لا يختلف اثنان أن الفن بأشكاله يُعد ضمن إحدى القوى التي تساهم في تعرية وإسقاط الأنظمة الاستبدادية والكليانية التي تعمل على سحق أصوات البروليتاريا المطالبة بحقها في الكرامة والعدالة، فالموسيقى والغناء يمثلان وعاءً ثقافيًا ومحركًا أساسيًا يخدم الصراع من أجل الحرية والتحرر من كل أشكال العبودية والاستغلال، وذلك شريطة استيعاب المضامين الاجتماعية من البيئة واستلال المفردات من الموروث.
في عالمنا العربي، شكلت فرقة “ناس الغيوان” المغربية مثالًا فريدًا من نوعه وتجربةً رائدةً في مسار الأغنية العربية الملتزمة على مستوى اللحن والكلمة الحاملة لهموم البسطاء والمحرومين ولآمالهم وتطلعاتهم في حياة كريمة، وذلك من خلال الشحنات التعبيرية وإحيائها للذاكرة الشعبية، فكان إنتاجهم الفني مزيجًا بين الجمالية الغنائية والإبداع في استحضار العادات الشعبية الشائعة عند المغاربة كالحضرة والجذبة والطقوس الصوفية في احتفالات الزوايا.
ناس الغيوان
عرفوا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بشعرهم الطويل المجعد وبأغانيهم المتمردة والحالمة، وبفرقتهم المتكونة من 5 أعضاء قادمين من مناطق متفرقة ومن ثقافات متنوعة وهم على التوالي:
- بو جمعة أحكور (بوجميع): تنحدر أصوله من جنوب المغرب وتحديدًا نواحي إقليم تارودانت، وهو موسيقي ومسرحي والأب الروحي للغيوان.
- العربي باطما: قادم من المنطقة الشاوية، ألف قصائد عدة استخدمتها المجموعة، كما كتب مجموعة من السيناريوهات السينمائية والمسرحية، لُقب بـ”مجدوب” الفرقة، نسبة إلى عبد الرحمان المجدوب الشاعر المغربي المتصوف الذي عاش خلال القرن الـ16.
- عمر السيد: أصوله أمازيغية عرف بصوته العذب الذي جعل المجموعة تعتمد عليه في إلقاء بعض المقاطع نظرًا لسهولة تجوله عبر الطبقات الصوتية المختلفة.
- علال يعلى: ذو أصول صحراوية درّس الموسيقى لزملائه، واشتهر بمهارته في العزف على العديد من الآلات الموسيقية وخاصة آلة “البانجو” التي طبعت أنغام فرقة ناس الغيوان.
- عبد العزيز الطاهري: زجال غنائي وكاتب ومؤلف ومسرحي ترك الفرقة مبكرًا وساهم كذلك في تأسيس فرقة “جيل جيلالة”.
تاريخيًا، يعود تأسيس فرقة ناس الغيوان لعدة عوامل محلية ودولية مهدت لنشأتها وكذلك لتطورها فيما بعد، حيث فتح استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي الأبواب أمام نشأة موسيقى جديدة تنطق بحال وأحوال المجتمع وتتحدث عن حاجاته وهمومه، فيما ساهمت سنوات الجمر (الرصاص) التي شهدتها البلاد عقب الانقلاب وحالة الطوارئ التي فرضها النظام عام 1965 ونتج عنها تجميد نشاط الأحزاب وحل البرلمان وتجميع كل السلطات في يد الملك، في تشكل المضمون الغنائي الغيواني.
أما العامل الخارجي، فتمثل في انتشار حركات التحرر في العالم من القوى الاستعمارية، وهزيمة العرب ضد الكيان الصهيوني أو ما يُعرف بنكسة 1967، وكلها محطات ساهمت لاحقًا في تشكل ملامح وتوجهات أعضاء فرقة ناس الغيوان.
البيئة الاجتماعية أيضًا ساهمت في بروز نمط موسيقي جديد انقلب على السائد والمتعارف عليه، حيث استمدت ناس الغيوان فنها من الموروث الأندلسي والشعبي كالملحون والعيطة ونهلت من التراث الصوفي الذي كان منتشرًا في الأحياء المغربية وخاصة في الحي المحمدي الذي تشكل مع بدايات القرن العشرين وترامى وامتد إبان الاستقلال المغربي، وضم مزيجًا فسيفسائيًا من نازحي قبائل الشاوية ودكالة وعبدة والصحراء المغربية.
