لطالما كانت إفريقيا منطقة مهمة على مر التاريخ نظرًا لموقعها الإستراتيجي وإطلالتها على المحيط الهندي إلى جانب مواردها الغنية، وقد أدرك ذلك سلاطين الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر محاولين بسط سيطرتهم على أجزاء كبيرة من القارة.
في هذا المقال نستعرض الإرث العثماني في شرق إفريقيا التي أطلق عليها آنذاك ولاية الحبشة، فرغم ما تسبب به التهميش وبعد مناطق العمق العثماني عن العاصمة، إسطنبول، نحاول التعرف على هذا التراث، خصوصًا في الوقت الذي تعرضت فيه الكثير من الآثار الواقعة في شرق إفريقيا للإهمال على مستوى حفظ التراث وتوثيقه، ما جعل الوصول إلى معلومات عن هذه الآثار شحيحًا باستثناء بعض الأبحاث المتخصصة في هذا المجال.
إثيوبيا
بعشرة مواقع أثرية، ما بين مساجد ومبان إدارية، ترك العثمانيون بصمتهم في مدينة هرر ذات الأغلبية المسلمة الواقعة شرق العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بمسافة 525 كيلومترًا، حيث تضم المدينة مبنى للقنصلية العثمانية يرجع تاريخ تشييده إلى الفترة بين عامي 1875 و1885 مكونةً من طابقين ملحق بهما مكتبة ومتحف وقاعة للاجتماعات.
ورغم أهمية المبنى لتاريخ المدينة، لم يعد كسابق عهده نتيجة الإهمال، بل تحول إلى مبنى متهالك، تستخدمه خمس أسر إثيوبية للإقامة به، إلا أنه عام 2016 رممت وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”، المهتمة برعاية الآثار العثمانية خارج حدود تركيا، المبنى، بعد أن وفرت مسكنًا آخر لتلك الأسر.
لم يترك العثمانيون بصمتهم على المعمار فقط، فما زالت تعيش أسر من أصول تركية في المدينة ويتحدثون التركية، بعد أن تناقلوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد نظمت لهم “تيكا” رحلة لوطنهم الأصلي في نفس العام.
السودان
في عهد يافوز سليم، وتحديدًا عام 1517 دخل العثمانيون جزيرة سواكن، وأصبحت تحت حكمهم بشكل كامل عام 1554، وفي هذه الأثناء أسس أوزدمير باشا ولاية الحبشة وجعل سواكن مركزها لتصبح أهم ميناء عثماني في البحر الأحمر على مر 365 عامًا حتى 1882، وفقًا للإدارة العامة لأرشيف الدولة.
وبسبب الموقع المتميز أصبحت سواكن واحدةً من أهم المراكز التجارية على طريق البحر الأحمر والمحيط الهندي وبوابة مهمة لإفريقيا وجسرًا للوصول إلى الحجاز في عصر الدولة العثمانية، فكان الحجاج يعبرون منها للوصول إلى مكة ما جعل الولاة والموظفون على ولاية الحبشة يتخذونها مكانًا للإقامة.
على الجزيرة، بُني مجمع جمركي، تقول المصادر إنه أنشئ عام 1854 بالإضافة إلى مسجدين داخل المجمع أحدهما حنفي (بُني في القرن الـ16) والآخر شافعي (بُني في القرن الـ17)، وقد أعيد ترميمهم إلى جانب الميناء الذي تم إنشاؤه في القرن الـ18.
ولأهمية جزيرة سواكن للدولة العثمانية، فقد أنشئ مبنى للمحافظة، وسعه ممتاز باشا عام 1866، وفقًا للبحث الصادر عن كلية العمارة بجامعة يلدز تكنيك عن تاريخ ومعمار جزيرة سواكن.
يُشار إلى أن هذا المبنى تم ترميمه إلى جانب العديد من البيوت المبنية على طراز المعمار العثماني مثل منزل خورشيد أفندي او كما يطلق عليه بيت الباشا.
وفي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجزيرة عام 2017، أعلن ترميم قصر “كرفان ساراي” المكون من 365 غرفة من مختصين في الفن والعمارة من تركيا والسودان، حيث يعد هذا القصر تحفة معمارية مرصعة بأحجار المرجان، وقد بناه شناوي بيك عام 1837.
أما في شمال شرق السودان حيث مدينة الخرطوم، نجد ضريحين أحدهما لأحمد أبو فيدان باشا الذي كان واليًا للسودان بين عامي 1839 و1843، والآخر لموسى حمدي باشا الذي كان واليًا للسودان بين عامي 1862 و1865، وهما أبناء أخوة محمد علي باشا.
