“نعم، قرأته”، كان هذا رد الرئيس الأمريكي جو بايدن على سؤال صحفي له بشأن ما إذا طالع التقرير الاستخباراتي الخاص بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي أم لا، وعن احتمالية اتصاله بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، أجاب: “سأتحدث معه قريبًا لكنني لم أفعل ذلك بعد”.
حالة من الترقب تخيم على الأجواء انتظارًا لما يسفر عنه التقرير المتوقع أن يذاع اليوم بعد رفع السرية عنه، الذي تشير العديد من المصادر إلى تضمينه تورط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في عملية قتل الصحفي المعارض في قنصلية بلاده في إسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وكالة “رويترز“، نقلًا عن مسؤولين، أشارت إلى أن التقرير الذي شاركت في إعداده وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” لا يورد موافقة ولي العهد على خطة قتل خاشقجي فقط، بل يرجح أن يكون هو من أمر بذلك، الأمر الذي قد يضع – حال ثبوته – ابن سلمان في موقف حرج، ربما يزج بمستقبله السياسي في آتون من الغموض والشك.
ومن المتوقع أن تخيم سياسة الشد والجذب على العلاقات السعودية الأمريكية خلال ولاية بايدن الذي أعاد ضبط وتقييم علاقات بلاده مع الرياض بصورة تناقض عما كانت عليه خلال إدارة دونالد ترامب الذي منح الأمير الشاب “شيكًا على بياض” لممارسة الانتهاكات في الداخل والخارج على حسب التصريحات السابقة للرئيس الديمقراطي الذي أكد أن هذه المرحلة انتهت.
ضلوع ابن سلمان
في تسريب محتمل لما يمكن أن يتضمنه التقرير السري، كشفت شبكة “سي إن إن” الأمريكية من خلال وثائق قانونية حديثة، استخدام الفريق الذي اغتال خاشقجي لطائرتين مملكوتين لشركة استحوذ عليها ولي العهد، قبل عام من الحادثة، الأمر الذي يرجح ضلوع الأمير الشباب بشكل أساسي في الجريمة.
الوثائق التي جاءت تحت عنوان “سرية للغاية” كشفت أن الطائرتين المستخدمتين في العملية، بحسب سجلات الدعوى، تابعتين لشركة “سكاي برايم للطيران”، لكن في أواخر 2017 تم نقل ملكيتها إلى صندوق الثروة السيادي للسعودية، وهو الصندوق الخاضع لسيطرة ابن سلمان بصورة شخصية.
وبحسب الشبكة الأمريكية، فقد وقع وزير سعودي – بحسب الدعوى التي تم رفعها في كندا العام الماضي – على قرار نقل ملكية الطائرتين للشركة، ناقلة ما كتبه نصًا حين قال: “بناء على تعليمات سمو ولي العهد، يوافق على الفور على استكمال الإجراءات اللازمة لذلك”، اللافت هنا أن نقل ملكية الطائرتين لصندوق السيادة السعودي لم يتم الإبلاغ عنه سابقًا، وهو ما اُعتبر تمهيدًا لاستخدامهما في أمور خاصة لا يود الإفصاح عنها قانونًا، السند القانوني الذي يشير إلى وجود رد بين مقتل خاشقجي وابن سلمان.
وتتطابق وثائق “سي إن إن” مع ما أشارت إليه “وول ستريت جورنال” في أكتوبر/تشرين الأول 2018، حين نقلت عن مصادر خاصة بها أن طائرات من طراز “غلف ستريم” التي استخدمت في تنفيذ العملية تنتمي إلى شركة يسيطر عليها ولي العهد السعودي، في إشارة إلى “سكاي برايم للطيران”.
وبالعودة إلى تحقيقات الأمم المتحدة في هذه القضية فإن فريق الاغتيال المكون من 15 شخصًا استقل طائرتين، بعد تنفيذ العملية، إحداهما تحمل لوحة رقم “HZ-SK1″، وعلى متنها 6 أفراد، وقد أقلعت بعد ساعة وربع من هبوطها، أما الطائرة الثانية فأقلعت بعد 4 ساعات ونصف من موعد إقلاع الأولى من مطار أتاتورك، ولوحتها تحمل الرقم “HZ-SK2″، وتقل سبعة أفراد، أما العضوان الآخران فاستقلا طائرة تجارية من إسطنبول إلى الرياض.
الاتهام ذاته تكرر عام 2019، حين اتهمت محققة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، أغنيس كالامارد، السلطات السعودية بـ”إعدام متعمد” لخاشقجي، داعية إلى مزيد من التحقيقات بعد التقارير الواردة عن العديد من جهات التحقيق التي تشير إلى تورط ابن سلمان في العملية، قائلة: “هناك أدلة كافية ذات مصداقية فيما يتعلق بمسؤولية ولي العهد للمطالبة بمزيد من التحقيق”.
ورغم كل الأدلة والاتهامات الموثقة بتقارير النيابة العامة التركية وغيرها من الجهات المشاركة في مسار التحقيقات منذ وقوع الجريمة، فإن ترامب ضرب بها عرض الحائط، متجاهلًا ما جاء بها، وعلى العكس من ذلك حاول جاهدًا نفي التهمة عن ولي العهد، وهو الموقف الذي قوبل باستنكار حقوقي كبير، حتى من بين شريحة كبيرة من الأمريكان أنفسهم.
