اعتاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحميل المجتمع كل مشكلات العلاقة بين المواطن والدولة منذ أن وصل إلى السلطة، حيث تساءل مستنكرًا في أول ظهور رسمي له على الشاشة مرشحًا للرئاسة: “إيه يا مصريين هتاكلوا مصر ولا إيه؟ أنا مش قادر أديك، مش مش عاوز.. مش قادر أديك”.
وبناءً على هذا التصور الذي أسس له السيسي عن كون مشكلة البلاد تكمن في جشع المصريين الزائد، لا في سوء الإدارة، صاغ خطته الاقتصادية التي تهدف إلى الحد من هذا الجشع وتوسيع موارد الحكومة، فرفع على التوالي الدعم الحكومي عن المحروقات، وطبق ضرائب القيمة المضافة على السلع الأساسية، وعوم سعر الجنيه في السوق المصرية، حتى وصلت إرادات الموازنة العامة من الضرائب أرقامًا غير مسبوقة.
رغم أن هذه القرارات أصابت قطاعات كثيرة من المصريين بكسادٍ كبير، إلى أن وصلت معدلات الفقر بعد تحسين الحكومة لهذه الأرقام بحيث تظهر في أقل نسبها إلى 32%، فإن أفق المصريين تجاه مطامح السيسي لتطبيق خطته الاقتصادية ظل محدودًا بنوع معين من القرارات، إما رفع جديد في أسعار المحروقات وإما في أسعار الطاقة والخدمات، حتى شاعت عبارة “الصب في المصلحة”، مجازًا شعبيًا ساخرًا من القالب اللغوي الذي تصف فيه الدولة قرارات رفع الأسعار دوريًا.
لكن يبدو أن جعبة السيسي لا تخلو من التقاليع الجديدة، فقد بدأ مؤخرًا حملةً جادةً لتبرير عدم شعور المواطنين بالرضا عن الأداء الحكومي العام، عبر ترويج مقولة إن المجتمع يحتاج إلى النزول بمعدل مواليده نزولًا قياسيًا، وإلا فلا منطق لسؤال الدولة عن سبب سوء الأحوال المعيشية، وسيظل هذا المجتمع يأكل نفسه على حد قوله.
كيف بدأ الفقر؟
في أكثر من لقاءٍ لأعضاء من جماعة الإخوان بعد الانقلاب العسكري مباشرةً وقبل صعود السيسي إلى الحكم، تواترت شهادةٌ لافتة تقول إن السيسي في بعض الاجتماعات الحكومية التي كانت تبحث تدبير تيسيرات للمواطنين في بعض القطاعات، كان يتدخل رافضًا هذه السياسات.
سبب اعتراض السيسي وفقًا لما حكاه أعيان مثل أسامة ياسين وزير الشباب الأسبق وباسم عودة وزير التموين الأسبق على منصة ميدان رابعة العدوية (كلاهما معتقل حاليًّا) كان، على حد وصفهم من مداخلات السيسي في هذه الاجتماعات، أن الشعب المصري “اتدلع” كثيرًا، وكفى دلعًا حتى لا تسوء الأوضاع.
السيسي هو أول رئيس يعتبر أن الشعب عبء على حكامه، عدا بعض التصريحات الطائشة التي تندرج ضمن باب الوعود الانتخابية
قد تكون هذه الشهادات مدرجة ضمن باب التراشق السياسي على اعتبار أن رواة هذه الشهادات من خصوم السيسي، لكن الواقع يقول إن السيسي نفسه، في أحد التسريبات الشهيرة، اعتبر أن الإصلاح الاقتصادي في نظره أن يتوقف الدعم الحكومي وأن يحصل المواطن على المنتج بقيمته الحقيقية، مشيرًا إلى أن الرئيس الأسبق أنور السادات أخطأ عندما انصاع إلى مظاهرات المصريين ضد سياسة رفع الدعم.
