إن عروبة القدس تتلخص من خلال معالمها وسكانها وشوارعها وكل حجرٍ وضع فيها، هي مدينة تكاملت أركانها الدينية والعربية عبر العصور، فتاريخها لا يتعلق فقط بالمساجد والمعابد الدينية الأخرى، بل إن هناك حارات ومدارس عتيقة فيها، كرست الحالة التعليمية للفلسطينيين والعرب على مر التاريخ.
هذه المدارس المجاورة لبعضها وضعت كل واحدة منها على حدة في زمان وعصر مختلف عن الآخر، ولكل منها دافع وهدف بنظر مؤسسها، وقد شهدت هذه المدارس التقلبات السياسية والميدانية لفلسطين منذ أكثر من 800 عام حتى اليوم.
المدرسة التنكزية
تعتبر هذه المدرسة من أشهر المدارس الإسلامية في مدينة القدس المحتلة، حيث كانت تدار فيها الحلقات التعليمية لكل زوار القدس الذين يقيمون فيها عدة أيام لأداء طقوسهم الدينية. كما تُعرف بأنها أكبر المدارس على الإطلاق، وأهم ما يميزها أن بابها يقع مباشرة مقابل باب “السلسلة” وهو أحد الأبواب الخمسة عشر للمسجد الأقصى الكبير.
ومن الجهة الغربية للمدرسة باب آخر يؤدي إلى حائط البراق، فهي تقع داخل أسوار المسجد الأقصى ومصنفة بأنها أحد معالم المسجد لدى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية.
سميت بهذا الاسم نِسبةً للأمير تنكز الدين بن عبد الله الذي كان واليًا على دولة المماليك في بلاد الشام، في زمن السلطان المملوكي قلاوون الأول “الناصر محمد بن قلاوون”، عام 1329.
وتحولت هذه المدرسة إلى مركز للقضاة والنواب في عهد السلطان المملوكي سيف الدين قيتباي 1470، ثم لمحكمة شرعية في أواخر الأربعين عامًا من حكم العثمانيين للأراضي الفلسطينية الذين جاؤوا بعد المماليك، حتى عام 1920، حيث عادت لدورها الفكري في تعليم الفقه الإسلامي وخاصة مذهب الإمام الحنبلي، وكانت مقر إقامة مفتي فلسطين آنذاك الحاج محمد أمين الحسيني.
يقول الباحث في التاريخ المقدسي الدكتور يوسف النتشة: “في عام 1969 بعد احتلال إسرائيل للقدس، تحولت إلى ثكنة عسكرية تعلوها الرشاشات وبنادق الجنود الصهاينة، إلى أن حولوها لكنيس يهودي بعد عام 1987”.
ويضيف الدكتور النتشة: “اتسمت هذه المدرسة عن غيرها بفكرتها الهندسية الرائعة التي تجلى من خلالها فن الحضارة المعمارية للمماليك سابقًا، إذ بنيت بشكل كامل من الرخام الخالص، وجمع لأجل بنائها أكثر من 100 عالم خبير فيها تم إحضارهم من بلاد متنوعة كمصر وسوريا والعراق”.
المدرسة المنجكية
يقول الدكتور يوسف النتشة: “تقع أيضًا داخل أسوار المسجد الأقصى وتوجد في الطرف الغربي من المسجد، ويدخل إليها عن طريق البوابة الغربية للمسجد، وهو (باب الناظر)، لأنها إحدى زوايا الأقصى أيضًا، وقد كانت أول مدرسة تتأسس في زمن المماليك بعد المدرسة التنكزية بثلاثين عامًا، عام 1360، على يد منجك سيف الدين السلهدار، المكلف بإمارة القدس وبلاد الشام، بتكليف من سلطان الدولة المملوكية بدر الدين قلاوون”.
وأعيد افتتاح هذه المدرسة خلال عهد الاحتلال البريطاني للأرض الفلسطينية عام 1918، وقد أعلن فيها قيام المجلس الإسلامي الأعلى، وهو الممثل الوحيد للدفاع عن المقدسات الإسلامية في فلسطين في تلك الفترة، وكان لهذه المدرسة أثر كبير باتخاذ قرار ثورة البراق حينها عام 1929 التي أعلن إطلاقها في مقام النبي يوسف على طريق أريحا – القدس، ضد محاولات بعض اليهود انتهاك المعالم الدينية للمسلمين بمساعدة بريطانيا، عندما بدأوا صلاتهم الأولى على حائط البراق وسموه بحائط المبكى”.
