
كثيرًا ما يستشهد النظام المصري وإعلامه بالتجربة الصينية في خفض معدلات الإنجاب كأحد النماذج التي يحتذى بها، لا سيما فيما يتعلق بسياسة “الطفل الواحد” التي اتبعتها بكين بين عامي 1978- 2015 التي كان لها تأثير كبير في تراجع معدلات النمو السكاني.
بالعودة إلى الحالة الصينية نجد أن عدد سكانها يبلغ مليارًا وثلاثمئة وثمانية وتسعين مليون شخص، أي ما يقارب خمس عدد سكان العالم بأكمله، ويبلغ حجمها 9.597 مليون كيلومتر مربع (أي أن الكثافة السكانية تساوي 145 شخصًا في الكيلومتر المربع).
ورغم سياسة “الطفل الواحد” التي اتبعتها البلاد منذ 1979، فإنها تراجعت عنها بصورة كاملة قبل خمس سنوات، وبدأت في تشجيع الإنجاب دعمًا وتعزيزًا للطفرة الاقتصادية التي تحياها الصين خلال الآونة الأخيرة، التي كان المورد البشري عامل نجاحها الأول.
القاهرة وعلى طريقة الفنان محمد صبحي في مسرحية “تخاريف” حين أراد تطبيق الاشتراكية واكتفى بعبارة: أن تجمع الحكومة كل الثروات في يديها، – دون أن يكملها – وأن تعيد توزيعها على الشعب مرة أخرى، تريد تطبيق التجربة الصينية لكن في مراحلها الأولى فقط، مرحلة التحديد والعقاب.
الكثير من الخبراء لا ينكرون تأثير الزيادة السكانية في معدلات التنمية، لكن في الوقت ذاته يرجعون هذا التأثير السلبي إلى سوء إدارة هذا المورد العظيم، فالثروة البشرية من الممكن أن تكون نعمة ونقمة في الوقت ذاته، غير أن هذا يعتمد على إستراتيجية إدارتها وتوظيفها لصالح مسارات التنمية والتطور، وهو ما تترجمه تجارب العشرات من الدول التي لديها معدلات سكانية كبيرة لكنها في الوقت ذاته تحقق طفرات اقتصادية هائلة.
تحميل الشعب مسؤولية فشل الوصول بمعدلات النمو إلى مستوى الوعود المقطوعة سابقًا، أداة سياسية معتاد أن تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية، في محاولة لتبرئة ساحتها أمام شعوبها، فالأنظمة هنا لا تفشل ولا يمكنها أن تخفق مطلقًا، طالما أنها الوحيدة التي تملك الوعي الكامل وأدوات التنمية المستدامة.
تصريحات السيسي في يناير/كانون الثاني الماضي حين ربط بين تردي التعليم والزيادة السكانية بقوله “الناس اللي بتقولي أخبار التعليم إيه، هقولهم وأخبار تحديد النسل إيه”، هي اعتراف ضمني بالفشل، ليس في تطوير منظومة التعليم فقط، بل في إدارة هذا الملف برمته، ملف الثروة البشرية، لذا يتوقع أن ينسحب الفشل إلى بقية قطاعات الدولة، صحة وسلة غذائية ومخزون نقدي، إلخ، لتنتقل شماعة الفشل من الإخوان إلى الزيادة السكانية، فهي شماعة أطول عمرًا وأوقع تأثيرًا.
غضب على السوشيال ميديا
أحدثت تلك التصريحات غضب الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها البعض كاشفة لحجم التناقض والمفارقة في توجهات الدولة الممارسة على أرض الواقع وحملات تحميل تراجع الموازنة للزيادة السكانية، فها هو أحمد قيسان يعلق: “لكن الإسراف في إهدار المال العام والتوسع الباذخ في بناء القصور الرئاسية والاستراحات والكباري التي ليس لزوم وغيرها من إفقار الناس عبر هذه القروض التي ستكبل الأجيال لعقود قادمة”.
أما الإعلامي أيمن عزام، فاستنكر طلب السيسي تحديد النسل بطفل واحد فقط أو طفلين، بينما هو لديه أربعة أطفال، أنجبهم جميعهم في خضم حملات التوعية بخطورة الزيادة السكانية، في الوقت الذي طالما أشار فيه إلى فقره، حين امتلك ثلاجة لا يوجد بها إلا المياه لمدة عشر سنوات، حسب كلام السيسي سابقًا.
#تحديد_النسل
طيب ما هو #السيسي عنده ٤ عيال مخلفهم أيام حملات تحديد النسل في الإعلام (حسانين و محمدين )و( لو رحتي الوحدة الصحية و سمعتي كلامي يا شلبيّة كنتي يا بنتي فضلتي صبية وما شفتيش الدوخة دية )
و كانت وقتها ثلاجته مفهاش غير (أزايز مية ) لمدة ١٠ سنين ،
???? #يوم_الجمعة
— Ayman Azzam (@AymanazzamAja) February 19, 2021
أما قادر سمير فطالبهم بالتخلي عن تلك الشماعة لتعليق الفشل، مطالبًا النظام المصري بالاقتداء بالنماذج الناجحة هذا الشأن: “الزياده السكانية ليست مشكلة بل هي أساس التنمية والنمو للاقتصاد، متعملوش الزيادة السكانية شماعة لفشلك وعندنا أمثلة كثيرة مثل الصين واليابان وغيرهم المشكلة هي سوء الإدارة وسوء استخدام الموارد المتاحة وعدم الاستثمار في العنصر البشري بالتعليم والتدريب”.
— Kadrisamir (@Kadrisamir17) February 19, 2021
حالة من الجدل يحدثها الرئيس المصري بين الحين والآخر بمثل هذه التصريحات التي تتلقفها أذرعه الإعلامية بمزيد من التجويد وإضافة التحابيش، فتارة يكون الإخوان هم كبش الفداء لتبرير الفشل، وتارة ثانية ثورة يناير وتبعاتها، وتارة ثالثة الزيادة السكانية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على رجل الشارع الذي يتعامل معها بسياسة “التصويت المضاد” ما يضع النظام كل مرة في مأزق حرج.