أصدر القضاء الألماني حكمًا بالسجن (أربع سنوات ونصف السنة) ضد العسكري المنشق عن الاستخبارات السورية إياد الغريب، في أول محاكمة لانتهاكات نظام بشار الأسد، وذلك لإدانته بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية. ويعد الغريب هو الأول بين متهمين يمثلان منذ أبريل/نيسان أمام محكمة كوبلنز الإقليمية العليا، أما المتهم الثاني فهو أنور رسلان الضابط المنشق عن النظام أيضًا لكنه ملاحق بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تشمل قتل 58 شخصًا وتعذيب أربعة آلاف معتقل، وفقًا للمحكمة.
وصل غريب إلى ألمانيا في أبريل/نيسان 2018، وعندما روى رحلته الشاقة للسلطات المسؤولة عن البت في طلب اللجوء الذي قدمه، أثار اهتمام القضاء الألماني ما أدى إلى اعتقاله في فبراير/شباط 2019.
وأوضحت الناشطة السورية لينا الشامي، نقلًا عن المحامي السوري أنور البني، ملخص أحد اللقاءات التي جرت للتعريف بهذه القضية، وقالت: “الغريب ذهب من تلقاء نفسه دون أن يطلب منه أحد إلى المحكمة وقال لهم إن لديه معلومات قد تفيد التحقيق وتدين النظام. رغم أنه يعلم أن انخراطه لمدة شهرين مع جهاز تابع للنظام مع بدء الثورة قد يدينه”، بالإضافة إلى أن الغريب “آثر الإدلاء بما لديه من معلومات تساعد على إدانة النظام حتى لو تقرر حكمه، بعد ذلك جرى اعتقاله واستكمال التحقيقات. وبما أن ما فعله إياد في شهادته الأولى من تلقاء نفسه كان موقفًا إيجابيًا أخذت المحكمة ذلك بعين الاعتبار لدى إصدارها الحكم كما توقع السيد أنور”.
حضرت إحدى الندوات السابقة التي جرت للتعريف بقضية محكمة كوبلنز وتحدث فيها السيد المحامي أنور البني بحكم معرفته بسياق الدعوى وخبرته في المجال
شرح فيها السيد أنور كيف أن اقتران الاسمين أنور رسلان وإياد غريب في القضية جاء لاحقاً
— Lina shamy (@Linashamy) February 25, 2021
ووفقًا لـ”فرانس 24″، “كان إياد الغريب يبكي وهو يستمع إلى محاميه الذين يطالبون بتبرئته بحجة أنه كان سيعرض حياته وحياة أسرته للخطر إذا لم ينفذ أوامر في نظام يسحق كل نية العصيان”.
أثارت قضية محاكمات كوبلنز جدلًا بين السوريين فيمن اعتبرها بداية تاريخية لمسار العدالة والاقتصاص من مجرمي الحرب الذين شاركوا في سلسلة الانتهاكات خلال مسيرة الثورة السورية، ومن يراها في المقابل عدالة منقوصة أو عدالة انتقائية، لأن هذه القضايا تجري ضد منشقين عن نظام الأسد منذ سنوات وليس ضد رجاله ورموزه الذين ما زالوا على رأس عملهم حتى اليوم.
“الانشقاق لا يجب ما قبله”
رغم استجابة بعض الضباط السوريين الذين كانوا في جيش نظام الأسد وفروعه الأمنية لدعوات الانشقاق بداية الثورة، فإن الانتهاكات التي ارتكبوها قبل خروجهم عن النظام لا يمكن أن تُنسى، وفي هذا الصدد يتكلم عبد الرحمن الدباس، مدير العمليات ببرنامج توثيق الانتهاكات في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير لـ”نون بوست”: “جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المتعلقة بها التي قام بها أي مسؤول سواء قبل الانشقاق أم بعده تعتبر جرائم دولية لا تسقط بالتقادم ولا تسقط بمجرد انشقاق الشخص أو خروجه من المنظومة الأمنية لأي جهة كانت”.
ويضيف الدباس: “لذلك، وانطلاقًا من وجوب سيادة القانون ومن مبدء محاربة الإفلات من العقاب وكجزء من تعويض الألم للضحايا وذويهم، يجب عدم التغافل عن محاسبة مرتكبي جرائم الحرب حتى إن ندموا عليها لاحقًا”.
في السياق، كتبت سيدرة علي الشهابي وهي سورية اعتقل النظام والدها: “بعد الحكم على عنصر المخابرات السابق إياد الغريب بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف، بتهمة المساعدة والتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، ما بكفي محاسبة عناصر، الاعتقالات بعدها مستمرة، الآلية بعدها نفسها، ولسا في بابا وأكتر من 130 ألف معتقل بعدهن معتقلين”.