في الخرطوم يقع المسجد الكبير الذي بدأ بناؤه عام 1902 وتم الانتهاء منه عام 1912 في عهد عباس حلمي باشا آخر ولاة الدولة العثمانية لمصر والسودان، وهو المسجد الذي انضم لقائمة الآثار العثمانية التي جرى ترميمها عام 2018، إلى جانب منزل السلطان علي دينار، الواقع شمال دارفور في الفشير، وهو آخر حكمدار للسودان الذي سقط قتيلًا على يد الإنجليز عام 1916.
الصومال
في شمال البلاد تقع مدينة بربرة، المطلة على البحر الأحمر ضمن منطقة الحكم الذاتي “صوماليلاند”، التي كانت من المناطق التي اهتم بها العثمانيون وبنوا بها ميناء ومنارة بحرية وقلعة صغيرة بالإضافة إلى مسجد ومكتبة ومبنى آخر إداري، كما كانت بربرة من أكثر المناطق تطورًا في ذلك الوقت، وهذه الآثار شيدها عبد العزيز باشا قائد الأسطول العثماني الذي أرسله سليمان القانوني، من أجل حماية مقديشيو من هجمات البرتغاليين في القرن الـ16.
وفي القرن التاسع عشر في أثناء حكم السلطان عبد الحميد الثاني بُنيت سفارة وحفِرَ 110 آبار للماء، ما زال يُستخدم منها حتى الآن 86 بئرًا يمدون أهالي المنطقة بالماء.
عام 1559 أصبحت مدينة زيلا التي كانت جزيرة آنذاك جزءًا من الدولة العثمانية على يد عثمان ابن أوزدمير باشا، ورغم الزمن فما زالت تحتفظ زيلا ببعض البيوت على الطراز العثماني بالإضافة إلى ما يقرب من 75 مسجدًا وقريتين باسم “ترك محل” و”قرية الدراويش” وفقًا لموقع “أركيولوجي خبر التركي”.
وبخلاف القليل من المساجد التي رممتها الدولة التركية أو أهالي المدينة، فإن بقية المساجد والمباني تحت تهديد الخراب بسبب ما وقع عليها من آثار الحروب والعوامل الطبيعية، فضلًا عن عدم الاهتمام والعناية.
جيبوتي
عام 2015 زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دول القرن الإفريقي رفقة الوزير المساعد نعمان قورتولمش الذي صرح أن هناك ثلاثة مساجد وقلعة في مدينة تاجورة، وأنه سيتم ترميم المساجد، أما القلعة فليس بها مشاكل كبيرة ولا تحتاج لترميم في الوقت الحاليّ، وأعلن أيضًا ترميم طريق الساحل الذي يطلق عليه اسم “فانوس إسطنبول”.
ويبدو أن الإرث العثماني في البلاد محل فخرٍ لمنتسبيه، حيث إن حفيد آخر والي عثماني لجيبوتي ما زال يعيش في البلاد محتفظًا بفرمان يعود لعام 1881 من السلطان عبد الحميد الثاني لتعيين جده واليًا على جيبوتي.
إريتريا
على بعد 7 ساعات بالطائرة عن إسطنبول، تقع جزيرة ماساوا التي كان يُطلق عليها في أثناء حكم العثمانيين اسم “ميتسيوا” وهي مدينة وميناء على ساحل البحر الأحمر لإريتريا، وقد سيطر عليها العثمانيون تحت قيادة قوات أوزدمير باشا عام 1557، وأصبحت عاصمة لولاية الحبشة عام 1579.
وكان العثمانيون أول من أدخل البناء الحجري للجزيرة، وظلت تحت حكم الدولة العثمانية حتى احتلها الإيطاليون عام 1885.
ورغم العوامل الطبيعية والزمنية، لا تزال هناك العديد من المباني الشاهدة على وجود العثمانيين على هذه الجزيرة، خصوصًا في الجانب الغربي منها حول الميناء، وتحتوي على مبنى حكومي ومسجد والعديد من المنازل التي تتميز بالمشربيات وأخرى خشبية بمحاذاة الساحل، لكنها تأثرت بفعل زلزال 1921.
مضى نحو 100 عام على أفول نجم الدولة العثمانية، إلا أن إرثها الحضاري ما يزال حاضرًا ممتدًا في مختلف أنحاء العالم، ومنذ وصول حكومة العدالة والتنمية إلى السلطة، شرعت في إعادة إحياء تراث الإمبراطورية العثمانية وترميم أوابدها ومعالم حضارتها في شتى بقاء الأرض، لتبقى سيرة آل عثمان حيّة في ذاكرة الشعوب.