ومن ثم، يمكن القول إن السيسي لم يتغير في تشخيصه لمشكلة البلاد وطريقة الحل، فالسيسي هو أول رئيس يعتبر أن الشعب عبء على حكامه، عدا بعض التصريحات الطائشة التي تندرج ضمن باب الوعود الانتخابية مثل: “لازم أغني الناس قبل رفع الدعم” ومديحه الزيادة السكانية، إذا حسنت إدارتها، لكن السؤال: لماذا طرح السيسي هذه المشكلة بهذه الصيغة في هذا التوقيت؟
هندسة ديموغرافية
يجيب السيسي عن السؤال السابق في مداخلته التليفزيونية الأخيرة مع الإعلامي عمرو أديب في برنامج “الحكاية” على قناة “إم بي سي مصر” مؤكدًا صحة التحليل السابق، أن هذا الأمر، ضرورة تقليل أعداد المواليد على المستوى الوطني، كان مطروحًا دائمًا، لكن الوقت لم يكن مناسبًا لاتخاذ إجراءات في هذا الاتجاه نظرًا لصعوبة تقبله من المواطنين.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي خلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة التي باتت حدثًا قوميًا ذا حلة جديدة، يستعير فيه السيسي حرب أكتوبر للإشارة إلى أن الوطن كان له أعداء خارجيون نجح في الانتصار عليهم وبات له أعداء داخليون، كالإرهاب ومشكلات المجتمع ينبغي مواجهتهم، عرض السيسي رسومًا بيانية تبرز حجم الزيادة السكانية المطردة في العقود الأخيرة، حيث كان هذا العرض تدشينًا لمرحلة جديدة من خطاب السلطة الذي يحمل المجتمع مسؤولية كل المشكلات.
لكن اللافت أن السيسي بدأ هذه الحملة خلال الشهور الأخيرة بالتزامن مع 3 أحداث: الأول اقتراب انتهاء رفع الدعم الحكومي عن المحروقات والطاقة، الذي كان مقررًا له أن ينتهي تمامًا خلال 7 أعوام، والثاني هو إعلان ثورة القضاء على المخالفات العمرانية (الإسكان) ووضع شروطٍ قاسية لتنظيم حركة العمران في المجتمع، وصولًا إلى اقتراب انتقال السيسي وحاشيته إلى عاصمةٍ جديدة تحمل أفقًا جديدًا وقدرات مختلفة لإدارة النظام والتحكم في المجتمع.
بشيء من التفصيل وبالعودة إلى تصريح السيسي عن تحري الوقت المناسب لطرح المشكلة السكانية، سنجد أن هذا الوقت المناسب جاء بعد اقتراب انتهاء خطته التي حملت اسم “تثبيت أركان الدولة”، التي تعني تشذيب كل أنواع الاجتماع الرسمي وغير الرسمي بدعوى محاربة “أهل الشر” ومنعهم من إعادة تشكيل أنفسهم لتهديد نظامه، عبر السيطرة الكاملة على الإعلام والمجتمع المدني والحياة السياسية وتقوية أجهزة الأمن التي اهتزت بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 سياسيًا.
بالإضافة إلى رفع الدعم عن معظم الأنشطة الاقتصادية الأساسية، بما في ذلك الانتهاء من رفع الدعم عن الطاقة والمحروقات وربطهم بالسعر العالمي، وزيادة مداخيل الدولة من الضرائب إلى أكبر حدٍ ممكن، وتحسين مستوى الخدمات العامة بشكل نسبي، وتوسيع قدرة الدولة على محاصرة الاقتصاد غير الرسمي من خلال التحول الرقمي.
ثم دخل المجتمع مرحلة جديدة، بخطابٍ جديد، في هذا التوقيت الحاليّ، التي تقوم على إعادة هندسة سياسات السكان والإسكان، وهكذا نحو الهدف النهائي الذي يسعى إليه السيسي: أن تكون الدولة قويةً (من حيث المداخيل المحصلة من المجتمع والقدرة على توفير الخدمات الأساسية بشكل جيد وأسعار مرتفعة) والمجتمع محوكمًا خاضعًا لرقابة الدولة بالكامل.
بدأت المؤسسة الدينية الرسمية والشيوخ المقربون من النظام، إعادة تأويل النصوص الدينية التي تحض على الإنجاب
ستدعم الدولة طفلًا واحدًا أو طفلين على الأكثر ضمن مساعيها لإجبار المواطنين على التخفف من الإنجاب، مع التوسع في البرامج الثقافية والدينية لـ”تصحيح وعي المواطنين” عن خطورة هذه المشكلة، بالتزامن مع السيطرة على حركة الإسكان، واحتكار الدولة ومقاوليها مسؤولية توفير المنازل للمواطنين بشكلٍ يستبق الطلب الاجتماعي على الشقق ويحد من البناء العشوائي غير المخطط، نحو مخيال السيسي عن الدولة والمجتمع المثاليين.