بيوت الصفيح والطوب والدروب الضيقة لهذا الحي، اتسعت بأهلها على فقرهم وخصاصتهم فأنتجت فنًا جماليًا تجاوز الحدود بكلماته التي تحاكي معاناة الإنسان بتفصيلاتها الوجودية، ولعل التنوع السكاني (عادات وتقاليد) لحي المحمدي شكل لوحة من الفنون الشعبية المتنوعة كالفلكلور وفضاء الحلقة والزجل والمتون الشفوية، ودفع بالغيوان لاستلهام موسيقاها من كل أنحاء المغرب بما يتميز به من تنوع ثقافي عربي أمازيغي إفريقي أندلسي.
موسيقى جديدة
منذ نشأتها، اختارت الفرقة المغربية طابعها الخاص ورسمت لنفسها خطًا واضحًا تمثل أساسًا في التعويل على الموروث الموسيقي والأرشيف الصوفي المغربي، واعتمدت على الملحون والغناوة كلون وطابع غنائي وعلى الآلات التقليدية كالهجهوج والبانجو والبندير والطبل الثنائي (طام طام)، ما جعلها ظاهرة فنية تمزج بين القوة في الكلمة والصوت والإبداع في اللحن والإيقاع، واستطاعت خلق انقلاب على المسار الفني برمته عبر التخلص من تأثير المدرسة الموسيقية الشرقية من جهة وتأثير النمط الفني الفرنسي من جهة أخرى.
عشق المسلم لبيت الله عبرت عنه فرقة ناس الغيوان المغربيه بعمق.
الله يا مولانا من روائع ناس الغيوان:#أحمديات https://t.co/PX8tcdVa2M pic.twitter.com/ZWW086Pm2U
— Ahmad Alarabi ???? (@MyAhmadiat) July 9, 2019
من جهة أخرى، تميزت ناس الغيوان عن بني عصرهم من الفنانين، بتنوع المضمون الموسيقي وتعبيراته عن تطلعات وأصوات الفئات الاجتماعية الهشة والمسحوقة عبر تجليات ثقافية محلية وروافدها الدينية والإثنية وكذلك بأبعادها الإقليمية والإنسانية، أي أنهم كانوا أصحاب رسالة ومشروع، غنوا للناس بلغتهم المعتادة دون تكلف واصطناع، خاطبوا العامل والفلاح والمرأة والشباب وآنسوا المغترب في غربته والسجين في سجنه.
أوبرا سياسية
لم تكن الغيوان إلا صنيعة المكان والزمان والتحولات الديناميكية الاجتماعية والسياسة في المغرب، فقد تأثر أعضاؤها دون قصد منهم بأحوال البلاد والعباد، لذلك تضمنت أغانيهم مجموعة من الرسائل التي تنتقد الوضع السائد في تلك الحقبة واعتمدوا على التلميح بدلًا من التصريح خوفًا من السلطة الحاكمة، إلا أن الصدام كان لا مفر منه عام 1972، حين تم إيقاف حفلهم، تحت حكم حسن الثاني بن محمد، بسبب أغنية “سبحان الله صيفنا ولا شتوة”.
مع الوقت وتطور الغيوان، وجدت أعمال الفرقة صداها لدى شرائح مختلفة من المجتمع، حيث مال اليساريون إلى الأغاني التي كانت تنتقد الظلم والتسلط والفوارق الطبقية، فيما أحب المتصوفون والمتدينون المدائح النبوية والمناشدات الروحية، أما الشباب فكانوا أكثر ميلًا إلى أغاني الثورة والتمرد على السائد والرتابة الحياتية التقليدية، في حين تفاعل القوميون مع الأغاني التي تستنهض همة الإنسان العربي وتدعو إلى وحدة الصف في القضايا المركزية كالقضية الفلسطينية التي أولتها المجموعة اهتمامًا خاصًا وأفردتها بمقطوعات، مثل “صبرا وشاتيلا” و”دومي يا انتفاضة دومي” و”الشمس الطالعة” و”القَسم”، وغيرها.
محليًا، ساهمت ناس الغيوان في تعميق الاندماج الاجتماعي من خلال التعبير عن هوية متنوعة وجامعة وفي التصدي لمحاولات التفكيك المستندة على المخططات الاستعمارية السابقة (إسبانيا ,فرنسا)، التي عمقتها الهشاشة الاجتماعية والخواء الثقافي والاستبداد السياسي والاستئثار بالسلطة والثروة، فكانت أغنية “الصينية” رسالة للتشبث بالهوية والثقافة الشعبية الأصيلة.
