أمران لا يمكن فصلهما عن السياسة كما لا يمكن فصل السياسة عنهما، وهما: الدين والأدب، إذ إن علاقة الدين بالسياسة هي علاقة عضوية لدرجة أن أكثر الأنظمة علمانية لم تستطع تجاهل دور العامل الديني في السياسة، كما حدث لستالين الذي اضطر للتقرب من الكنسية الأرثوذكسية ومحاباتها، وذات الأمر ينطبق على الأدب فكل نص أدبي شعرًا كان أم نثرًا، قديما كان أم مُحدثا، لا يمكن قراءته بمعزل عن الوضع السياسي الذي أحاط بالأديب ساعة كتابته للنص أو الميول السياسية المسبقة له.
كانت هذه المعطيات حاضرة في ذهني وأنا اقرأ السيرة الذاتية للروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للأدب جوزيه ساراماغو كاتب رواية “العمى”، حيث تخبرنا سيرته الذاتية أنه من مؤيدي “الشيوعية الفوضوية” أو ما تعرف بالشيوعية اللاسلطوية، وهي اتجاه شيوعي يدعو لإسقاط الدولة والسوق والعملة والملكية الخاصة والرأسمالية لصالح الملكية العامة لوسائل الإنتاج والديمقراطية المباشرة، فهذا الاتجاه يرى الدولة بمفهومها الحديث شكلًا من أشكال الاستغلال والتسلط الطبقي التي ينبغي نقدها ومحاربتها لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.
وبغض النظر عن مدى مصداقية أو واقعية هذا الطرح إلا أن هذه المقدمة التمهيدية للاتجاه السياسي للكاتب ضرورية لفهم فلسفته الخاصة التي بثها في رواياته والتي تساعد في المحصلة النهائية على تحقيق القراءة الصحيحة لأدب الكاتب وفهم غوامض ومغاليق نصوصه الأدبية.
وأول ما يلاحظه القارئ في الرواية أنها مجردة من الزمان والمكان، فلا زمان واضح للرواية ولا مكان، وحتى شخصياتها تبدو مبهمة بلا أسماء صريحة، وإنما يُعرفها سارماغو بإشارات توضيحية، مثل استخدامها أوصاف مثل: الطبيب وزوجة الطبيب والسائق والمرأة ذات النظارة السوداء.
وما يمكن استنتاجه من هذا الطرح هو أن سارماغو لم يكن يعني بروايته مجتمعا معينا فهو شيوعي أممي يتناول قضية إنسانية قد تحصل في كل مكان وفي كل زمان.
الرواية من الداخل
تبدأ أحداث رواية “العمى” التي كتبها سارماغو سنة 1995، في مدينة مجهولة في بلد ما، وتحكي عن إصابة شخص ما بالعمى المفاجئ دون مقدمات تمهيدية ولكن عماه هذا هو عمى أبيض ناصع، فلا يرى سوى البياض يحيط به من كل جانب.
والغريب في هذا العَمى المفاجئ أنه مُعدي فلا يلبث هنيهة إلا وينتشر في أرجاء المدينة، فيصاب طبيب العيون الذي راجعه الأعمى ومن ثم المرضى المراجعين له، فتضطر السلطات لحجر العميان في مستشفى مجانين مهجورة وتخضعهم لرقابة أمنية مشددة مع تعليمات صارمة للجنود بإطلاق النار على كل من يحاول الخروج من المحجر، وبعدم التدخل لفض أي نزاع بين العميان في حال نشوبه ولو قتلوا بعضهم بعضًا.
وهنا تبرز “النزعة” السياسية لسارماغو في نقد الدولة الحديثة حيث تظهر “السلطة” عاجزة عن مواجهة هذا التحدي الغريب فتلجأ للعنف المفرط في محاولة إيقافه مع تخبط إداري وفوضى عارمة، فقد مارست التضليل مع الناس وأوهمتهم بالسيطرة على الوباء إلى أن اصيب مذيع الاخبار ذاته بالعمى ليتأكد الناس أن الأمور قد خرجت عن السيطرة بالفعل، وكأن سارماغو هنا يحاول أن يُعري السلطة من خلال منصاتها الإعلامية المضللة.