خطوات عملية
مع تمادي السيسي في تقريع المواطنين تجاه سلوكياتهم وعاداتهم الشخصية وأنماط تفكيرهم، بدايةً من الغذاء (تقسيم الرغيف)، وفي الأوزان المرتفعة، وفي استهلاك الطاقة، وفي العمران (أعدى أعاديها) وصولًا إلى مشكلة المواليد التي اعتبرها سببًا لعدم ظهور جدوى جهود الدولة لحل مشكلة التعليم، استباح المسؤولون الحكوميون ممارسة نفس الأساليب مع المواطنين.
قالت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد تعليقًا على الحملة الرئاسية الجديدة لتحديد النسل، إن كل مواطن مصري يكلف ميزانية الدولة منذ ميلاده إلى وصوله سن السبعين نحو مليون ونصف المليون جنيه، عبر قسمة ميزانية الدولة في الأعوام الأخيرة على عدد المواطنين.
يرصد الدكتور عمار علي حسن، أستاذ علم الاجتماع السياسي وأحد الأكاديميين المعروفين بتوجهاتهم الموضوعية وعدم الميل إلى المعارضة هذا النهج، فيعتبره استباحةً لأوليات حقوق المواطنين وإهدارًا للمتعارف عليه في أبجديات النظريات الفلسفية والقانونية عن كون الحكومة في الأساس مجموعةً من البشر المختارين من وسط المجتمع للقيام ببعض المهمات، وعلى رأسها خدمة المجتمع كله لفترة مؤقتة.
إذا فككنا تلك المفارقة التي رصدها حسن في إحدى مدوناته الأخيرة، ووضعناها جنبًا إلى جنب مع خطط السيسي التي يسميها “تثبيت أركان الدولة” وإعادة هندسة المجتمع ديموغرافيًا (الإسكان والسكان) مع الانتقال إلى قلاعٍ حصينة منيفة بعيدة عن المواطنين، وزيادة فتراته في الحكم خلال التعديل الدستوري الأخير 2019، سيتبين لنا خطأ الوعد الذي قاله السيسي لعمرو أديب منذ 4 أعوام، وهي أنه لم يأت إلى التأبيد في الحكم، فالسيسي لم يأت إلا إلى التأبيد في الحكم، ومنح من سيخلفه مجتمعًا محوكمًا خاضعًا لإدارة الدولة يمكن التنبؤ بسلوكه واستيعاب ثورته.
وضمن رؤيته لطريقة إدارة الحكم وتبنيه نظرية انصهار كل أدوات السلطة المادية والرمزية معًا (الأذرع الإعلامية)، بدأت المؤسسة الدينية الرسمية والشيوخ المقربون من النظام، إعادة تأويل النصوص الدينية التي تحض على الإنجاب، باعتبارها تحض على التزاوج نفسه، لكن ذكر الإنجاب فيها كان صيغةً بلاغية مخاتلة، محددة بالمقاصد الأسمى كالحفاظ على المجتمع والقدرة على الإنفاق.
قالت دار الإفتاء المصرية نصًا “حديث تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة، ليس فيه إلا الحث على الزواج وهو أمرٌ فطريٌ، والحث على التناسل حتى لا ينقطع النوع الإنساني وهو أمر فطري أيضًا، وأما مباهاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته فلا تكون من خلال كثرة أعدادهم من ناحية الكم والعدد، وإنما تكون بما قدموا للبشرية من علم وحضارة وإنجاز، أما من ناحية الكم والعدد فقط فقد ذمه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر حيث قال: “(غثاء كغثاء السيل) أي العدد الكثير الذي لا وزن له”، مذيلةً الفتوى بوسم: “تنظيم النسل جائز”.
