يفكر فلاديمير بوتين في استخدام التكتيكات القديمة لوقف الموجة المتزايدة من الاحتجاجات على مستوى البلاد الداعمة لأشد منتقديه، زعيم المعارضة الشعبية أليكسي نافالني. وقع تطوير هذا التكتيك في أواخر التسعينات من قبل أيديولوجيّي الاستخبارات السوفيتية (الكي جي بي) وطُبق بنجاح من أجل إيصال فلاديمير بوتين إلى السلطة، الذي يحكم الآن البلاد بيد من حديد لمدة أطول من جميع أسلافه السوفييت باستثناء جوزيف ستالين. كانت المهارات التكتيكية لمصممي سياسة بوتين تهدف إلى تخويف المواطنين الروس من “الإرهابيين الإسلاميين” والانفصالية الشيشانية وتوحيد القوى الوطنية والقومية حول زعيم جديد قادر على تحدي الغرب.
عندما أصبحت الاحتجاجات التي عمت البلاد لدعم نافالني من ياقوتيا إلى كالينينغراد التحدي الأكثر خطورة، بدأ الكرملين في التنديد بتهديد المتطرفين الإسلاميين والإرهابيين الدوليين. هذه المرة، يقوم نظام بوتين بترهيب المحتجين بهجمات إرهابية وشيكة من جهاديي آسيا الوسطى والقوقاز وتنظيمهم السوري الأم، هيئة تحرير الشام.
عشية الاحتجاجات المنتظرة على مستوى البلاد في 14 شباط/ فبراير، حذّر مكتب المدعي العام ولجنة التحقيق ووزارة الداخلية الروسية من عدم قبول الدعوات للمشاركة في مسيرة غير مصرح بها. ونشرت وكالتا الأنباء الرسميتان الروسيتان “نوفوستي” و”إيتار تاس” معلومات تفيد بأن أقوى فصيل سني متشدد في هيئة تحرير الشام في شمال سوريا يستعد لسلسلة من الهجمات المنفردة خلال الاحتجاجات الجماعية المقبلة في الشوارع لأنصار نافالني في مختلف المدن الروسية. وقد استشهدت وسائل الإعلام الموالية للكرملين بمصادرها غير المكشوف عنها لإنفاذ القانون ونشرت في النهاية مجرد نظريات مؤامرة.
أفادت مصادر مجهولة لأجهزة الأمن الروسية بأن كتيبة الجهاد الأوزبكية المدعومة من هيئة تحرير الشام، كتيبة التوحيد والجهاد، والمجموعات المتشددة الشيشانية أجناد القوقاز وجيش المهاجرين والأنصار يخططون لتنفيذ تفجيرات ومهاجمة المتظاهرين. لتحقيق هذه الأغراض، يُزعم أن الجماعات الإرهابية جندت مواطنين روس ومهاجرين من آسيا الوسطى ينتظرون أوامر من قادتهم.
واجه نظام بوتين أخطر تحد عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء روسيا لدعم نافالني في الأسابيع الأخيرة. كما هو معروف، في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير، عاد نافالني إلى البلاد بعد أن تعافى من تسمم كيماوي بغاز نوفيتشوك كاد أن يودي بحياته ووقع اعتقاله على الفور وسجنه لاحقًا بسبب انتهاكات الإفراج المشروط المزعومة. أظهر نظام بوتين القوي لأول مرة قلقه الشديد عندما طالب عشرات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين لنافالي باستقالته في أكثر من 100 مدينة وبلدة، مرددين هتافات تصف بوتين بـ “اللص”. واحتجزت الشرطة أكثر من 11 ألف شخص فيما وصفته باحتجاجات غير مرخصة اعتبرتها موسكو غير قانونية وخطيرة.
ألهم إبداع أليكسي نافالني السياسي ومهاراته التكتيكية الشباب الليبرالي الروسي الذي سئِم من النظام السياسي المبتلى بالفساد الذي يترأسه بوتين. وتشير الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين وشرطة مكافحة الشغب خلال المسيرات الجماهيرية إلى أن الجيل الجديد لا يخاف من الاعتقالات ومن آلة الدولة القمعية. ولوقف وتيرة المواجهة الماراثونية مع المعارضة، لجأ بوتين إلى تكتيكات المخابرات السوفيتية الراسخة، المتمثلة في ترهيب المجتمع باحتمال وقوع هجمات إرهابية وتفجيرات من قبل الإسلاميين.