وغالبًا ما حملت أغاني الغيوان رسائل تدعو لمحاربة أطروحات النيو قبلية المتخفية وراء المطالب الاجتماعية والحقوق الثقافية للأقليات في مناطق معينة، والمؤطرة إيديولوجيًا وإثنيًا ولغويًا والمحرضة على كل ما هو عروبي إسلامي، وبالتالي جاءت موسيقاهم رابطًا قويًا ضد نزعات التفكيك والتجزئة من خلال التعبيرات الفنية الجاذبة للانتماء والوحدة، وذلك مع حفاظها على مسافة كبيرة مع خطاب السلطة الرسمي.
ورغم محاولات السلطة المغربية استقطاب الغيوانيين واستعمالهم للتأثير لصالحها، حافظت الفرقة على وفائها لصوت الفئات الهشة والمسحوقين، وباتت صوتهم الصارخ بالآلام والصادح بالنقد للحكام وحاشيتهم، فجاءت أغنية “النحلة شامة” معبرة عن الأوضاع السياسية في البلاد وتسلط البطانة وتجبرها.
قلت لها أسباب طاعة جنودك
لا حيلة لا غش لا منكارا
قالت ما عندي وزير طماع يداري
الترميز والتلميح في أغاني الغيوان التي مست السلطة ومكانتها، دفع النظام إلى التضييق على المجموعة عبر منعها من تسجيل بعض أغانيها ومنع بث بعضها الآخر في وسائل الإعلام، فيما أُثيرت عدة تساؤلات وشبهات عن وفاة المؤسس بوجميع، واتهمت الأجهزة الأمنية آنذاك باغتيال فنان ثوري.
أغاني في الذاكرة
غير خذوني: أغنية تزامنت مع صراع السلطة والمعارضة في المغرب، حيث امتلأت السجون بالمعارضين، في وقت اشتد فيه نقد اليساريين للنظام ورموز الأجهزة الأمنية بقيادة أحمد الدليمي، اليد اليمنى للملك الراحل الحسن الثاني، وخلفه إدريس البصري.
تبدأ الأغنية بموال يدشنه عمر السيد بصرخة تذكر بصرخات السجناء الذين يئنون من شدة التعذيب، وتنسجم الكلمات مع أجواء الصراع السياسي والاعتقالات والمحاكمات، فتتحدث عن الدم المغدور وعن القلب الذي يئن من ضربات الحداد الذي لا تأخذه به شفقة ولا رحمة، كما تتحدث عن ضحايا الصمت وعن الأب الغائب والشوق الدائم إلى رؤيته.
مهمومة: هي دردشة أو حوار باطني مع الإنسان المهموم المظلوم الذي يعاني من الفقر والتهميش ومخاطر الاعتقال ظلمًا، تتحدث الأغنية أيضًا عن السجون المليئة بالأطفال، وعن الرجال الذين ماتوا برسائل ملغمة، مثلما حدث في سبعينيات القرن الماضي مع معارضين يساريين.
فلسطين: القضية المركزية للعرب كانت حاضرة بشكل كبير في الأرشيف الغنائي لناس الغيوان، وتتحدث أغنية “انتفاضة” إلى أطفال الحجارة، فتمجدهم وتشد على أياديهم وتدعوهم للاستمرار في رجم المحتل وعساكره، فيما خاطبت أغنية الانتفاضة قائلة “دومي دومي، يا انتفاضة دومي، بحجارك دومي، بصغارك دومي، ضد جيوش الاحتلال”.
فلسطين كانت حاضرة أيضًا في أغنية شهيرة تحمل عنوان “صبرا وشاتيلا” التي نقلت صورًا عن المجزرة الوحشية التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي وأدواته في لبنان ضد الفلسطينيين عام 1982، تحدثت الأغنية عن غطرسة الكيان وصمت العالم المخزي أمام قتل الأطفال والشيوخ والنساء، وعن المحاصرين المكلومين.
لئن فقدت الفرقة الكثير من بريقها القديم بسبب رحيل عدد من أعضائها (بوجميع أحكور والعربي باطما وعبد الرحمن قيروش باكو)، إلا أن أغاني الغيوان مثل “مهمومة ” و”الحال” ما زالت تجد صدى عند المغاربة بأطيافهم، يرددونها كلما ضاق بهم الحال وتفاقمت معاناتهم وعطالتهم وفقرهم.
قد يصفهم البعض بالمجانين والدراويش (المجاذيب) الذين ساروا في دروب السياسة الوعرة والتزام دون إرادة منهم، إلا أن خمرة الموسيقى التي صنعوها من حركات صوفي تائه في الكون بحثًا عن صفاء روحه، جعلت أجساد المستمعين تتمايل هي الأخرى لنثر أثقال الحياة وهمومها وكسر جميع القيود المادية، فخمرة الغيوان تسكن الأرواح لوهلة، لكنها لا تغيب العقول.