مع زيادة التلوث البيئي والاحتباس الحراري وما خلفه ذلك من زيادة الأمراض المزمنة في العالم، تزايدت المبادرات التي تهدف إلى تقليل التهديدات البيئية وزيادة وعي الناس بضرورة اتباع عادات صحية فيما يتعلق بالرياضة والتغذية والنفايات وجوانب مختلفة أخرى من الحياة اليومية.
وفي هذا الإطار، صعدت إلى الواجهة مشاريع الملابس المستدامة، في مسعى لتقديم رؤية مختلفة غير تقليدية تضع نصب أعينها بالدرجة الأولى الحفاظ على صحة الإنسان والبيئة وهو ما بات محط اهتمام شريحة متزايدة من مصممات الأزياء والموضة في العالم العربي.
لكن هذه المهمة لم تكن سهلة، ولن تكون سهلة مستقبلًا أيضًا، فتقديم ملابس مستدامة من مكونات طبيعية بعيدًا عن الأصباغ والمركبات الكيميائية يعني تكلفة أعلى بكثير من الملابس التقليدية، وهو ما سينعكس بدوره على الأسعار التي ستكون مبالغ بها بنظر الكثيرين.
عدا عن أنها ستكون ذات موضة تقليدية كلاسيكية يمكن استخدامها على مدار سنوات طويلة، وذلك بخلاف الطرح الفلسفي الذي وصلت إليه الموضة اليوم من سرعة في التغيير والتجديد الموسمي، ما يفرض تحديات كبيرة جدًا على العاملين في هذا المجال، فمن جانب يتوجب عليهم إقناع محبي الموضة بالتخلي عن رغبتهم في التغيير السريع للملابس مقابل حصولهم على مظهر أرقى جماليًا وأخلاقيًا بارتداء ملابس ثقيلة ورزينة وصديقة للبيئة، ومن جانب آخر ينبغي عليهم تقديم الملابس بسعر معقول وتقليل هامش الربح بشكل كبير كون المواد الخام الطبيعية تكلفتها أعلى بكثير من المواد الصناعية، وهو ما يهدد التوجه برمته في ظل انحسار مستوى الربح فيه.
ما تأثير نفايات الملابس على البيئة؟
وفقًا لوكالة حماية البيئة الأمريكية، أُنتج 15.1 مليون طن من نفايات الملابس عام 2013 فقط، وتسببت بعض المواد الكيميائية الموجودة على الملابس مثل الأصباغ في بعض الملابس، ضررًا بيئيًا عند تسربها إلى الأرض.
حال استمر الحال على هذا النهج فإن تأثير صبغ الملابس على الهواء والمياه والتربة في تصاعد ويمكن أن يصل انبعاث النفايات النسيجية عام 2050 إلى نسبة 26%
كما أن النفايات تستخدم مواقع ومساحات واسعة لتخزينها، إضافة إلى ذلك تطلق الملابس غير المباعة عند حرقها ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي، وتأكيدًا على تلك المعطيات يذكر موقع GGF أن الملابس هي الأكثر تلويثًا للبيئة، حيث يصدر حرقها ما يقارب 1.2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي سنويًا وهو من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وحال استمر الحال على هذا النهج فإن تأثير صبغ الملابس على الهواء والمياه والتربة في تصاعد ويمكن أن يصل انبعاث النفايات النسيجية عام 2050 إلى نسبة 26%.
الأزياء الدائمة الأقل تلوثًا
نيرفين الجبان مصممة أزياء لبنانية ومدربة استشارية في أكاديمية فاشن في مصر والإمارات، تؤمن بفكرة الأزياء الصديقة للبيئة، وفي وقت سابق أوجدت لبصمتها مسارًا خاصًا لتصميم الأزياء الطبيعية، ورغم ارتفاع تكلفتها، فإنها في الوضع الحاليّ وضعت خطة واضحة لإنتاج تصميماتها القائمة على فكرة الأزياء الدائمة ذات الجودة العالية.
نيرفين الجبان
تقوم فكرة صناعة الأزياء الدائمة لدى نيرفين على تشجيع الناس على ارتداء قطع متعددة الاستخدامات، يمكن ارتداؤها يوميًا وفي كل المواسم مثل الجاكيت الرسمي الذي يمكن ارتداؤه على الجينز وعلى التنورة والأطقم الرياضية المناسبة للخروج وبألوان سادة أو موحدة دون اللجوء إلى تصميم واضح حتى تدوم فترة أطول وبالتالي يمتنع المستهلك عن هدر الملابس ورميها في كل موسم، وذلك ما يعني نفايات أقل للبيئة.
خطوات ومعيقات
تقول نيرفين: “الموضة اليوم هي الموضة البسيطة والسريعة ذات الجودة الممتازة جدًا والمريحة التي زاد الإقبال عليها في وقتنا الحاليّ في ظل انتشار فيروس كورونا ومع توقف السهرات، هذا الأمر يحتم علينا التركيز على رغبة الجمهور وتقديم ما يتلاءم مع خياراته”.