هل سيضرب الجهاديون الأوزبكيون والشيشانيون المتظاهرين الموالين لنافالي؟
لكن الحقيقة هي أن هذه ليست المرة الأولى التي تخيف فيها روسيا تحت حكم بوتين المجتمع بهجمات إرهابية محتملة من قبل الإرهابيين الإسلاميين والانفصاليين الشيشان لتحقيق مآرب سياسية. أثناء انتقال السلطة من بوريس يلتسن إلى فلاديمير بوتين في نهاية الألفية الثانية، اختبر أيديولوجيو الكرملين بنجاح التكتيكات المعادية للإسلاميين للتغلب على تحديات المعارضة السياسية.
إن الحملة الانتخابية لبوتين صورته على أنه زعيم حاسم وقوي، قادر على هزيمة الإرهاب الإسلامي والانفصالية الشيشانية والحفاظ على وحدة روسيا العظمى. كانت صورته باعتباره المنقذ الوحيد للإمبراطورية الروسية مصحوبة بإعلانات إذاعية وتلفزيونية وأخبار عن فظائع المسلحين الشيشان وقطعهم رؤوس الجنود الروس.
لم ترد هيئة تحرير الشام ولا الجماعات السلفية الجهادية في آسيا الوسطى وشمال القوقاز رسميا على جهاز الأمن الفيدرالي بشأن التخطيط لهجمات إرهابية في المدن الروسية خلال مسيرات المعارضة
تفيد نظرية مؤامرة في الأوساط السياسية الروسية بأن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي القوي دبر تفجيرات سكنية في مدن بويناكسك وموسكو وفولغودونسك الروسية في سنة 1999 لتعزيز نسبة تأييد بوتين بهدف ضمان فوزه في الانتخابات الرئاسية. وأسفرت هذه “الهجمات الإرهابية” عن مقتل 307 شخص وجرح أكثر من 1700. وخلص المسؤولون الروس إلى أنه كان هناك “أثر شيشاني” في التفجيرات، لكن لم يقع تقديم دليل على تورطهم. لا يزال الكثيرون يشككون في نتائج التحقيق ويعتبرون بوتين هو الجاني في هذه المأساة.
حين ذلك، نطق بوتين بعبارته الشهيرة: “سوف نلاحق الإرهابيين [الإسلاميين] في كل مكان. إذا كانوا في مطار، فسنقتلهم هناك. إذا أمسكنا بهم في المرحاض، فسنبيدهم في المرحاض”. لا يزال الكثيرون يعتقدون أن تفجيرات الشقق وتكتيكات جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ضد المتطرفين الإسلاميين هي التي أوصلت بوتين إلى الرئاسة. وسرعان ما شن بوتين حربا ثانية في الشيشان وانتصر في الصراع الداخلي في الكرملين. في الأثناء، ارتفعت تقييماته ولقي أداءه استحسانًا كبيرًا في مجتمع سئم من الانهيار الاقتصادي والفساد والجريمة في عهد يلتسن.
يفضّل الروس عادة التزام الصمت حيال هذه المأساة. عملت الشخصيات السياسية الروسية مثل سيرغي يوشينكوف ويوري شتشكوشيخين وآنا بوليتكوفسكايا وألكسندر ليتفينينكو وبوريس بيريزوفسكي لكشف لغز تفجيرات الشقق. لكنهم جميعا قُتلوا بوحشية في ظروف غامضة. في النهاية، لم تساعد تكتيكات الكرملين لمحاربة الإرهابيين الإسلاميين في دفع بوتين إلى الساحة السياسية فحسب، بل أدت أيضا إلى زيادة الخوف من الإسلام والقومية والشوفينية في المجتمع الروسي.
اليوم، حتى بعد 22 سنة من وصول بوتين إلى السلطة، عاد أيديولوجيو الكرملين إلى ترهيب المجتمع الليبرالي الروسي بهجمات إرهابية إسلامية محتملة مرة أخرى، حيث تهدد الاحتجاجات على مستوى البلاد نظامه بشكل خطير. وهذا يوضح استنفاد النظام لحيله وانعدام الثقة في مواجهة التطور الاستراتيجي لفريق نافالني.
حتى الآن، لم ترد هيئة تحرير الشام ولا الجماعات السلفية الجهادية في آسيا الوسطى وشمال القوقاز رسميا على جهاز الأمن الفيدرالي بشأن التخطيط لهجمات إرهابية في المدن الروسية خلال مسيرات المعارضة. ومع ذلك، في محادثات التلغرام المشفرة، ناقش الجهاديون الأوزبك والشيشان بنشاط “المعلومات المسربة”.