وقد مدح وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، الوزير الوحيد الذي لم يتغير منذ قدوم السيسي إلى السلطة رغم تتابع الحكومات عليه، العقم في خطبة الجمعة الأخيرة أمس قائلًا: “العقم قد يكون نعمة، ويجب الارتقاء بتفكير المصريين، لأن سعي البعض لمعالجة تأخر الإنجاب وحرصهم على “الخلفة” نوع من أنواع القنوط من رحمة الله وعدم الرضا بقضائه، وتحديد النسل لم يعد حلًا فقط بل ضرورة شرعية”.
اعتاد تقريع المواطنين على سلوكياتهم كأنه وصيٌ عليهم، وأن هذه الحملة ليست مجرد حملةٍ اجتماعية وإنما تدخل ضمن مشروعه السياسي
كما قدم نوابٌ برلمانيون ووزراء مثل وزيرة التضامن الاجتماعي، نيڤين القباج، في الساعات الأخيرة مقترحات متنوعة إلى لجان البرلمان المتخصصة، كالصحة والإسكان، لبحث آليات تطبيق التجربة المصرية في مجال تحديد النسل، فيما يقول مراقبون إنها تنفيذ لتعليم السيسي في هذا الصدد.
انتقادات عامة
يرجع تاريخ برامج تنظيم النسل إلى عهد حسني مبارك وبرامج الأمم المتحدة والمنح الغربية في هذا الشأن، ومع عدم وجود فتاوى رسمية تأمر المجتمع بالتقليل من الإنجاب صراحةً لكن هناك خطوطًا أخلاقية دينية عريضة، فقد كان هناك اتفاق ضمني عام بين العناصر الأساسية المعنية بالأمر: السلطة السياسية والمجتمع والجهات الدينية، بأنه من الضروري أن يتقيد الإنسان بإنجاب عدد من الأبناء يشعر معهم بالتحقق والأمان، في نفس الوقت الذي يستطيع خلاله عنايتهم وعدم إهمالهم.
لكن السيسي يختلف عن مبارك بهذا الأمر من عدة زوايا، منها أنه اعتاد تقريع المواطنين على سلوكياتهم كأنه وصيٌ عليهم، وأن هذه الحملة ليست مجرد حملةٍ اجتماعية وإنما تدخل ضمن مشروعه السياسي، حيث يتقاطع الاجتماعي مع السياسي، وأن لديه شعورًا مفرطًا بالقوة على إجبار المجتمع على أمور فشل حكام سابقون في إجباره عليها، لذلك فإن هناك حالةً من الترصد والغليان المكتوم بين السلطة والمجتمع.
في المقابل من دعم المؤسسة الدينية والإعلامية الرسمية لحملة السيسي الجديدة، عاب المواطنون على السيسي حثهم على التخفف من الإنجاب والاقتصار على مولودٍ واحد، بينما أنجب هو 4 أبناء، 3 من الذكور وفتاة واحدة، لم يكن يمتلك ما يسد رمقهم به، حيث ظل سنوات طويلة بثلاجةٍ لا تحوي إلا الماء، كما قال في كلمة رسمية سابقة.
فيما انتقد أطباء عدم منطقية مطالبات السيسي النساء بتخفيض نسبة المواليد السنوية من مليوني مولود إلى 400 ألف مولود، إذ تعرف نسبة الخصوبة بحساب متوسط ما تنجبه المرأة في مجتمع ما من أبناء على مدار حياتها، ويبلغ متوسط إنجاب المرأة المصرية 3 أبناء طوال عمرها.
وبتطبيق نسبة النزول التي يريدها السيسي (80%) نظريًا على عدد نساء مصر، فإن كل امرأة ينبغي لها أن تنجب “ثلثي” طفل فقط، وهو أمرٌ غير معقول، يكشف أن مصر لا تعاني أصلًا من مشكلةٍ كبرى في الزيادة السكانية، بقدر ما هي مشكلة في توزيع التنمية والثقافة والموارد على المجتمع.
كما آثار تزامن تصريحات الرئيس التركي رجب أردوغان، المحذرة من عواقب العزوف عن الإنجاب ببلاده في حدوث أزمة سكانية شبيهة لما تعاني منها أوروبا حاليًّا، مع تصريحات السيسي الداعية لتحديد النسل، موجة عضب وسخرية كبيرة في الشارع المصري، نظرًا لتشابه الظروف بين المجتمعين إلى حدٍ كبير، من حيث حجم السكان وحجم الدولة، مع اختلاف نظرة كل حاكمٍ إلى شعبه، كما قال مدونون.