تضيف الشهابي: “بعد ما اعتبر ابنه لإياد الغريب يلي عم يصير كتير مؤسف، وبعد ما كان عم يعبر عن كيف هو حزين أنه ما رح يقدر يشوف أبوه أكتر من مرة وحدة بالشهر لمدة ساعة بوجود مترجم. ما كان فيني إلا إنه قلو أنو بابا معتقل من تمن سنين بدون حتى محاكمة. وأنا ما كان فيني أشوفه ولا أحكي معو ساعة لا مرة بالشهر، ولا مرة بالتمن سنين. مع ذلك من مجمل الحكي، أنا ما قدرت إلا أني أتعاطف مع ابنه. ع اللافتة مكتوب الخطوة الأولى لكن أبي و130.000 معتقل ما زالوا معتقلين”.
عدالة مبتورة
في الطرف المقابل، توجد شريحة من السوريين تجد في محاكمة إياد غريب نوعًا من الانتقائية أو كما وصفها السياسي السوري أسامة أبو زيد بـ”العدالة المبتورة”، حيث يتفق أبو زيد في حديثه لـ”نون بوست” مع الطرح الذي يتجه نحو محاسبة ومساءلة جميع المجرمين، بحسب وصفه، ومن موقعه كمعتقل سابق يأمل أن يكون له في يوم من الأيام وقفة أمام جلاده، ووفقًا له “لا يستطيع أحد إلا أن يرحب بمساءلة ومحاسبة المسؤولين عن التعذيب”.
لكن أبو زيد توقف عند هذه القضية بذكر نقطتين أساسيتين يخبرنا بهما:
الأولى، أننا “لسنا أمام مسار يحاسب فيه الجميع، أي أن هذا المسار لن يأتي بجميع ضباط النظام والمنشقين والفصائل ويضعهم أمام محكمة ويبدأ بمحاسبتهم شخص شخص، لكننا أمام مسار انتقائي لأشخاص موجودين في أوروبا واستطاعت السلطات أن تضبطهم لكي تحاسبهم”، ويشير أبو زيد أن هؤلاء “تركوا النظام وانشقوا عنه، وأنا لست ضد محاسبتهم لما كانوا على رأس عملهم وخدمتهم في النظام السوري، وهذه النقطة مهمة ويجب الإشارة لها، أنا مع محاسبة الكل، ولكن هل نحن نحاسب النظام على أفعاله السابقة منذ 1970 أم نحن نحاسب الناس الذين استطعنا الإمساك بهم؟”.
يتساءل السياسي السوري أيضًا بقوله: “هل هذا المسار سيحاسب جميل حسن أو عبد السلام محمود أو غسان بلال (ضباط لدى جيش النظام والاستخبارات السورية)؟”، مضيفًا أنه يجب البدء بالضباط المسؤولين الكبار عن التعذيب والقتل “أولئك الذين عربدوا على أجسادنا ووضعوا الخطط التي تتضمن تعذيبنا حتى الموت” كما يصفهم أنهم خارج هذا المسار حاليًّا، ويكمل رأيه: “أنا اليوم شو عم قول؟ لكل واحد لم ينشق الله يعطيك العافية لأنك ما انشقيت لأنك لو انشقيت لح جيبك وحاكمك!”.
أما النقطة الثانية، فيقول أبو زيد: “عندما تسمع دعوات من أشخاص مثل جمال سليمان تنص على وجود مجلس عسكري فيه ضباط من النظام وفيه ضباط منشقين لم يمارسوا العمل القتالي، ماذا يعني هذا الأمر؟ لماذا يقبلون بحلول يكون فيها ضباط النظام المجرمون على رأس الدولة بينما لا نستطيع ذكر سيرة المنشقين المقاتلين في أي حل قادم”.
ويردف متسائلًا: “لماذا ينظر إلى سلاح الثورة أنه ابن لقيط للثورة، يتم التعامل مع سلاح الثورة على أنه لقيط، لا أحد يعترف فيه لأنه ابن غير شرعي، ولا أحد له علاقة به، لماذا ننسى أن حناجرنا بحت ونحن نطالب الضباط بالانشقاق، لماذا ننسى المجازر التي حصلت في حمص وحماة بالسكاكين والذبح قبل حمل السلاح في الثورة”.
ويختم قوله: “لسنا ضد مبدأ المحاسبة والمساءلة، لكن ما يحصل الآن فهو مبدأ مبتور، تطبيق مبتور لمبدأ العدالة، هذا مسار لا يحاسب فيه النظام، هذا مسار لا ينصف الضحايا على الإطلاق، أين محاسبة الضباط الكبار أم سيكونون جزءًا من الحل القادم إلى سوريا، الذي قتل المعتقلين ما زال في سوريا على رأس عمله”.