قال أحد أتباع كتيبة التوحيد والجهاد على قناة تلغرام تحت اسم “الهجرة” باللغة الأوزبكية: “الكافر بوتين يخيف شعبه بسيف الله العادل، لكن أهل بلاد الشام المباركة يعرفون أنه هو نفسه الإرهابي الرئيسي. الكفار الروس وجرو بوتين النصيري (نظام بشار الأسد العلوي) يقصفون إدلب الكبرى لتدمير أهل السنة والجماعة. سيحاسب الجلادون بقسوة أمام الله تعالى على جرائمهم”.
ورد في محادثة أخرى باللغة الروسية على قناة تلغرام تحت اسم “إلهام” وهي مؤيدة للجهاديين: “المعلومات حول الهجمات الوشيكة من قبل أجناد القوقاز مزيفة. تحاول السلطات منع الصحوة الروسية من الاحتجاجات الجماهيرية ضد جماعة بوتين الإجرامية. لتخويف المدنيين، يمكن لجهاز الأمن الفيدرالي أن يرتكب أعمالًا إرهابية وهو مستعد لها، ويلقي باللوم على هيئة تحرير الشام في ذلك، التي لا تهتم بما يحدث في روسيا. يتمتع أنصار بوتين بخبرة كبيرة في قتل مواطنيهم وتفجير منازلهم”.
في هذه الرسالة، قام المسلحون الشيشان بشكل غير مباشر بتبرئة هيئة تحرير الشام من اتهامات وسائل الإعلام الموالية للكرملين حول شن هجمات إرهابية وشيكة في المدن الروسية خلال احتجاجات المعارضة. ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة، إذ أن جماعة أجناد القوقاز معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع هيئة تحرير الشام.
تنتهج هيئة تحرير الشام مقاربة براغماتية للسياق السياسي، ويمكن أن تقوض الهجمات الخارجية إرثها الهش الذي حققه الجولاني بصعوبة كبيرة
عبر تلغرام، سخِر بعض الجهاديين الناطقين بالروسية من دول ما بعد الاتحاد السوفيتي من “المعلومات المسربة”، وأعرب البعض عن غضبهم من “المحتلين الروس” في الشام، ونصح البعض المتظاهرين باليقظة قبل استفزاز جهاز الأمن الفيدرالي. كما أوصت دردشة مؤيدة للجهاديين على قناة تلغرام تحت اسم “إيشارخوان”، مسلمي القوقاز بأن يكونوا مستعدين لحملة قمع جديدة من قبل الكفار الروس والمرتدين المحليين، لأنه بعد قصف المنازل في فولغودونسك، بدأ بوتين الحرب الشيشانية الثانية لإعادة إشكيريا. وتقول محادثة تيليغرام أخرى لقناة تحت اسم “مهاجرين” إن الكرملين يستعد لقمع شديد للاحتجاجات الجماهيرية.
ليست هذه المرة الأولى التي تتهم فيها السلطات الروسية شبكات جهادية في آسيا الوسطى وشمال القوقاز بتنظيم أعمال إرهابية. في الثالث من نيسان/ أبريل 2017، اتهم جهاز الأمن الفيدرالي الروسي كتيبة التوحيد والجهاد بتفجير قطار أنفاق في سانت بطرسبرغ أسفر عن مقتل 16 شخصًا وإصابة 67 آخرين. وفي 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، اتهم الأمن الفيدرالي الروسي مجددًا مقاتلي كتيبة التوحيد والجهاد الأوزبكية بالتحضير لأعمال تخريبية وإرهابية في مدن روسية مثل موسكو وسانت بطرسبرغ وأوفا ومايكوب وفولغوغراد. وزعمت أجهزة المخابرات، في بيان لها أنها تمكنت خلال عملية مكافحة الإرهاب من إحباط انفجارات وتصفية اثنين من عناصر كتيبة التوحيد والجهاد. ثم وزعت دائرة الأمن الفيدرالية صورًا ومقاطع فيديو للأسلحة النارية والذخيرة والمكونات الكيميائية للعبوات الناسفة والكتب الدينية التي تمت مصادرتها أثناء العملية.
في بيان لها في 16تشرين الأول/ أكتوبر 2020، نفت كتيبة التوحيد والجهاد اتهامات السلطات الروسية بهذه الهجمات. وقالت الجماعة الأوزبكية المتشددة: “وفق سياسة هيئة تحرير الشام، تقتصر أنشطتنا على أراضي الشام ولا نقوم بأعمال جهادية خارجها”. علاوة على ذلك، أكدت كتيبة التوحيد والجهاد عبر قناتها على تلغرام أنه “ليس لديها خلايا في روسيا ولا تشارك في تنظيم أعمال إرهابية هناك”.
