ترجمة وتحرير: نون بوست
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد مرور يوم على حادثة قطع رأس المعلم الفرنسي صامويل باتي خارج مدرسته، تعرّض الأكاديميون الليبراليون إلى وابل من التهديدات من قبل اليمين المتطرف في فرنسا.
أصبح إيريك فاسان، أستاذ علم الاجتماع بجامعة “باريس 8″، محل انتقادات اليمين المتطرف بسبب مدونة جادل فيها بأن رد الفعل على الهجمات الإرهابية “يجب أن يتجنب بأي ثمن الوقوع في مصيدتهم” حتى لا يصبح “صراعًا بين الحضارات”. على خلفية ذلك، وصفه أحدهم بـ “الخائن” على تويتر، ونعته آخر بـ “المتواطئ”. ووصل الحد لدرجة أن أحد الشخصيات المعروفة في أوساط النازيين الجدد تبنى لهجة مخيفة بتهديد صريح بقتله: “لقد وضعتك على قائمتي للأوغاد الذين سأقطع أعناقهم عندما يحين الوقت”.
ينتمي فاسان إلى مجموعة من الأكاديميين الفرنسيين الذين يُقال إنهم يجسّدون مفهوم “اليسار الإسلامي”، وهو مصطلح يشير إلى التحالف بين الإسلاميين المتطرفين والأكاديميين اليساريين، والذي كان حتى وقت قريب يُستخدم في دوائر النازيين الجدد. يُستخدم هذا المصطلح عادة لإهانة كل من تسلط نظرياتهم “الواعية” الضوء على التمييز الذي يعاني منه المسلمون في فرنسا، الذي يمتد إلى مجالات مثل التوظيف والإسكان والشرطة – بالتوازي مع الحرب الثقافية التي تدور حاليًا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وجد هذا المصطلح طريقه إلى خطابات الأعضاء البارزين في الحكومة الفرنسية. ففي تصريح له لإذاعة “أوروبا 1” الفرنسية، قال وزير التربية والتعليم جان ميشيل بلانكيه إن “اليسار الإسلامي أيديولوجيا تفضي، من الحين للآخر، لأسوأ الأمور”. واستشهد وزير الداخلية جيرالد دارمانان بهذا المصطلح في إشارة إلى “المتواطئين فكريًا” في الأعمال الإرهابية.
يوم الأحد، اتخذت الأحداث منعطفًا حرجًا عندما شجبت وزيرة التعليم العالي فريديريك فيدال في مقابلة لها مع قناة “سي نيوز” التلفزيونية كيف أن اليسار الإسلامي “ينخر المجتمع بأكمله”، وتعهدت بفتح تحقيقات في أي أبحاث أكاديمية قد تعد انتهاكًا، وبالأخص الدراسات ما بعد الاستعمارية. وقالت: “إنهم قلة قليلة، وبعضهم يفعل ذلك لمجرد نشر أفكار متطرفة أو متشددة… ودائما ما ينظرون إلى العالم من منظور رغبتهم في التفرقة والانقسام”، مشبهةً أفعالهم بتحالف بين ماو تسي تونغ وآية الله الخميني.
بالنسبة لفاسان والعديد من الأكاديميين الآخرين في جميع أنحاء فرنسا، فإن الجهود المبذولة لاستهدافهم تثير قلقًا بالغًا
أثارت هذه التعليقات الغضب على نطاق واسع. فيوم الثلاثاء، دعا مؤتمر رؤساء الجامعات في فرنسا الحكومة إلى “الارتقاء” بمستوى النقاش والتوقف عن التفوّه بـ”الترّهات”. وفي اليوم التالي، انتقد المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، الذي أشارت فيدال إلى أنه الهيئة المشرفة على التحقيقات، “الاستغلال السياسي الذي… يرمز للتسخير المؤسف للعلم”. ويوم الخميس، خصصت صحيفة “ليبراسيون” اليومية صفحتها الأولى للحادثة، مازحةً بأن فيدال قد “فقدت عقلها”.
بالنسبة لفاسان والعديد من الأكاديميين الآخرين في جميع أنحاء فرنسا، فإن الجهود المبذولة لاستهدافهم تثير قلقًا بالغًا، ويمكن أن تشكل خطرًا حقيقيًا للغاية. وأكّد فاسان لمجلة “فايس”: “فإن “هذه محاولة سياسية للسيطرة على المعرفة ككل. حتى لو اعتقدنا أنها ستكون فاشلة، فإن التأثير المنشود هو التخويف. وقبل كل شيء، المساعدة في تبرير القمع”.
أعرب أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بانتيون سوربون باريس 1” فريدريك ساويكي عن خوفه من أنه “مستهدف” من هذه الخطوة، وأضاف أنه “إذا عارضت الحظر المفروض على ارتداء النقاب أو دقيقة الصمت الإلزامية في المدارس بعد هجوم إرهابي، تصبح شريكًا في الجريمة، وبالتالي، إسلاميًا يساريًا”. وأضاف قائلا: “إن هذا محبط حقًا. لطالما كانت الجمهورية الفرنسية – باستثناء فترة نظام فيشي – مدافعة عن الحرية الأكاديمية. يجب على الوزيرة حماية هذه الحرية الأساسية في أسس أي ديمقراطية”.
أثار التوقيت الذي أدلت فيه فيدال بهذه التصريحات الشبهات، وذلك لأنها تزامنت مع احتجاجات طلابية تندد بمشكلة الاعتداء الجنسي في الحرم الجامعي الفرنسي، وانهيار الأوضاع المالية للطلاب أثناء الجائحة، مما أدى إلى اصطفافهم في طوابير طويلة أمام المقاصف الجامعية المدعومة.