أما اليوم المدرسة مقر لدائرة الأوقاف الإسلامية المقدسية حاليًّا، وأهم ما يميز معمارها عن غيرها من معالم المسجد الأقصى، أنها من المباني المعلقة، إذ إنها مثبتة على الأرض بواسطة درجات تصعد إليها، دون وجود أساس من الأعمدة تحتها، ويتكون البناء الداخلي لها من طابقين، يتوسطهما ممر واسع يفصل بين غرفها في الشق الأيمن والشق الأيسر.
المدرسة الأشرفية
تسمى أيضًا المدرسة “السلطانية” لأنها المدرسة الوحيدة من مدارس الأقصى التي تم بناؤها بمرسوم وإشراف سلطان الدولة المملوكية دون تدخل والي فلسطين وبلاد الشام، في زمن السلطان سيف الدين قيتباي عام 1475، واسمها الثاني الأشرفية نسبة للاسم الأصلي للسّلطان قيتباي نفسه الذي يدعى “أشرف قيتباي”، وقد نالت حظًا وافرًا من المدح على من مروا عليها لجمالها وروعة تصميمها.
بنيت من حجارة سميكة باللون الأحمر الطبيعي جمعت من مناجم ومغارات فلسطينية قديمة جدًا، إذ يعتبر الحجر الأحمر من أهم الكنوز والثروات الطبيعية في فلسطين، ويرتفع سعره عن كل أحجار العالم كونه طبيعيًا غير مستحدث من البشر ولقدرته على مقاومة جميع ظروف المناخ، وعزل الحرارة الصيفية وبرودة الشتاء عن المكان.
صنفت المدرسة نتيجة لهذه الأحجار بأنها حلي المسجد الأقصى أو الجوهرة الثالثة للمسجد بعد المسجد القِبَلي ومسجد قبة الصخرة المشرفة وهما من معالم المسجد الأقصى الكبير أيضًا، كما ذكر في الجزء الثاني من كتاب “الأنس الجليل” صفحة 79 لمؤلفه منجك الدين الحنبلي.
كانت هذه المدرسة لتعليم مذهب الإمام الحنبلي والفقه الإسلامي طيلة فترة المماليك والعثمانيين، وقد أغلقت مؤقتًا خلال فترة الإنجليز، لكن في ظل الاحتلال الإسرائيلي الحاليّ للقدس، قاوم الفلسطينيون محاولات تهويدها على غرار المدرسة التكنزية، ولم يستطع الاحتلال النيل منها، وحاليًّا هي عبارة عن ملجأ لدار أيتام القدس وأبناء الشهداء، ومكتبة للمسجد الأقصى، تشرف عليها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية ووزارة الأوقاف الأردنية.
يقول الباحث في التاريخ المقدسي النتشة: “كما توجد مدارس أخرى تحتضنها أسوار المسجد الأقصى كالمدرسة العثمانية التي هي الآن دار سكن لعائلة الفتياني، وهي من أشهر عائلات القدس الشريف، وكذلك المدرسة الجوهرية التي كانت المدرسة الأولى للطائفة الصوفية في الأراضي المقدسية وتحولت اليوم لمسكن لعائلة الخطيب الذين اشتهروا عبر التاريخ بإمامة المسجد الأقصى، كما خرج منهم خلال فترة المماليك إمام الحرم النبوي في المدينة المنورة”.
وجدير بالذكر أن محاولات المس بهذه المدارس من الاحتلال الإسرائيلي أشعلت ثورة في ربوع الوطن كافة بين الجماهير الغاضبة وسلطات الاحتلال الاسرائيلي، حتى وصلت ذروتها للمواجهة المسلحة بين فصائل المقاومة بمشاركة الأجهزة الأمنية الفلسطينية بأوامر من القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1996، وكانت حينها أول مواجهة مسلحة بين أجهزة الأمن الفلسطينية والإسرائيلية فيما عرف بـ”هبة النفق”.
اشتعلت “هبة النفق” بعد الكشف عن محاولات إسرائيلية لفتح نفق أسفل المدارس العثمانية والمنجكية والأشرفية، ما أحدث تصدعًا وشقوقًا في الجدار الغربي للمسجد الأقصى، ضمن مخططات خاصة بهم لتهويد المسجد الأقصى لفتح معابد يهودية أسفله، الأمر الذي استفز الشعب الفلسطيني وقيادته، واستمرت الاشتباكات حينها طيلة شهرين حتى وصل الطرفان لوقف إطلاق النار بجهود أممية.