كثير من عامة الناس لا يسمعون عن البوسنة إلا مآسيها، ولا يعرفون عن تاريخها إلا المحطات الدموية، ولعل الصدمة التي أحدثتها مجزرة سربرنيتسا يوليو/تموز 1995 حين ذبح الصرب أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني، أحد الأسباب التي رسمت الصورة الذهنية لهذا البلد في مخيلة قطاع كبير من المتابعين.
قطاع كبير من حديثي السن لا يتذكر عن العاصمة سراييفو إلا تلك المذبحة التي شهدتها في الفترة من 1992- 1995 حين حاصرها الصرب وقتلوا 11.500 شخص من سكانها من بينهم 1000 طفل، وهي الجرائم التي حفرت في سجلات التاريخ الدموي كأكثر جرائم العصر ضد الإنسانية.
لكن بالعودة للوراء قليلًا، يمكن الوقوف على مرحلة أخرى من تاريخ تلك الدولة، حين كانت تحت قيادة الدولة العثمانية واستمرت لمدة 4 قرون كاملة (1463 – 1878)، تلك الفترة التي تشكلت فيها هويتها الحضارية والمعمارية، فأصبحت أحد أكبر مراكز الثقافة الإسلامية في أوروبا، بل كانت قبلة الباحثين عن الرقي والجمال، وذلك قبل أن تسقط في أيدي الاحتلال النمساوي المجري ثم النازية بعد ذلك.
لم تشهد البوسنة نهضة كالتي شهدتها خلال الحكم العثماني لها، ولم ينعم شعبها برغد العيش والحياة الكريمة إلا خلال تلك الفترة، كما أن التاريخ لم يذكر لتلك الدولة مآثرها ودورها الحضاري وإسهاماتها الثقافية إلا في عهد العثمانيين، حين ناطحت تلك البلدة الصغيرة قامات أوروبا وآسيا في هذ الوقت.
الفتح العثماني للبوسنة
بعد انتقال العثمانيين إلى البر الأوروبي عام 1353 واتخاذهم “أدرنة” عاصمة لهم عام 1363، أصبح فتح البلقان أهمية وضرورة إستراتيجية لتأمين عمق العاصمة الجديدة تجاه الغرب، ومن هنا خططت الدولة العثمانية لفتح تلك البقعة السحرية التي تربط بين آسيا وأوروبا.
كما استمر الفتح العثماني للبلقان لمدة قرنين من الزمان (1353-1521) فإن فتح البوسنة استمر هو الآخر قرابة 96 عامًا (1386-1482) خاض خلالها العثمانيون عشرات المعارك
تزامن الفتح العثماني للبلقان مع وفاة إمبراطور الصرب واليونان والبلغار والألبان “دوشان” عام 1355، وهو ما ساعد في عملية الدخول، فكان أول انتصار في معركة ماريتسا عام 1371، وهي المعركة التي فتحت للدولة العثمانية أبواب مقدونيا واليونان.
ومن مقدونيا بدأ الإعداد لفتح الدول المجاورة، صربيا والبوسنة، وفي صيف 1388 بدأت أول مواجهة لفتح هاتين الدولتين، لكن العثمانيين تعرضوا لهزيمة في تلك المعركة التي جرت بالقرب من بيليتشه في أغسطس/آب 1388، غير أن الجيش العثماني تدارك الأمر سريعًا ونجح في تحقيق انتصارت عدة فيما بعد، كانت إيذانًا بسيطرته الكاملة على هذه المنطقة.
وكما استمر الفتح العثماني للبلقان لمدة قرنين من الزمان (1353-1521م) فإن فتح البوسنة استمر هو الآخر قرابة 96 عامًا (1386-1482) خاض خلالها العثمانيون عشرات المعارك، خسروا بعضها، وانتصروا في معظمها، حتى فرضوا سيطرتهم الكاملة وأخضعوا حكامها للسلطان.
كيف كانت البوسنة قبل الفتح؟
كانت البوسنة خاضعة للحكم الإقطاعي قبيل الفتح العثماني لها، مثلها مثل بقية دول البلقان، حيث كان يسيطر الحكام الإقطاعيون على المشهد فيما تخيم القلاع ذات الدور الإداري والعسكري على الساحة، ولا يوجد سوى عدد قليل من المدن محدودة السكان.
كان السواد الأعظم من الشعب في المناطق النائية، حيث الفقر المدقع والتهميش الكامل، أما صفوة المجتمع وعليته وقامات النخبة فكانت تسكن المدن، لذا كانت أعداد قاطني المدن قليلة جدًا، وتذكر كتب التاريخ أن مدينة بريزون مثلًا وهي عاصمة الإمبراطورية التي أسسها “دوشان” لم يتجاوز عدد سكانها 3 آلاف نسمة.