يرى طالب في معهد الدراسات السياسية بباريس يدعى ليون ثيبولت أن “كلمات الوزيرة ليست سوى تمويه سياسي لتنسينا إدارتها الكارثية للتعليم العالي والبحث”، مشيرا إلى أنه “إذا بذلت فريديريك فيدال طاقة في مكافحة هذه المشاكل بقدر ما تفعل في الاستعراض الإعلامي، فلن يبقى لدينا طلاب يعيشون في حالة من عدم الاستقرار. لكنها بعيدة كل البعد عن قضايا الجامعات والطلاب”.
أفاد رئيس جامعة ستراسبورغ ميشيل دينكن بأن الدوافع الكامنة وراء إعلان فيدال كانت سياسية بحتة، مشيرًا إلى أن “الانتخابات الإقليمية والرئاسية تلوح في الأفق، والحكومة تعتمد على هذا الخطاب لكسب دعم اليمين. وحتى صحيفة “لو فيغارو” [اليمينية] باتت الآن تكتب يوميًا عن اليسار الإسلامي”.
لا تشك مجموعات الحملات الإسلامية الفرنسية بأن ما يحدث محاولة للتودد لليمين المتطرف. قال المحامي في التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا سيفين غي إنه “يكاد يتولد للمرء انطباع بأنهم يختلقون سببا جديدا للحديث عن الإسلام كل أسبوع”.
إن السياسة القمعية التي تتبعها الحكومة الفرنسية مع الجامعات وصلت إلى حد تبني مجلس الشيوخ الشهر الماضي مشروع قانون يحدّ من ميزانية البحث غير المقبول في الجامعات الفرنسية. وعلى الرغم من أن القانون لم تمرره الجمعية الوطنية الفرنسية، إلا أن النقاد يرون أن هذا القانون يقوّض احتجاجات الطلاب ويضع حرية البحث على المحك من خلال مطالبة الباحثين بـ “التوافق مع قيم الجمهورية”.
قالت ريم سارة علواني، وهي أكاديمية فرنسية في القانون ومرشحة لنيل درجة الدكتوراه في القانون المقارن في جامعة تولوز: “إن الغالبية العظمى من العاملين في الأوساط الأكاديمية يشعرون بالصدمة والخوف على مستقبل البحث في هذا البلد”. وأضافت أن الأوساط الأكاديمية الفرنسية “تنهار” بسبب التخفيضات في الميزانية والنقص في التوظيف.
البلدان الناطقة بالإنجليزية تخوض بدورها معارك ثقافية حول حرية التعبير والوعي وما يسمى بـ ثقافة التشهير في الجامعات
بالنسبة لعلواني، فإن هذا القانون ليس سوى جزء من سلسلة طويلة من محاولات تضييق الخناق على الحريات المدنية، بما في ذلك قانون الانفصالية لمكافحة الإرهاب الإسلامي الذي تزايد منذ سنة 2015 الذي اعتبرت الجماعات الحقوقية أنه يرسخ الإسلاموفوبيا – الذي مررته الجمعية الوطنية؛ وقانون الأمن العالمي الذي اقترح في نهاية العام الماضي حظر تصوير الشرطة، على الرغم من العديد من الحالات البارزة لعنف الشرطة.
تعتقد علواني أنه “ينبغي إدراج هذا النوع من القوانين تحت تصنيف أوسع، يتمثل في إضفاء طابع أمني طاغ على مجتمعنا من خلال تقييد الحريات المدنية بذريعة الأمن القومي والنظام العام”.
تأتي هذه التصريحات كجزء من محاسبات أوسع في فرنسا، حيث يقال إن النظريات اليسارية “الواعية” حول المسائل ذات الصلة بالعرق والجنس وما بعد الاستعمارية مستوردة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ما يجعلها في مرمى الحكومة الفرنسية. في تشرين الأول/ أكتوبر، قال بلانكيه إن “هناك معركة يجب خوضها ضد مجموعة أفكار قادمة من الجامعات الأمريكية”.
يرى أستاذ السياسة الفرنسية والأوروبية في كلية لندن الجامعية فيليب مارليير إن هذه البلدان الناطقة بالإنجليزية تخوض بدورها معارك ثقافية حول حرية التعبير و”الوعي” وما يسمى بـ “ثقافة التشهير” في الجامعات. وأضاف: “أعتقد أن هناك أوجه تشابه مع ما يحدث في المملكة المتحدة، لكن الوضع الفرنسي أسوأ بكثير. في المملكة المتحدة، تظل الهجمات في حدود الضمنية. في المقابل، تحاول الحكومة الفرنسية تشويه سمعة الأكاديميين. إن هذه وسائل خطيرة للغاية معتاد عليها اليمين المتطرف”.
كما يحذر مارليير، الذي تعرض أيضا لهجمات اليمين المتطرف – بما في ذلك مقال حديث يزعم بأنه “لم يتوقف عن العمل لتعزيز الأيديولوجية العنصرية” – من التداعيات الخطيرة لهذا النهج، مشيرا إلى أن “فرنسا في حالة إنكار تام عندما يتعلق الأمر بقضية العرق. لا شك أن عبارة “يساري إسلامي” إهانة، بل تكاد ترقى لمستوى الاعتداء الجسدي لكونها تعرض متلقيها للخطر. والمقلق في الأمر أن هذا المصطلح أصبح أكثر انتشارًا”.
أكدت المجلة أن وزارة التعليم العالي والبحث والابتكار لم تستجب لطلب التعليق. لكن المتحدث باسم الحكومة غابرييل أتال قال يوم الأربعاء إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لديه “التزام تام بالحفاظ على استقلالية الأساتذة والباحثين”.
المصدر: فايس