(1)
عاش مركز سمالوط بمحافظة المنيا يوم أسود من أيامه السوداء – وما أكثرها! – سواد ماضيه وحاضره ومستقبله القاتم، حيث فقد أكثر من أربعين شهيدًا من أبنائه في مشهد هوليودي صادم للموت الجماعي إثر سقوط حافلة من معدية في نهر النيل كانت تقلهم أثناء تشييع جنازة عمة صديق لي، وكنت في موعد مع الموت تم تأجيله من قبل علام الغيوب لحكمة أرادها – سبحانه وتعالى – حيث كنت من المشيعين للجنازة لولا أنى اكتفيت بقيراط الصلاة على الجنازة.
يخبرني صديقي الذي شاهد هول المشهد وضخامته عن تتطاير أرواح الغرقى في سباق ماراثونى .. من منها ستسلم أولاً على ملك الموت؟!
أرواح جلها متوضئة طاهرة صلت صلاة الجنازة في المسجد وانتظرت لساعة ونصف أمام الكفن في انتظار ميعاد تشييع الجنازة في الخامسة عصرًا وهي تحلم بقيراطين في الجنة، خاشعة قلوبها، متدبرة موقفها، راجية عفو الرحمن وشاكية من قسوة الإنسان.
وفي وسط دهشة الحضور وصرخات المكلومين وأنات اليائسين تقف الإرادة الإنسانية عاجزة أمام تلاطم الأمواج وتتطاير جثث الغرقى أمام أعين الجميع لتتقاذفها الأمواج حتى تغيب عن أنظار أهلها ومريديها.
وتمر الساعات وتكثر الاتصالات بالمسئولين التنفيذين في مركز سمالوط ومحافظة المنيا وسط إحباط ويأس الناس من إنقاذ جثث الغرقى حتى يهدأ لهيب قلوب الناس على فقد أعزائهم … ولا مجيب!
(2)
وليست هذه الكارثة الأولى التي تحدث في هذا المركز المشئوم، لكن تاريخه حافل بالكوارث والمصائب، فكثيرًا ما يحدث مثل هذه الحوادث وكل ذلك بسبب عجز النظام الحاكم عن بناء كوبري علوي فوق نهر النيل يربط شرق المركز بغربه، مع العلم أن هذا الكوبري يعد من المشاريع الاستثمارية الكبرى في المركز حيث يوجد في الجانب الشرقي مصانع أسمنت ومحاجر جيرية وأيدي حرفية عاملة كثيرة، كما يوجد مزار العذراء مريم التاريخي والذي يرتاده سنويًا أكثر من مليوني سائح، وكذلك حاجة الشرق للغرب في بيع حجر البلوك للبناء والحصول على مواده الغذائية والتمونية، وكل هذا يحدث من خلال معديات الموت وقواربه حتى الآن، وتتوارد الأنباء بين أهالي سمالوط عن تواطىء الأجهزة المعنية في الحكومات المتعاقبة مع أصحاب المصالح والمستيفدين من عدم إنشاء كوبري علوي فوق النيل.
(3)
ومع عظم الكارثة وقسوتها ومرارتها وكثرة ضحاياها التي أصابت جل مركز سمالوط وغضب وحنق الأهالي من الحادث الأليم وإهمال المسئولين وكذبهم وبقاء كثير من الجثث لم يتم انتشالها من الماء حتى كتابة هذه السطور، مع استخفافهم بأرواح الناس وقيمتها التي لا تساوي أكثر من 2000 جنيهًا (لاتساوى قيمة هاتف محمول!) عند سيادة المحافظ اللواء! إلا أن هذا الغضب خامل وكامن ولم يترجم في عمل ثوري جمعي غاضب يعبر عن حجم الكارثة وفداحتها في صورة كشفت عورة المجتمع السمالوطي الصعيدي الذي سيظل مهد العبودية ومحضن الذل وصوبة الخنوع والهوان، وليس هذا تجنيًا مني على موطن أجدادي وجذوري الراسخة في الطبيعة الطينية والحياة الريفية!
لكنه ظاهر وجلي في الكاتلوج النهائي والمحصلة الختامية لتاريخه في التعامل مع الكوارث، كما أنه رصد لتمظهرات الحياة وصورها في الجانب الطيني لسكانه، ومتابعة دقيقة لمظاهر ذلك الحقن المجهري والزرع الجيني والتدخل الصناعي الذي أصاب العقول والقلوب والنفوس وملامحه والتي تكمن في الآتي:
(1) الرضا بالقليل والكفاية بالمتاح والتأقلم معه، والرضا به ضعفًا واستكانةً واستسلامًا لا تعبدًا مع سعي أو بذل، والتصبر بالممكن في غير همة ولا بأس.
(2) السكون والخضوع للكبير – وإن كان جبارًا أو متكبرًا أو على خطأ – في صورة كبير الحسب والنسب والسطوة أو كبير السن أو كبير العائلة أو الأعيان أصحاب القرى والنجوع والأطيان، مع سيطرة العوائل الكبيرة ذات التاريخ الفلولي على المشهد السمالوطي، بالإضافة إلى رجال الأعمال وأصحاب الأموال وكبار العوائل من أبناء النظام القديم وسدنة أبوابه.