من المتوقع أن يصر السيسي على تطبيق سياسات حازمة في ملف تحديد النسل، فقد بدأ الخطاب يتخذ مسارًا مشابهًا لما حدث في ملف تنظيم سياسات العمران، من حيث التصعيد التدريجي
ما كان على السيسي فعله لتفادي حدوث فجوة بين متطلبات السكان وقدرات الدولة على تدبير احتياجاتهم، هو التركيز على الاستثمار فيما يعرف بسياسات التنمية المستدامة وإطلاق قدرات المجتمع وترشيد الإنفاق الحكومي على المشروعات العملاقة التي تعطي مردودًا دعائيًا وتشغيلًا مؤقتًا مثل قناة السويس الجديدة وغيرها.
وليس معنى أن الاستثمار في الطاقة، على سبيل المثال، مهم أن تنفق الدولة مليارات ضخمة بالقروض الخارجية على إنشاء محطات عملاقة توفر إمدادات أكبر من احتياجات السوق ثم تعجز عن تصريفها، كما حدث في هذا النوع من المشروعات مع شركة “سيمنز” الألمانية، على حد قول أحمد مولانا الباحث في الشأن المصري.
المستقبل
من المتوقع أن يصر السيسي على تطبيق سياسات حازمة في ملف تحديد النسل، فقد بدأ الخطاب يتخذ مسارًا مشابهًا لما حدث في ملف تنظيم سياسات العمران، من حيث التصعيد التدريجي من السيسي والتركيز على القضية في كل مناسبة رسمية، وذلك بغض النظر عن معقولية ما يطالب به، حيث قال السيسي خلال كلمته الأخيرة عن النسب المرجوة من هذه الحملة: “يحصل إزاي؟ أنا ما أعرفش إزاي!”.
وفي حال جوبهت الحملة بغضبٍ شعبيٍ كبير، قد يضطر السيسي إلى التراجع نسبيًا خاصة أن هذه المسألة حساسةٌ بالنسبة للمجتمع كما تقول التقارير الأمنية ذات البعد الاجتماعي، وأنه سبق وتراجع تكتيكيًا في أكثر من موقف كان أهمهم بعد أحداث سبتمبر/أيلول الأولى والثانية، بالإضافة إلى أن تنفيذ حملةٍ لتقليل معدلات المواليد يتطلب عملًا متواصلًا لسنين، بغض النظر عن عدم القدرة المنطقية على الوصول إلى الأرقام التي تحدث عنها السيسي، وهو ما يعني مساحةً أكبر من الحركة في الخطاب والسلوك.
أولى “الأزمات” التي حدثت في الساعات الأخيرة وأبرزها كانت تلك المتعلقة بتصريحات الإعلامي المقرب من النظام تامر أمين، عندما تجاوز في حق المناطق الأكثر فقرًا التي تعرف بمعدلات عالية من الإنجاب قائلًا: “في الريف وفي الصعيد في ناس بتخلف عشان عيالهم هم اللي بيصرفوا عليهم، الولد يوديه ورشة والبنات يشحنوهم على القاهرة عشان يشتغلوا خدامات”.
إثر الغضب الشعبي الذي عم مواقع التواصل الاجتماعي ردًا على هذه التصريحات المسيئة، اضطرت القناة إلى إيقاف البرنامج وتحويل راتب المذيع إلى إحدى المؤسسات الخيرية، كما هرول أمين إلى الاعتذار مبررًا بأنه لم يقصد الإساءة وأنه كان يهدف إلى المصلحة العامة فقط.
في ضوء هذه المعطيات: تجاوز السلطة ضد المواطنين وإصرار الرئيس على تنفيذ إجراءات حساسة بمنطق “أنا عيني فيه”، كما قال خلال أزمة قانون التصالح الأخيرة، التي تندرج ضمن خطته لإعادة هندسة المجتمع ديموغرافيًا، ومع عدم ارتياح المواطنين لهذه السياسات غير المسبوقة، فمن المؤكد أن القاهرة ستشهد أيامًا ساخنة في الفترة المقبلة على وقع أشكال جديدة من الإفقار الذي ترعاه السلطة وتحاول تمريره إلى المجتمع.