مشيرًا إلى أنه “الآن يوجد أشخاص رفعوا قضايا على إياد غريب وأنور رسلان وهذا محق، لكن يجب عدم تصويرها على أنها هي العدالة والمسار المطلوب التي ينتظرها السوريون، مسار العدالة يكون بمحاكمة الضباط الذين يقتلون وما زالوا على رأس عملهم منذ 2011 حتى اليوم”.
“قرار تاريخي”
من جهته رحب المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية على لسان المحامي والحقوقي السوري المعارض أنور البني بشدة بهذا القرار، واعتبره قرارًا تاريخيًا ونقطةً مضيئةً في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية، وبحسب البني فإن “القرار تاريخي لأنه ولأول مرة يصدر قرار بحق مجرم ينتمي للنظام السوري وارتكب جرائمه منظومته الأمنية الممنهجة”.
ويعتبر البيان أن هذا القرار وإن كان خاصًا بمتهم واحد “لكن حيثيات قرار الاتهام ومطالبة النيابة العامة تطال نظام الجريمة المنظمة والممنهجة الذي يحكم سوريا بالحديد والنار والخوف والإرهاب. ذلك النظام المجرم بجميع أركانه وشخصياته كان حاضرًا كمتهم بكل جلسات المحاكمة، في قرار الاتهام وفي شهادات الشهود والضحايا والخبراء كما كان حاضرًا بتهديد الشهود وتهديد عائلاتهم في سوريا”.
يضيف البيان: “تجريم المتهم إياد والحكم عليه لم يكن بسبب قيامه بجريمة منفردة من تلقاء نفسه بل بسبب كونه جزءًا من آلة جهنمية منظمة وممنهجة وبأوامر عليا لاعتقال المدنيين السلميين وإخفائهم قسرًا وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب وإخفاء جثثهم بمقابر جماعية وبطريقة مهينة جدًا، وهذه المنهجية تخضع لسلسلة أوامر وقيادة تصل لرأس هرم الجريمة الممنهجة في سوريا مع كل أركانه. لذا فالحكم على إياد يعني الحكم على وإدانة كل هرم تلك الجريمة وبما فيه رأسه وأركانه”.
إطار وطني شامل للعدالة
الناشط السوري وائل عبد العزيز وفي حديثه عن القضية لـ”نون بوست”، قال: “من حيث المبدأ، المحاسبة هدف من أهداف الثورة والكل يسعى إليه جاهداً لإنصاف الضحايا وتعويض كل سوري انتهك أي حق من حقوقه، لكن من جهة أخرى أنا كضحية ومن حيث المبدأ ضد محاكمة أي منشق في هذا الظرف و خارج إطار وطني شامل للعدالة يبدأ من محاكمة النظام ورموزه، تقوم به هيئات وطنية شرعية ذات مصداقية، لايجب أن يغيب عنا أن المحاكم الدولية هي تكميلية وليست الأساس في هذا المسار”.
ويتساءل عبد العزيز: “أي عدالة وأي محاسبة لمنشقين وما زلنا في قلب المعركة والثورة قائمة والنظام مع حماته يحتلون دمشق؟!”، مضيفًا: “بالنسبة لإياد الغريب هو ضحية اليوم، إياد منشق عن النظام بداية الثورة، وفي محاكمته كحالة منفردة هناك عدة نقاط إشكالية ومهمة من الممكن الحديث عن بعضها، فضلاً عن الأسئلة التي لم يقدم القائمون على محاكمة اياد والناشطون في هذا المجال اجابات عليها. أولًا يلاحظ أن هناك عدم إدراك لدى المحكمة لطبيعة وحساسية وتعقيدات الحالة السورية، أي طبيعة عمل إياد ورتبته ودوره ومعنى انشقاقه والفترة اللازمة لترتيب الانشقاق والخطر المحدق بالمنشق وعائلته كما أنه من الواضح عدم الاضطلاع على قدراته ومدى مسؤوليته المباشرة عن الجرائم، أو حتى المشاركة فيها، كل ذلك كان متجاوزاً من المحكمة. أضف إلى ذلك ما مصير عائلته ومستقبله عند نهاية مدة سجنه”؟ كما يجب التحذير من بيع الوهم خصوصاً للضحايا الذين ينتظرون العدالة، على أن هذه المحكمة خطوة في الطريق الذي يريدون؟ أي عدالة والنظام وأكابر مجرميه في دمشق!”.
بالمحصلة، يتفق السوريون على محاسبة المجرمين والسعي وراء العدالة التي تنصف الضحايا من جلاديهم وقاتليهم، لكن يبقى الخلاف الجذري حول مسارات العدالة وزمنها ومكانها، لكن لا شك أننا بحاجة واضحة لعدالة كاملة تأخذ الحق من جميع المجرمين، الرؤساء قبل المرؤوسين.