رحى الكلام تدور في اتجاه واحد، أن نكون في معسكر مغلق ونتبنى خلاف ما نؤمن به، فلا حق لنا في الاختلاف واستحضار شيء من العقلانية في قراءة الخطاب الذي يطرق مسامعنا ويغشانا بضلاله، إذ ترسم قيادات الأحزاب والنقابات حدود فعلها وآفاق القول لأنصارها ومريديها وتريدنا في الصفوف الخلفية يدًا عاملة أو أقلام دعاية تسمع فتطيع فتروج، لكننا لسنا حطب مواقد ولا مرتزقة أحزاب ولا نقابات، وما زال في العمر بقية ننفقها في صيانة عقولنا، فلم نذهب إلى المدارس لنكون جنودًا مرتزقةً، لكن الصيغ الواحدة تصيبنا بقهر يجرح كرامتنا وهذه انتفاضة يائسة لقول ما نريد.
بحثنا عن قادة مبدعين فلم نجدهم
رضينا بالهم وقلنا في عجزنا عن الثورة المسلحة نقنع بالإصلاح السياسي ونتدرج بمنطق بسيط، أن نسير على قدر ضعفائنا، فإذا القادة الصغار أصغر من طموحنا المتواضع، ومن أجل ألا يسيل دم لا نملك فتوى حلته رضينا بشخصيات النظام القديم في مقدمة الدولة وراقبنا الحفاظ على الحد الأدنى ونبهنا وسرنا في الطرقات لحماية القليل المتاح.
فإذا كل تنازل منا يفتح الطريق لزعماء أصغر ممن سبقهم حتى وجدنا أنفسنا نسلم قيادنا من أجل كلمة جميلة (خيانة عظمى) فإذا قائلها ينكر دم أهلنا الذين ارتقوا شهداءً في معركة حرية دامت قرنًا وإذ المحتل القديم صديق نقبل كتفيه، ويطلب منا ألا نفتح مناقيرنا بالاحتجاج على الحقارة السياسة المهيمنة.
هل كان علينا أن نعادي فلسطين لكي لا تكون الخيانة العظمى أمرًا مهمًا عندنا؟ لقد تربينا على حب فلسطين ودفعنا الثمن في حدود الجهد المتاح ولم نتشرف بالشهادة في سبيلها لكننا لم نخن، لكن عقيدتنا سببت لنا أذى كبيرًا، فقد حولنا البعض بمقتضاها إلى أرانب غبية، ثم يطلب منا أن نمارس الدعاية لمن صغرنا إلى حدود الإمِّحاء التام، فإن لم نفعل وضعنا في صف المؤهلين للاستئصال السياسي.
وتسامحنا بنفس المنطق مع الأحزاب وقلنا للقومي شكرًا لإحياء اسم الأمة وقلنا للديمقراطي شكرًا لأنك تسعى في طريق الديمقراطية فاسع نحن نرفدك بالقول السليم وقلنا للإسلامي بوركت من أجل ذكر الله في البلد وقلنا للتجمعي عفا الله عما سلف توقف عن نهبنا وعش بأمان، فإذا القومي شبيح يمجد لنا حفتر وإذا الديمقراطي فاشي استئصالي وإذا الإسلامي خائف يترقب مرعوبًا كيتيم على المآدب، وإذا التجمعي لص حقير بالغريزة، وإذا نحن في وضع بائس إما أن نقبل بخيارهم وإما نوضع في قائمة الإعدام الفكري والسياسي.
ماذا علينا أن نفعل؟ لن نواليكم، سنوالي الوطن بالجهد والقلب ولن نسلم لكم قيادة أرواحنا وعقولنا وإن كان خبز أطفالنا بأيديكم سنعيش مستقلين شرفاء ولن نوالي.
فقراء الخيال السياسي أفقرونا
لا نحدث حدثًا خارقًا بالقول إن الثورات تحمل جنونها الثوري خيالًا جامحًا رومانسيًا مبدعًا يتخيل فيتسلق المستحيل ويبدع أوطانًا جديدة فتجدد فيها وبها أرواح الشعوب، فيكون التغيير.