العامل الجهادي للديمقراطية الروسية
غالبًا ما تدلي السلطات الروسية بتصريحات مدوية تحذر من تخطيط “الجماعات الإرهابية الدولية” لهجمات إرهابية، وتشيد بنجاح جهاز الأمن الفيدرالي في منعها. هذه المرة، من خلال إحداث بلبلة حول وجود مؤامرات إرهابية تحاك من قبل هيئة تحرير الشام وفروعها الأجنبية تستهدف الاحتجاجات الحاشدة في مختلف المدن الروسية، كان الكرملين يأمل إصابة عصفورين بحجر واحد. أولاً، يأمل الكرملين أن يصبح الإنذار من الهجمات الإرهابية بمثابة وسيلة ردع لمؤيدي نافالني، وبذلك تهدأ أنشطة المتظاهرين ويقل حجم المسيرات. ثانيًا، من خلال اتهام روسيا لهيئة تحرير الشام بالتخطيط لهجمات إرهابية، تحاول روسيا تبرير قصفها الدموي لشمال سوريا أمام المجتمع الدولي.
مع ذلك، شكك الخبراء في الجهاديين والإسلام السياسي في اتهام روسيا لهيئة التحرير شام بالتخطيط لهجمات إرهابية. وتحاول هيئة تحرير الشام، أقوى جماعة معارضة في سوريا، تطبيق استراتيجية جديدة لتغيير صورتها من حركة جهادية عالمية إلى “حركة تحرير وطني معتدلة” محلية. واليوم، فإن أجندتها الجديدة مخصصة بالكامل لسوريا والمجتمع السني المحلي السوري.
تهدف السلطات الروسية من خلال التحذير من وقوع هجمات إرهابية خلال الاحتجاجات الموالية لنافالني، إلى التأثير على الجمهور الداخلي وتحقيق أهداف سياسية محلية حصرية
في إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة، فرضت هيئة تحرير الشام قيودًا شديدة على الهجمات الخارجية المنفذة من قبل الفروع التابعة لها – مجموعات آسيا الوسطى وشمال القوقاز السلفية الجهادية – وهي كتيبة التوحيد والجهاد وأجناد القوقاز وجيش المهاجرين والأنصار. وهذا دليل على أن هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على آخر معقل رئيسي للمعارضة في محافظة إدلب وتدعم حكومة الإنقاذ المحلية، تركز فقط على الجهاد السوري الداخلي بدلاً من تنظيم هجمات إرهابية خارجية.
يدرك زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، أن تنفيذ أي هجمات إرهابية في روسيا يمكن أن يضع مجموعته ضمن المنظمات الإرهابية العالمية، مثل داعش والقاعدة، التي انشق عنها بشكل نهائي. تنتهج هيئة تحرير الشام مقاربة براغماتية للسياق السياسي، ويمكن أن تقوض الهجمات الخارجية إرثها الهش الذي حققه الجولاني بصعوبة كبيرة.
وفقًا للاستراتيجية الجديدة، استبعدت هيئة تحرير الشام المتشددين المحليين وفي آسيا الوسطى من صفوفها. وقد تم اعتقال أو طرد هؤلاء الجهاديين الذين لا يريدون الانصياع لسياستها الجديدة، مثل كتيبة التوحيد وأمير الجهاد السابق أبو صلاح الأوزبكي وعضو مجلس شورى هيئة تحرير الشام أبو مالك التلي. بالنظر إلى قدرة هيئة تحرير الشام على الضغط على الجماعات المتشددة الناطقة بالروسية للتخلي عن طموحاتها الجهادية العالمية، يمكن استنتاج أن اتهام جهاز الأمن الفيدرالي الروسي هيئة تحرير الشام بالتخطيط لشن هجمات إرهابية يثير العديد من التساؤلات.
تهدف السلطات الروسية من خلال التحذير من وقوع هجمات إرهابية خلال الاحتجاجات الموالية لنافالني، إلى التأثير على الجمهور الداخلي وتحقيق أهداف سياسية محلية حصرية. وهذه الأهداف واضحة وضوح الشمس. باستخدام هذه الأساليب، يريد الكرملين ردع الاحتجاجات الجماهيرية التي تقض مضجعه وتحويل انتباه الروس عن نافالني. إذا نجحت هذه الخطة، ستجد السلطات الوقت لاستجماع قوّتها استعدادًا للانتخابات البرلمانية في خريف 2021، لكن إذا ازدادت قوة الاحتجاجات فإن نظام بوتين سيكون مهددًا، وهو ما ينذر بإمكانية تكرار سيناريو 1999.عندئذٍ، يمكن أن يصبح الإسلام المتطرف والإرهاب نقطة انطلاق لتعزيز الاستبداد في روسيا.
المصدر: مودرن ديبلوماسي