وعن الخطوات المتبعة لتنمية الموضة المستدامة في الوطن العربي ترى نيرفين أن الدور الأساسي يعتمد على ابتكار المصمم لـ”ترند” معين وتفننه في اختيار القماش والألوان والتصميم المناسب ليحث الجمهور على ارتدائه، مع مرعاة أغلب الأذواق كي يتماشى معه في السوق، وتحديدًا في وضعنا الحاليّ الذي أصبح فيه الجمهور متابعًا بقوة لآخر صيحات الموضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمدونين الرقميين.
هناك شريحة معينة ستلجأ إلى اقتناء قطع صديقة للبيئة نظرًا لانتشار فيروس كورونا وتخوف الناس أكثر من المرض
أما المعيقات في الوقت الراهن، تؤكد نيرفين أن أهم تحدي يواجه الأزياء الصديقة للبيئة هو ارتفاع تكلفة القطعة، فمثلًا الجينز الخالي من المواد الصناعية يحتاج لصرف الكثير من الماء والأيدي العاملة ولا يصنع بالماكينات الجاهزة، ومع استمرار تفشي فيروس كورونا تراجعت قوة الشراء عند الجميع.
لكن في ذات السياق، تتوقع نيرفن أن هناك شريحة معينة ستلجأ إلى اقتناء قطع صديقة للبيئة نظرًا لانتشار كورونا وتخوف الناس أكثر من المرض، مضيفة “إذا توافرت لي الإمكانات المادية أشجع مسار الأزياء الصديقة للبيئة وإعادة تدوير الأقمشة لحماية البيئة، لكن هناك ندرة في وطننا العربي عند تطبيق هذا المسار لعدم إدراك أهمية هذا النوع من الأزياء”.
الموضة المتعددة الاستخدام
هامة ياسين مصممة أزياء أردنية من أصول فلسطينية انتشرت علامتها التجارية “خوذ فاشن” في الوطن العربي، كما شاركت في تأسيس أكاديمية خود لدعم المرأة في مهارات التصميم.
لتعزيز صناعة الملابس الصديقة للبيئة، تتفق هامة مع ما طرحته نيرفن من خلال خطوات عملية أولها تبدأ بتوعية المستهلك وبناء ثقافة تعزز هذا النوع من المنتج من خلال إنتاج قطع متعددة الاستخدام يمكن لبسها بأكثر من طريقة لمناسبات عدة وعلى مدار العام وبالتالي يكون عمرها الافتراضي أطول.
أما ثاني الخطوات، فتبين هامة أهمية دور الجودة التي تطيل العمر الافتراضي للقطعة وهو منسجم مع ما تقدمه كمصممة أزياء بطريقة مهنية على عكس ما تقوم به العلامات التجارية التي تنتج تصاميم أكثر بكميات أكبر وهو ما يعرف بالموضة السريعة (Fast Fashion) وذات الجودة السيئة والتي تتعارض وسياسة الاستدامة والمحافظة على البيئة.
مستقبل الأزياء الصديقة للبيئة
التزمًا بمبادئ الاستدامة استخدمت المصممة العربية هامة أنسجة طبيعية مثل الحرير الخام والقطن في إنتاج مجموعاتها على اعتبار أنها من المواد الصديقة للبيئة، وقد لاقت هذه المجموعات استحسان زبائنها المهتمين بقضايا البيئة والاستدامة.
وتؤكد هامة أنه من الضروري أن يكون هناك تحرك لجميع الأطراف المعنية في صناعة الأزياء والتوجه إلى إطلاق مبادرات تعني بتشجيع المستهلكين والمصممين من أجل إنتاج أقمشة خالية من السموم يمكن إعادة تصنيعها.
هامة ياسين
وتعتبر هامة أن مجال صناعة الأزياء يحتاج إلى تخطي محدودية ثقافة العاملين بدءًا من المصممين والحرفيين والموردين والتجار والمالكين للعلامات التجارية في مجال الاستدامة والمحافظة على البيئة سعيًا للربح السهل والسريع.
ومن خلال عمل الدورات والورشات التدريبية في مجال تصميم الأزياء التي تشرف عليها هامة داخل أكاديميتها فإنها لاحظت إقبال تلاميذها على انتقاء الأقمشة الصديقة للبيئة، وتؤمن بقدرة الجيل القادم الذي سيكون أكثر وعيًا واهتمامًا بموضوع الاستدامة والمحافظة على البيئة، الذين أظهروا قدرتهم العالية على الابتكار وإعادة التصنيع واستخدام الملابس بعد إضافة لمسات فنية حرفية متميزة كالرسم أو التطريز ودمج طرق مختلفة من التدوير.
إن هناك أكثر من مليار قطعة من الملابس تباع كل عام على هذه الكرة الأرضية، وهناك قطع جودتها سيئة ومتوسط عمرها الافتراضي يبلغ شهر أو شهرين ولا تدوم بسبب صناعة “الموضة السريعة”، ما يحتم علينا إتلاف العديد من ملابسنا اليومية، وهذه المسؤولية لا تقع على عاتق المستهلكين فقط بل الشركات المصنعة والإعلانات الموجهة التي تحرمنا من التفريق بين احتياجنا الضروري وغير الضروري عند الشراء تحت شعار “متعة التسوق”، دون التفكير بظروف عمال الأزياء داخل المصانع، وحجم المخاطر البيئية التي يشكلها هذا القطاع الذي يعد ثاني قطاع ملوثًا للبيئة.