هناك في منطقة الخيال تنسج البدائل العظيمة من عمل الشعراء ومن عمل العلماء ومن أحلام الطفولة، لكن نحن منذ عشر سنوات ننتظر أو ندفع إلى هذا الجنون الجميل (ولا نطلب الثمن) فإذا نحن نفيق كل صباح على ترقيات وظيفية تستنزف المال العام، فكل الخيال النخبوي تفتق عن زيادة في الأجور وتنويع السيارات الإدارية.
لست وحدي وإن كان النصير شتاتًا وهذا سبب مختلف للألم، لكن خارج الاستقطاب الحزبي نفكر بحرية ونجد فقر المنطق ونسميه باسمه
فقر مدقع في تخيل المستقبل الجماعي، لكن كل الذكاء السياسي والنقابي أي النخبوي ينصرف إلى تدبير منافع فردية وكل منفعة فردية هي خسارة جماعية، ولعبت النقابة الفقيرة الخيال دور معول الهدم لكل حلم يمكن توليده من الثورة، نقابة قتل الأحلام تفلح في تخريب آمال الناس وعقولهم وقد وصلت إلى مرحلة تخريب بقية جهاز الحكم.
فكل مسؤول يعلن حلمًا مجنونًا يتم سحقه تحت الأحذية، وليس غريبًا، فالنقابة فرقة شبيحة كان كل فخرها التقاط صورة مع صورة بشار مدمر سوريا، وكيف لمن يقبل بوطًا عسكريًا أن يكون له خيال حالم يرى ما وراء أحلام الشعوب فيسعى فيها، وعلينا أن نقبل حذاء بشار والسيسي وحفتر وبوتين وإلا صرنا من الدواعش، لسنا حيث تروننا او تريدوننا نحن ماكثون في منطقة صناعة الأحلام التي ستدمر جشعكم إلى المال العام.
يوجد موقف مستقل وسندفع ثمنه
لست وحدي وإن كان النصير شتاتًا وهذا سبب مختلف للألم، لكن خارج الاستقطاب الحزبي نفكر بحرية ونجد فقر المنطق ونسميه باسمه ونسمي الزعماء المزيفين بأسمائهم، فقد منحنا الوقت منه كثيرًا لنختبر الزيف ونعرف بواطن النفوس بقدر لا يمكن إلا أن يجعلنا نستقل بقرارنا في التفكير وفي الكتابة ونعاني القهر برجولة، ونعتقد بثقة أن هذا بعض ما منحنا الشهداء وبعض ما ندين بهم لدمهم الشريف، ونجزم أن طريقنا وخيارنا هو طريق بناء الديمقراطية وخيارها الوحيد.
لهذا لن نمارس الاستئصال السياسي ولن نشارك في خدمة الاستئصاليين الذين وقف خيالهم عن صورة واحدة للبلد أن يكونوا فيه وحدهم يتمتعون بخيراته بدعوى التقدمية، فيما مخالفوهم يقبعون في غياهب السجون أو يتسولون على الطرقات إذا منحوا رخصة للبقاء.
نعيش خارج هذه المعركة وندينها لأنها معركة غير ديمقراطية، ونعطي من أنفسنا الحق في الدفاع عن كل مظلوم وهو واجب لا تفضل وندين كل استئصالي ونعاديه (ولن نقتله) ونتمسك بحقنا في القول الصدق ولو كلفنا أرواحنا، فأنا (نحن) من جيل يعتبر العمر بعد نظام بن علي غنيمة مجزية قدمها لنا الشهداء قدس الله أرواحهم في عليين.
أيها الاستئصاليون الذين تخربون الثورة وتعدمون أحلام الفقراء نحن هنا ونعرف بواطنكم وولاءتكم ومصادر ارتزاقكم الرخيصة ونحكم التاريخ بيننا، سنبقى بعد أجسادنا البالية وتندثرون، ذلك قانون الثورات ونحن ندفعه عن رضا، هو ثمن مراحل الإحباط العاطفي في الطريق إلى الديمقراطية، لكن سيولد جيل من أصلابنا ويقرأ التاريخ ويدينكم، يومها نقبض جزاءنا الحق وتستمر الدولة ويكون تاريخ آخر لستم منه إلا كورق تواليت.