أما البوسنة تحديدًا فكانت تعاني من بطش الحاكم الذي كان يحمل لقب “بان”، فضلًا عن الجشع الذي خيم على النبلاء حكام المناطق والمدن، فما كان لهم هم إلا السيطرة على ثروات الدولة وإنعاش خزائنهم الخاصة، وقبيل وصول العثمانيين وصل نفوذ حاكم البوسنة إلى ذروته.
أما على المستوى الثقافي والاجتماعي فرغم الموقع الجيوسياسي الإستراتيجي للبوسنة، فإنها كانت تعاني من حالة انحدار ثقافي وعمراني، فكانت خريطة الدولة تفتقر إلى مقومات البناء العصري، وتعتمد على أسلوب البنايات التقليدية، الذي حصر المدن تحديدًا في قوالب جامدة لا تختلف كثيرًا عن المناطق البعيدة النائية.
ما إن استقر حكم العثمانيين في البوسنة حتى وضعوا خطة محكمة لتطويرها ونقلها من الحالة الرثة التي كانت عليها إلى مصاف الدول المتقدمة
في هذه الفترة وصل إلى أسماع البوسنيين ما جاء به العثمانيون للبلقان، حيث الحضارة الحديثة والنمط الجديد للمدينة الشرقية الإسلامية، المدينة المنفتحة والمختلفة في عمرانها، صاحبة الريادة في النشاط التجاري والثقافي والحرفي والاقتصادي، وهو ما بدأ تطبيقه على أرض البلقان الجديدة.
بدأ العثمانيون في نشر ثقافتهم الحضارية في مدن البلقان المختلفة، فتحولت بلغراد مثلًا إلى مدينة حضارية غير مسبوقة، فيما باتت سراييفو عاصمة للثقافة الإسلامية في هذا الوقت، هذا بخلاف المناطق النائية التي نجحت الدولة العثمانية في تطويرها بصورة لم تشهدها من قبل وما شهدتها بعد ذلك.
سراييفو… القدس الأوروبية
ما إن استقر حكم العثمانيين في البوسنة حتى وضعوا خطة محكمة لتطويرها ونقلها من الحالة الرثة التي كانت عليها إلى مصاف الدول المتقدمة، فكانت البداية في وضع أول لبنة للعلم والتعلم، فكان بناء المُجمَّعات (الجامع الملحق به مدرسة وتكية) التي أصبحت قبلة كل طالب العلم.
ومع انتشار المُجمَّعات في أنحاء البوسنة بدأ يقصدها العديد من مواطني الدول المجاورة، حتى ذاع صيتها في كل أنحاء آسيا وأوروبا على حد سواء، الأمر الذي دفع العثمانيين إلى وضع إستراتيجية بعيدة المدى لتحويل العاصمة سراييفو إلى مركز ثقافي عالمي.
الباحث المؤرخ محمد موفق الأرناؤوط، في كتابه “البوسنة والهرسك خلال الحكم العثماني” استعرض كيف تحولت سراييفو إلى منارة للثقافة الإسلامية في البلقان في عهد الدولة العثمانية، حيث تعد أول مدينة في البلاد تنشأ على النمط الشرقي الإسلامي، وأصبحت خلال الحكم العثماني واحدة من أكبر المدن في جنوب شرق أوروبا.
حين فتح العثمانيون سراييفو كانت عبارة عن بلدة فقيرة لا تضم سوى مسجد وتكية وسوق صغير(تورنيك)، لكن سرعان ما قفزت المدينة قفزات متسارعة، فبني حي جديدة حول الجامع، وحي أكبر بجوار السوق، وثالث حول التكية، حتى وصلت إلى عصرها الذهبي على يد الوالي خسرو بك في النصف الأول من القرن السادس عشر.
يرتبط اسم المدينة بمؤسسها الأول وواضع لبنة تقديمها عيسى بك الملقب بـ”مؤسس سراييفو” الذي استطاع عبر أوقافه الخاصة أن يشكل النواة الرئيسية لبناء المدينة الأكثر شهرة في هذا الوقت، ومن أبرز تلك الأوقاف: جامع باسم السلطان محمد الفاتح بناه عام 1457م، وسوق للبضائع والمنسوجات يسمى “بيزستان” ويحتوي على محلات كثيرة، بجانب تكية قرب قرية بروداتس أنشئت خصيصًا لخدمة الفقراء والمسلمين وأبناء السبيل وتقديم الطعام لهم.
