عندما ابتكر العالم الإيطالي، غوليلمو ماركوني، جهاز الراديو عام 1901، وبدأ بإرسال الموجات الصوتية لمسافات بعيدة، ظنّ البعض أن هذا غاية العلم ومنتهاه، وظل الراديو طِوال عقود كثيرة هو وسيلة التواصل بين النخب والجماهير، لكن ما إن بدأ التلفاز باكتساح البيوت، حتى تراجعت شعبية الراديو بصورة كبيرة، ومضت العوائل تجتمع حول التلفاز لساعات طويلة.
وكانت انطلاقة الإنترنت على المستوى العالمي في تسعينيات القرن الماضي بِمثابة ثورة عظيمة، لكنّه ظل حبيس المختبرات والجامعات والنخب المختصة، لأن استخدامه تطلب وجود حواسيب ومعدات باهظة الثمن.
وما إن بدأ العقد الأول من القرن العشرين، وانتشرت الهواتف الذكية ذات السعر المتوسط، ثم ظهرت منصات التواصل الاجتماعي، حتى باتت تلك الوسائل – تقريبًا – النوع الوحيد من أنواع التواصل. لكن خلال السنتين الماضيتين يبدو أننا بدأنا بالعودة نحو النموذج الأول من نماذج التواصل، وهو الصوت، فما القصة؟
بداية العودة إلى الصوت
شهِد عام 2016 بداية ظهور مصطلح أجهزة “المساعدين الصوتيين” من قِبل “أمازون” وجوجل”. كانت بداية خجولة، لكن مع اكتشاف مزاياها الرائعة بمرور الأيام والانتقال نحو المنازل الذكية اكتسحت تلك الأجهزة المنازل وأماكن العمل.
ووفقًا لبيانات جديدة من “Edison Research“، يمتلك أكثر من 53 مليون أمريكي الآن مكبر صوت ذكي (Amazon Echo- Google Home، وآخرون)، وهذا يمثل زيادة قدرها 14 مليون شخص في عام واحد، مما يجعل مكبرات الصوت الذكية والمساعدين الصوتيين من أسرع التقنيات الاستهلاكية المعتمدة في التاريخ. ومع ارتفاع معدلات الطلب والاستهلاك، بدأ عمالقة التواصل وشركات التكنولوجيا الآخرون أمثال فيسبوك وآبل بالسعي لإنتاج النسخ الخاصة بها من المساعدين الصوتيين.
البودكاست النسخة الجديدة من الراديو
يمثل “التدوين الصوتي” أو “البث الصوتي” أو “البودكاست” (Podcast) أحد وسائط الإعلام الجديد الرقمي، وهو استخدام سلسلة وسائط متعددة أو حلقات صوتية أو مرئية، يمكن الاشتراك بها أو متابعتها ويتم تبليغ المشترك عند نشر أي تحديث، ويمكن للمشترك تحميل الحلقة والاستماع لها أو مشاهدتها بدون الاتصال بالإنترنت، كما يمكنه المتابعة والاستماع مباشرة.
البودكاست الذي يمثل الشكل الجديد والمطوّر للراديو الكلاسيكي، كانت انطلاقته المحدودة جدًا عام 2004، لكن مع انتشار سماعات الأذن البلوتوث “ايربود”، واعتماد هذا الأسلوب من البث في معظم المواقع والمدونات في عام 2019، كلها أسباب ساهمت في انتشاره بشكل كبير وزيادة متابعيه.
كذلك، ومما يميّز البودكاست عن الراديو التقليدي أنّه بإمكان المستخدمين الاستماع لها في أي وقت يشاؤون على عكس برامج الراديو القديمة.
تطبيق “Clubhouse”
راج في الأسابيع القليلة الماضية تطبيق جديد من تطبيقات الوسائط اجتماعية، يعتمد على الدردشة الصوتية فقط بخلاف أي تطبيق اجتماعي كنت ستستخدمه من قبل، اسمه “Clubhouse” (كلوب هاوس)، والغرض منه بحسب مطوريه، هو الانضمام إلى الغرف والاستماع إلى المحادثات البناءة، ومثل مكالمة فيديو Zoom، سيدير مضيف الغرفة الأعضاء بالداخل، ويتيح المشرف للأعضاء رفع أيديهم للمساهمة والمداخلة على موضوع النقاش.
