لم يكن وضع اليهود في المغرب قبل الهجرة بذلك التسامح والتعايش كما يروج له في العادة عند الحديث عن تاريخ الطائفة اليهودية في البلد ذي الأغلبية المسلمة، وذلك أن علاقتهم بالسلطة تميزت بالمد والجزر، ولم تكن دائما على حال جيد، إذ يشهد التاريخ القريب على مظاهر التمييز والكراهية التي لحقت اليهود من طرف حزب “الاستقلال”، وهي الواقعة التي استغلتها الآلة الصهيونية لإقناعهم بالهجرة إلى “الوطن الموعود”.
التخلص من المنافسين
أي مصلحة لحزب وطني وراء دفع الآلاف من اليهود المغاربة للهجرة إلى وطن بهدف احتلاله؟ الجواب هو أن اليهود اشتهروا بالتجارة طيلة وجودهم القديم في المغرب، فكانوا بذلك منافسين للتجار الفاسيين – نسبة إلى مدينة فاس عاصمة المغرب قبيل الاستعمار- أما حزب “الاستقلال” فهو ذو أغلبية فاسية التحقت بدواليب الدولة مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال عام 1956، وشاءت النخبة الفاسية أن تتخلص من منافس قوي، سواء في الوظائف الإدارية أو التجارة، لهذا كان من مصلحتها أن يهاجر اليهود إلى أي مكان.
ملاح فاس: أقدم حي يهودي في المغرب
لعب حزب الاستقلال دورا بارزا في النزيف الكبير الذي مس الطائفة اليهودية بالمغرب خلال خمسينيات القرن الماضي، لأنه كان ذا عقيدة قومية ومحافظة، وكان قادته يكنون كرها شديدا لليهود، فشنوا بذلك حملة شرسة من أجل مقاطعة التجارة معهم.
حزب الاستقلال كان لا يحب اليهود لأنه ينافس الفاسيين في التجارة والمناصب الحكومية
“قدم أحد مناضلي حزب الاستقلال ووقف أمام متجري والدي، وأخذ يمنع الناس وهو يصرخ قائلا: لا تشتروا من اليهودي” يقول جاكوب كوهين، وهو مفكر يهودي فرنسي من أصل مغربي، في تصريح تلفزيوني مع قناة الجزيرة، متذكرا بعض تجليات حملة الكراهية التي شنها حزب الاستقلال ضد اليهود المغاربة.
ويضيف المفكر المناهض للصهيونية في تصريح آخر أن “حزب الاستقلال كان لا يحب اليهود لأنه ينافس الفاسيين في التجارة والمناصب الحكومية، بالتالي كان للصهاينة والفاسيين نفس الهدف، وهو أن يرحلوا خارج المغرب”.
السطو على الثروات
يكشف كوهين عددا من الحقائق التاريخية، منها أن رجال فاس الأغنياء قاموا بالسطو على ثروات اليهود، وكيف كانوا يقترحون عليهم المشاركة بنسبة 20% من رأس المال، بحجة أن أخ أحد الفاسيين عامل أو وزير، ومع انتهاء الحماية لم يعد اليهود المغاربة يحسون بالأمان في وطنهم.
لم يكن باستطاعة اليهود أن يتقلدوا مناصب إدارية لأنهم كانوا يجيدون الفرنسية فقط إلى جانب العبرية
الخوف من أساليب التنافس غير المشروعة، وأيضا حرب الاجتثاث المحمومة التي قام بها قادة حزب الاستقلال ضد عدد من اليهود المغاربة الذين وجدوا في كراسي المسؤولية داخل عدد من المؤسسات المغربية، كان من العوامل المعجلة لخدمة المشروع الصهيوني باستجلاب اليهود المغاربة إلى “إسرائيل”.
إبان فترة الحماية الفرنسية، كان أبناء الطائفة اليهودية يتلقون تعليمهم فرنسيا صارما، حيث كانوا ملزمين بالتحدث باللغة الفرنسية فقط داخل مدارس البعثة، وإلا سوف يعاقبون إذا نطقوا بكلمة دارجة مغربية، التي كانت شائعة بين اليهود، إذ كانت العبرية لغة الصلوات فقط في ذلك اليوم ولم تكن لغة التواصل.
لكن بعد خروج المستعمر الفرنسي، بدأ مشروع تعريب الإدارة المغربية، فلم يكن باستطاعة اليهود أن يتقلدوا مناصب إدارية لأنهم كانوا يجيدون الفرنسية فقط إلى جانب العبرية، أما الذين كانوا يشغلون مناصب إدارية ولا يتحدثون العربية فكان عليهم مغادرة وظائفهم.