في المحجر عالمٌ موازي حيث يقبع الطبيب وزوجته التي لم تصب بالعمى لسبب غير معلوم ولكنها ادعت ذلك ليسمح لها بدخوله رفقة زوجها، وهناك يبقى العميان أياما ينتظرون خبر اكتشاف العلاج ومعرفة سر الوباء، لكن الأمل يبدأ بالاضمحلال مع انشغالهم في تدبير أوضاعهم في المحجر، محاولين التأقلم مع الأجواء الجديدة، وذلك إلى أن يتعرضوا لصدمة من السلطة بقسوتها إذ إنها تقتل أعمى ضل طريقه واتجه صوب البوابة فأرده الجنود قتيلا، بحسب الأوامر المفروضة.
يدرك العميان حجم الورطة التي وقعوا فيها وهنا يبرز الأسلوب الإبداعي لسارماغو فيتحول السرد إلى قطعة نثرية متقنة الصياغة تزخر بالتعبيرات العميقة المعبرة عن الألم والتي تحاول التعبير عن الوضع المزري في المحجر، ويتضح ذلك في قول أحدهم متنهدًا: “ماذا تعني الدموع عندما يفقد العالم كل المعاني”.
ويزداد الأمر سوءًا مع احكتار بعض “الأشقياء” للطعام في المحجر ومساومتهم لبقية العميان بتسليم حاجايتهم الشخصية مقابل أخذ حصتهم من الطعام، وبالطبع فإن السلطات لا تتدخل لمنع هذا الاستغلال فالأوامر صارمة ومشددة، ما يدفع العميان إلى الرضوخ في بادئ الأمر إلى أن يتمادى الاحتكاريون فيطلبون خدمات جنسية من النساء المحجورات، وهي الحادثة التي تثير حفيظة المحجورين وينشب صراع دموي ينتهي بمقتل زعيم الاحتكاريين.
ذروة الأحداث
تبلغ أحداث الرواية ذروتها مع انهيار السلطة بشكل تام حيث يُلاحظ العميان غياب العسكر وانقطاع وصول الطعام فيغادرون المحجر، ولكنهم يسيرون كمجموعات ويبدؤون بالبحث عن الغذاء، وما يمكن ملاحظته في هذا الجزء من الرواية أن وضع العميان وهم خارج المحجر أفضل بكثير من وضعهم داخله، حيث يبدون وكأنهم خرجوا من سجن استغلالي كئيب.
وتغيب الملكية الخاصة في مثل هذه الظروف فكل شيء مشاع للجميع وليس لأحد أن يطلب من أحد مغادرة منزله، هذا إذا استطاع الوصول إليه أساسًا، وكأن سارماغو يوظف هذه الأجواء الروائية لتجسيد حالة المشاعية البدائية الأولى التي ينشدها الشيوعيين، أو أنه استخدم أسلوب “الفلاش باك” ليعود بالمجتمع الإنساني إلى حالته الأولى “المشاعية البدائية”، وفي خضم هذه الأحداث ودون سابق إنذار يستعيد العميان بصرهم دون أن يعرفوا لماذا فقدوا أبصارهم ولماذا أبصروا الآن.
وفي هذه النهاية المفتوحة، يختم سارماغو روايته البديعة، التي حوت بين سطورها إشارات عديدة يمكن تأويلها على وجوه عدة، لكن من المؤكد أن الإشارات السياسية “الشيوعية” كانت من وجهة نظري هي الأوضح والأبرز، وإنّ سارماغو استغل هذه الفسحة الروائية ليرسم الشكل المزري للمجتمع وهو يواجه جائحة مفاجئة في ظل نظام تقليدي رتيب عاجز عن مواجهة الأزمة.
وتعيد هذه الأحداث الروائية إلى الأذهان ما يعيشه العالم اليوم في ظل جائحة كورونا. صحيح أن الوضع ليس بالقتامة المرسومة في الرواية لكنه ينطوي على تفاصيل كثيرة تنبأ بها سارماغو وهو يفكر بحال الإنسانية، ويحاول الإجابة على السؤال الجوهري الذي ناقشته الرواية، وهو ماذا سيحصل للإنسانية لو داهمها وباء لم تعرف له علاج ولا تدري ما تصنع لإيقافه.
جدير بالذكر بأن الرواية قد حولت إلى فيلم تم إنتاجه في كندا سنة 2008، حمل اسم “Blindness”، وهو من إخراج فرناندو ميريليس، وبطولة كل من الممثلة جوليان مور ومارك روفالو، غير أن الفيلم لم ينقل أحداث الرواية في المجمل وشهد خروجا عن نصها في محاور عديدة من الفيلم.