مستقبل ولي العهد
تترقب الأوساط السعودية التقرير المتوقع كشفه اليوم، الذي سيكون له تداعياته الكارثية على مستقبل ولي العهد حال ثبت إدانته بشكل رسمي ونهائي، ورغم التجاهل المصطنع من السلطات السعودية لحالة الزخم المصاحبة للتقرير، فإن ما يدور في الكواليس لا علاقة له تمامًا بمحاولة الثبات الانفعالي الدعائي الذي تسعى الآلة الإعلامية السعودية للترويج له منذ الحديث عن رفع السرية عن التقرير.
السؤال هنا: ماذا لو أدان التقرير ابن سلمان؟ من المحتمل أن يترتب على ذلك حالة قضائية استثنائية حيال الأمير الشاب، فكون خاشقجي مواطنًا أمريكيًا (حاصل على بطاقة الإقامة في الولايات المتحدة ومشمول بالحماية القضائية) فقد يفتح القضاء الأمريكي تحقيقًا جنائيًا ضد ولي العهد.
الأمر قد يتطور في ظل حالة الاحتقان الشعبي ضد هذه الجريمة التي هزت العالم أجمع، فقد يتجاوز القضاء الأمريكي المتوقع ويصدر مذكرة اعتقال في حق ابن سلمان، ما قد يعيد سيناريو رئيس بنما الأسبق مانويل نورييغا، الصادر بحقه أحكام قضائية كانت السبب في منعه من السفر وعدم استقبال أحد له، بجانب احتجازه في إحدى ولايات أمريكا، قبل أن يزج به في السجن لمدة 17 عامًا.
ماذا عن العلاقات بين البلدين؟
منذ الوهلة الأولى لدخوله البيت الأبيض يسعى بايدن وإدارته إلى إعادة ضبط وتقييم العلاقة مع السعودية، البداية حين أوقفت واشنطن صفقة أسلحة كانت قد وقعتها الرياض مع إدارة ترامب السابقة، ثم تعاظمت مع اعتبار العاهل السعودي هو المحاور المباشر مع الرئيس الأمريكي وليس ولي العهد كما المعتاد على مدار السنوات الأربعة الماضية.
تنظر واشنطن لابن سلمان على أنه أحد الأسباب الرئيسية وراء تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، بسبب أحلام الزعامة التي تراوده وأوقعته في العديد من الجرائم والانتهاكات التي كانت مثار انتقاد أمريكا خارجيًا بسبب الصمت حيالها من الإدارة السابقة، هذا بخلاف الصدام المستمر بين الأمير الشاب وأذرعه الإعلامية من جانب والديمقراطيين من جانب آخر، وهو ما لم ينسه الأخير على الأرجح.
سياسة بايدن الجديدة تجاه الشرق الأوسط تعد انقلابًا مكتملًا على السياسة الترامبية سيئة السمعة، وعليه فقد انتهى زمن “الشيك على بياض” الممنوح للأمير الطامح في خلافة والده لممارسة ما يحلو له في أي وقت وعلى أي مستوى، الأمر ذاته مع بقية حلفاء ترامب في المنطقة وفي المقدمة منهم حاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وعلى الأرجح فلن ينتظر من التقرير الجديد أيًا كان حجم ما سيتم كشفه، أن يقلب طاولة العلاقات السعودية الأمريكية، فالمصالح المشتركة بين البلدين ستضع العديد من الضوابط والعراقيل أمام المضي قدمًا في إنفاذ القانون على ولي العهد حال ثبت إدانته بالفعل.
البرغماتية الأمريكية التي تنتصر لمصالح البلاد العليا فوق أي اعتبارات أخرى، ستجعل من هذا الملف ورقة ضغط جديدة تمارسها لإجبار السلطات السعودية على إعادة النظر في سجلها الحقوقي المشوه بعشرات الاعتقالات دون وجه حق، هذا بجانب توظيفه سياسيًا لتحقيق بعض المكاسب الأخرى في عدد من الملفات التي تسعى واشنطن من خلالها لتعزيز حضورها الشرق أوسطي.
الرياض حاولت مغازلة إدارة بايدن بعدما كشفت النقاب عن ملامح سياستها الجديدة تجاه الشرق الأوسط، عبر الإفراج عن بعض الناشطات السعوديات مؤخرًا، مستجيبة بذلك لطلب واشنطن تعزيز وضعية المملكة الحقوقية، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيًا.
لا شك أن المملكة ستحاول قدر الإمكان التقليل من شأن التقرير السري، وذلك من باب حفظ ماء وجه الاستقلال السيادي لها، كما ستسعى جاهدة عبر أذرعها الإعلامية إما للتشكيك فيه عبر اتهامات التسييس تحقيقًا لمصالح خاصة وإما تكذيب ما جاء في مضمونه، وهو ما بدأ يلوح في الأفق خلال الأيام الماضية.
وفي الأخير وبصرف النظر عن محتوى التقرير وتداعياته فإن ما كان في ولاية ترامب لن يتكرر مرة أخرى مع بايدن، وهو ما سيدفع ولي العهد إلى العمل من أجل تقديم أوراق اعتماده رسميًا مرة أخرى للإدارة الأمريكية الجديدة من خلال إعادة النظر في بعض الملفات التي تتباين فيها وجهات النظر بين الرياض وواشنطن، حتى لو كان ذلك على حساب بعض حلفاء السعودية الإقليميين وفي مقدمتهم الجارة الإماراتية.