تأسس التطبيق من قبل رجل الأعمال في وادي السيليكون “بول دافيسون” مع الموظف السابق في جوجل “روهان سيث”، وحصل على تمويل بقيمة 12 مليون دولار تقريبًا من شركة رأس المال الأمريكية آندرسن هورويتز، وتلقى دعم من أكثر من 180 مستثمرًا بعد جولة جديدة من جمع التبرعات، وتقدر قيمة Clubhouse الحالية بنحو مليار دولار.
وبخلاف فيسبوك وانستغرام وتويتر، التطبيقات التي اشتهرت في ظروف طبيعية، انتشر تطبيق “Clubhouse” بشكل كبير خلال جائحة فيروس كورونا عندما لم يتمكن الناس من الاجتماع وجهًا لوجه تمامًا.
السؤال الأهم: هل تطبيق كلوب هاوس آمن؟
عندما تضاعفت أعداد مستخدمي التطبيق بشكل مهول حتى عاد إلى الظهور شبح اختراق الخصوصية وسرقة البيانات، وبدأت الأخبار تتحدث عن تمكّن الصين من اختراق قاعدة بيانات التطبيق، الأمر الذي دعا الشركة إلى البدء في مراجعة ممارسات حماية البيانات، خاصةً بعد تقرير صادر عن مرصد جامعة ستانفورد للإنترنت، قال إن التطبيق يحتوي على عيوب أمنية تجعل بيانات المستخدمين عرضة للوصول إليها؛ خاصة من قبل الحكومة الصينية.
وردًا على تقرير ستانفورد، أوضح تطبيق “كلوب هاوس” أنه اختار عدم إتاحة التطبيق في الصين، وعلى الرغم من ذلك فقد تمكن بعض الأشخاص من إيجاد حل لتنزيل التطبيق، مما يعني أنه يمكن نقل جزء من بعض المحادثات عبر الخوادم الصينية.
وتعهدت الشركة في بيان لها، بأنها ستقوم خلال 72 ساعة بإدخال تغييرات لإضافة المزيد من التشفير، “لمنع عملاء من إرسال الأصوات إلى الخوادم الصينية”.
الاقتصاد الصوتي
“كلوب هاوس” ليس التطبيق الوحيد الذي يحاول كسب أذنيك بعد تنامي الطلب على التطبيقات الصوتية، فقد عَمِلت العديد من شركات الشبكات الاجتماعية بتضمين المحتوى الصوتي ودمجه في مِنصاتهم، فمثلًا ستطلق قصص فيسبوك ميزة يمكنك من خلالها مشاركة رسالة صوتية إذا كنت خجولًا من الكاميرا، بينما سَيمنحك انستغرام الفرصة لمشاركة أغانيك المفضلة من Spotify إلى القصص، حيث استحوذت Spotify مؤخرًا على شركتي Gimlet media وشركة Anchor لخدمات البث الصوتي في صفقة قيمتها 340 مليون دولار.
كما قررت شركة Discord، التي تم إطلاقها في عام 2015 ولديها 100 مليون مستخدم، هذا العام التحول من منصة صوتية خاصة إلى منصة عامة للجميع. في الوقت نفسهِ يقوم تويتر بتطوير نسخته الخاصة من الشبكات الاجتماعية القائمة على الصوت، والتي تسمى Audio Spaces.
من جانبها صرّحت Mangrove Capital Partners بأن الاستثمار في الشركات الناشئة الصوتية بلغ 786 مليون دولار في عام 2019 مقارنة بـ 298 مليون دولار فقط في عام 2017، ومن المتوقع أن يصبح الاقتصاد الصوتي سوقًا بقيمة تريليون دولار بحلول عام 2025.
اللافت في الانتباه أن التطبيقات الصوتية تطلق العنان لِخيال الأشخاص، وتجعل المستخدمين يتفاعلون مع المحتوى أكثر من المقاطع المرئية، لأنّ الصوت أكثر حميمية من غيره راج انتشاره، إذ وبحسب الإحصاءات بلغ متوسط مدى الانتباه للفيديو 8 ثوانٍ، مع متوسط البودكاست من 30 إلى 34 دقيقة.
بشكل عام، يستخدم مستهلكو الصوت سماعات الرأس للاستماع إلى البودكاست، وهذا النوع من الاستماع يشجع العلاقة الحميمة مع منشئ المحتوى، وبسبب هذا الشعور بالألفة، يبني المستمعون علاقة وثيقة مع البودكاستر، وهذا يمكن أن يثير مشاعر الصداقة التي بدورها تولد الثقة.