(3) الثبات على تقاليد وعادات بالية وأخطاء جسيمة في حق الأفراد والمجتمعات وعدم الثورة عليها بل وتوريثها توريثًا إجباريًا وإما لفظ الفرد من سبيكة العائلة أو الحي وطرده اجتماعيًا إن لم يتقيد بتقاليدها وطبائعها وخرج عن طوعها.
(4) قولبة الشكل وحدودية التمظهر والإسطمبة في الحياة وتفاصيلها والحفاظ على رتم واحد كالاستيقاظ مبكرًا والذهاب للحقول ثم العودة مع غياب الشمس والنوم مبكرًا والهاب للعمل الحكومي المقدس، وهكذا في شكل دولبة الحياة وتدويرها.
(5) العادة المنتنة والمتصلبة في جينات النفس الصعيدية عامة والسمالوطية خاصة وهى من صور الطينية الحمقاء ألا وهي التعصب للعائلة والقرية والنعرات القبلية الكاذبة في صور النقاء العرقي والعنصري المقيت الذي يهتك أستار النسيج المجتمعي ويعزله في شكل كنتوني بغيض.
(6) التهميش المتعمد للصعيد ومراكزه وقراه من الأنظمة الحاكمة، والمركزية المتغولة إعلاميًا وسياسيًا واقتصاديًا في المدن الرئيسية، والتي أصابت المجتمعات القروية بالضعف والغياب عن المشهد السياسي واللحاق بالركب الثوري متأخرًا ومتأخرًا جدًا.
(7) الإيمان الشكلي والمخدر في النفوس والذي لا يلامس القلوب والعقول وإنما مظاهره تكمن في عادات شكلية في صور تعبدية:
– أركان الإسلام كالصلاة والصيام والحج شكليات وطقوس تعبدية دون أثر لها على النفوس والقلوب والأعمال؛ فتجده يصلي ويصوم ويسرق جاره ويقلب أرضه ليأخذ من حدود جاره وأرضه ويترك ماء الري ليغرق أرض جاره ويتلف زرعه وثماره ويفرح لمقتل جاره أو اعتقاله ويسب عرضه ويتكلم في حقه وإذا استضعفه تجبر وإذا استكثره تكسر.
– فجوة كبيرة وبون شاسع بين الأخلاق والتدين؛ فالمتدين إما سيء الأخلاق والمعاملات وإما به قصور شديد في الأخلاق الأساسية كالكرم والشجاعة والمروءة، وصاحب الأخلاق الأساسية ليس متدينًا فلا يحافظ على صلاة أو صيام (وهذا ليس تعميم ولا إجحاف لكنه لقطة مصورة لكثير من الصور والأشكال).
– أكل ميراث المرأة؛ فالنساء ليس لها أن ترث في دين الصعيد ودين الأخوة الرجال فلا أرضًا ترثها ولا قيمتها نقودًا تحق لها، مع انتهاك حقوقها وسفك عزيمتها وإراداتها وقتل روح الإيجابية والمشاركة الاجتماعية فيها.
– انتشار زنا المحارم كالنار في الهشيم في المراكز والقرى والنجوع لكثافة شركاء بيت العائلة والاختلاط المحرم وضعف الوازع الأخلاقي والرسالي مع الفراغ القروي الكبير وزيادة تكاليف الحياة وأعبائها.
(8) توغل صورة التدين النمطي وترييفه كما يقول أستاذنا حسام تمام – رحمه الله – المتمثلة في تيارات الإسلام السياسي الإصلاحي الساكن في مركزه والمتحرك في بعض أطرافه، وجماعات السلفية الداجنة وتفصيل أشكال وصور إسلامية راكده تؤمن بالدولة السلطوية وتعمل من خلالها مع بعض الأنياب الديكورية كملح الطعام.
(9) انتشار الجهل والفقر والمرض (ثلاثية الأنظمة) للسيطرة على مراكز الصعيد وقراه بأشكالها وصورها بل على دول بأكملها، فالجهل هنا لايعني الأمية فقط لكنه أيضًا الجهل الثقافي والمجتمعي والرسالي بدور الفرد والمجتمع المدني كنوع من أنواع التغيير الناعم في الدول.
(10) انغلاق الكنيسة وأبنائها على نفسها وانعزالهم عن المجتمع والشأن العام وإجادة الدور الصفقاتي السيى لحماية نفسها وأبنائها ولو على حساب الوطن والدماء.
وأخيرًا إلى متى ستظل مراكز الصعيد وقراه بهذا الحال؟! ومتى سينهض الصعيد وينفض عنه غبار الخضوع والسكون ويستفيق من نومه في سبات النظام القديم؟! وإلى متى سنشيع جنائزنا في مركز سمالوط بجنائز جديدة وكثيره؟!