اعتناق الإسلام
خلال الفترة التي كان فيها مؤسس حزب الاستقلال علال الفاسي وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، برزت ظاهرة استهجنها اليهود المغاربة، وهو دخول بعض اليهود إلى الدين الإسلامي، وفق ما أشار إليه الباحث في تاريخ اليهود المغاربة محمد براص، شكل ذلك مصدر قلق لدى فئة من اليهود، واستغلت الحركة الصهيونية ذلك لإقناع اليهود المغاربة بالهجرة نحو “إسرائيل”، وعندئذ عبر الفاسي عن موافقته على هجرة اليهود شريطة عدم السماح لهم بالعودة مجددا إلى البلاد.
اعتناق بعض المغاربة اليهود للإسلام خلق نقاشا حادا بين العناصر اليهودية التي كانت مساندة لحزب الاستقلال، بل جعلتها تضع الكثير من التساؤلات حول دور هذا الحزب في الحفاظ على أسس ومقومات الأقلية اليهودية، الأمر الذي خلق نوعا من الارتياب، ودفع بالعديد من اليهود إلى التراجع عن موقفهم في مساندته.
حملة دعائية
ممثل اليهود المغاربة بفرنسا، سيمون حاييم سكيرا، يلقي باللوم على حزب الاستقلال ويحمله مسؤوليه رحيله عن بلده الأصل، قائلا: “اسألوا حزب الاستقلال لماذا غادرت بلدي وأبواي ووجدت نفسي في إسرائيل البلد الوحيد الذي استقبلني بجواز السفر المغربي”.
حاييم هو أحد أبرز الوجوه الإسرائيلية الدافعة باتجاه التطبيع بين المغرب و”إسرائيل”، غادر مدينة الدار البيضاء سنة 1967 عقب حرب الـ67 في الشرق الأوسط، زاعما أنه يفهم مأساة الفلسطينيين الذين طردوا من وطنهم، ولكن لا أحد يفهم مأساته بعد أن أجبر على ترك المغرب وهو ابن 15 سنة، “إذا كنت اليوم إسرائيليا فاسألوا حزب الاستقلال عن ذلك” يضيف قائلا.
عقب نكسة الـ67 شنت الصحافة الوطنية، ومنها الصحافة التابعة لحزب الاستقلال حملة مكثفة ضد اليهود، دعت الناس إلى مقاطعتهم، بعدما كانت لفترة طويلة تتغنى بالوئام والتعايش بين المسلمين واليهود، انجرفت هذه الصحافة نفسها إلى تيار الانفعال العاطفي الذي استهدف اليهود المغاربة ودولة “إسرائيل” في آن واحد دون تمييز.
خلطت تلك الحملة الإعلامية ما بين اليهود الوطنيين والصهاينة، حيث استهدفت في المقام الأول اليهود الذين كانوا يعملون في القطاعات الاقتصادية المنتجة، التي تحتاج تدريبا كافيا وحدا أدنى من المهارة، فكان من بين النداءات المنشورة بالصحافة الوطنية على نطاق واسع: “يا شباب هذا الجيل، تعلموا الصناعات التي كانت حكرا على اليهود حتى الأمس، من أجل تحرير بلدنا من السيطرة الصهيونية. الشعب المغربي عازم على مقاطعة الصهاينة، ولا يتردد في المشاركة الشاملة في الحملة الوطنية. احرصوا قبل الاكتتاب في أي تأمين،على اختيار شركة تأمين لا يكون أصحابها الرئيسيون من الصهاينة. تذكّر جيدا يا أخي، أن عددا من الأحذية والمشروبات والسجائر والأقمشة وقاعات السينما والمقاهي والصابون ودور الخياطة والحلويات، موجودة هنا لتنتزع منك دراهمك وتعطيها لأعداء الأمة”.
وعلى الرغم من أنه كان يحاربهم، إلا أن حزب الاستقلال كان لا يمنع اليهود من الانضمام إليه، لكن بشرط واحد وهو “تأدية القسم على القرآن الكريم” حسب شهادة شمعون ليفي، المناضل الشيوعي والمدير السابق للمتحف اليهودي بالدار البيضاء، مؤكدا أن هذا الشرط كان دافعا من بين دوافع أخرى لليهود المغاربة، كي يلتحقوا بالحزب الشيوعي، علما أن عددا مهما من هؤلاء كانوا شيوعيين حقيقيين.
بالفعل نجحت خطة الصهيونية باستجلاب اليهود المغاربة إلى “إسرائيل” بعدما أغرتهم دعايتها، مستغلة مجموعة من الأحداث في المغرب، مثل التضييق الذي لحق اليهود من طرف حزب الاستقلال، ومهما يكن فلا مبرر للهجرة من بلد الأصل من أجل احتلال وطن له شعب، والمساهمة في بناء المستوطنات على حساب الفلسطينيين أصحاب الحق الشرعي والتاريخي.