الطفرة التي شهدها البوسنيون في عهد العثمانيين لم تقتصر على المسلمين فقط، بل كل الأديان الأخرى ومنها اليهود
وتعتبر وقفية عيسى بك وثيقة مهمة عن تاريخ البوسنة عشية الفتح العثماني لها، كونها أقدم وقفية عثمانية عن البوسنة، وهي توثق أولى المنشآت الإسلامية التي نشأت هناك حتى 1462، وتجدر الإشارة هنا إلى أن النسخة الموثقة من تلك الوقفية محفوظة في سجل المحكمة الشرعية في سراييفو، الذي يحمل الرقم (71) لسنة 1838.
وخلص الكتاب إلى دور الوقف في تطوير البوسنة بصفة عامة، لا سيما وقف النقود، الذي أصبح يعتبر “ثورة في الفقه الإسلامي المتعلق بالوقف” حيث تحولت الأموال الموقوفة إلى ما يشبه “مصارف إسلامية” تقدم القروض للتجار والحرفيين، بفائدة قليلة، ويتحول العائد منها للإنفاق على المنشآت التي تقدم الخدمات للمجتمع (مساجد ومدارس ومنشآت صحية ومطاعم مجانية، إلخ).
الطفرة التي شهدها البوسنيون في عهد العثمانيين لم تقتصر على المسلمين فقط، بل كل الأديان الأخرى ومنها اليهود، حيث عاملتهم الدولة بشكل جيد وازدهرت أحوالهم وأوضاعهم في أنحاء مختلفة من البلاد، حيث منحوا استقلالية كبيرة، مع حقوق أخرى تسمح لهم بشراء العقارات وتملكها على عكس ما كان معمولًا معهم قبل ذلك، حتى بعد انتهاء الحكم العثماني وبداية الاحتلال النمساوي ومن بعده النازي للبوسنة، تم ترحيل اليهود من هناك واعتقال من تبقى منهم.
إرث العثمانيين في البوسنة
لم تتوقف إسهامات العثمانيين في البوسنة على التطوير العمراني وتحويلها إلى أحد قلاع العمارة المميزة في أوروبا وآسيا فقط، بل نجحت الدولة العثمانية في ترك إرث كبير من العلم والثقافة بما أنجبته من علماء ورجال دين ومفكرين ساهموا في تشييد مجد البوسنة وإعلاء اسمها.
وفي جولة سريعة على هذا الإرث الذي توثقة مكتبات وقواعد بيانات البوسنة حتى اليوم، نجد أن هناك نخبةً كبيرةً من العلماء الموسوعيين والفلاسفة وكبار رجال الدولة الذين تولوا مناصب حيوية في العديد من المدن، بدءًا من إسطنبول مرورًا بحلب ودمشق وصولًا إلى مكة والقاهرة.
رغم مرور ما يزيد على 140 سنة على انتهاء حكم العثمانيين للبوسنة، فإن البوسنيين ما زالوا يحفظون للدولة العثمانية مآثرها التي يعيشون في كنفها حتى اليوم
ويأتي على رأس هولاء الصدر الأعظم صوقوللو محمد پاشا (1506-1579)، أحد أكبر رجالات الدولة ورئيس الوزراء في عهد السلطان سليمان القانوني وابنه سليم الثاني وحفيده مراد الثالث، ومن إسهاماته الثقافية جامعه الشهير في إسطنبول، وجسر “فيشجراد” بالبوسنة الذي تم ضمه إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2007.
كذلك المؤرخ الجغرافي الشهير نصوح السلاحي الذي استطاع تأريخ إحدى أزهى الحقب التاريخية في مسار الدولة العثمانية، ومن أبرز مؤلفاته مجموعة من الكتب التي تؤرخ لفتوحات السلطان سليمان القانوني بجانب رسوماته الطبوغرافية لمدن الأقاليم العثمانية، وتقديرًا لإسهاماته أحيت اليونسكو ذكرى وفاته الـ450 من خلال مؤتمر عقد في 2014 تناول مآثره وأفضاله التراثية.
ثم يأتي فاكمة المؤرخين العثمانيين، الموسوعي إبراهيم بجوي (1572-1650) صاحب المؤلف الشهير “تاريخ بجوي” الذي يعد أحد أفضل الموسوعات التي تناولت تاريخ الدولة العثمانية على مدار 120 عامًا خلال الفترة من 1520-1640، بدءًا من عهد سليمان القانوني وصولًا إلى مراد الرابع.
ورغم مرور ما يزيد على 140 سنة على انتهاء حكم العثمانيين للبوسنة، فإن البوسنيين ما زالوا يحفظون للدولة العثمانية مآثرها التي يعيشون في كنفها حتى اليوم، وإن كان من فخر لحضارتهم وتأثير بلادهم الثقافي فهي الفترة التي كانت فيها تحت السيطرة العثمانية.