تتواصل الاشتباكات المسلحة بين القوات الموالية للحكومة وفصائل مسلّحة معارضة في أماكن متفرقة من جمهورية إفريقيا الوسطى، ما خلّف عديد القتلى والمشردين. اشتباكات عكست تحوّل البلاد إلى ساحة صراع خلفية بين روسيا وفرنسا، فما هي أهداف كلا الدولتين في هذا البلد الإفريقي؟.
ضحايا جدد
أخر حصيلة للاشتباكات بين قوات الحكومة والمعارضة، أعلنت عنها منظمة العفو الدولية (أمنستي) أمس الخميس، حيث سقط 14 شخصًا، بينهم مدنيّان على الأقلّ، داخل مبنى ديني في مدينة بامباري، خامس كبرى مدن جمهورية إفريقيا الوسطى، على بُعد 380 كلم شمال العاصمة بانغي.
كما حدثت عمليات نزوح كبيرة للسكان، كما هو الحال في بانغاسو في الجنوب الشرقي، ولوحظت أيضًا عمليات نهب وعرقلة تسليم السلع الأساسية والمساعدات الإنسانية.
وقالت أمنستي في بيان إنّ “شهادات وصورًا التقطتها أقمار اصطناعية وتحليلات للصور تؤكّد مقتل 14 شخصًا، وأضافت المنظمة الحقوقية أنّ شريط “فيديو أتاح أيضا رؤيةً عن قرب لبعض الجثث، بما في ذلك جثتا امرأة وطفل”، مشيرة إلى أنّ الضحايا “لم يكونوا يرتدون الزيّ العسكري”.
وبدأ الوضع الأمني في التدهور قبل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت في 27 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إثر تشكيل ست مجموعات مسلحة (تعتبر من الأقوى في جمهورية إفريقيا الوسطى) لتحالف الوطنيين من أجل التغيير، وبدأت هجومها ضدّ حكومة الرئيس فوستان أرشانج تواديرا.
هدف روسيا من وراء دعمها حكومة إفريقيا الوسطى الحصول على رخص استغلال مناجم الذهب والألماس والأحجار الكريمة لشركاتها
بحسب المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، فقد شرّد تصاعد الصراع في جمهورية إفريقيا الوسطى، أكثر من 200 ألف شخص في أقل من شهرين، وعبر 92 ألف شخص منهم، أي قرابة نصف الفارين، إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيما عبر 13 ألفا و240 شخصًا الحدود إلى الكاميرون وتشاد وجمهورية الكونغو، ولا يزال 100 ألف شخص نازحين داخليا داخل البلاد.
هذه الاشتباكات التي اندلعت بين قوات الأمن والمجموعات المعارضة في الجمهورية، خلال فترة الانتخابات، حولت البلاد إلى ساحة حرب، يذكر أنه في 5 يناير/ كانون ثاني الماضي، أعلنت سلطات البلاد، انتخاب فوستان أرشانج تواديرا، رئيسًا لولاية ثانية إثر فوزه بانتخابات الرئاسة التي أجريت في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
النفوذ الروسي الفرنسي
هذه الحرب التي تبدو في ظاهرها اشتباكًا داخليًا بين الفصائل المحلية حول السلطة، تخفي وراءها صراع نفوذ بين روسيا وفرنسا، فكلاهما يسعى للسيطرة على البلاد وتصدير حلفائه لقيادة هذا البلد الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية حتى وإن كلفهما ذلك حرق الأخضر واليابس فيها وإشعال حرب أهلية لا نهاية لها.
تدعم روسيا الرئيس الحالي فوستان أرشانج تواديرا في مواجهة المعارضة، حيث سلمت موسكو أسلحة لإفريقيا الوسطى خلال العامين الماضيين، وكانت روسيا قد وقعت اتفاق تعاون عسكري مع إفريقيا الوسطى وفتحت قبلها في عام 2019 مكتبًا عسكريًا في بانغي يشغله أربعة جنرالات روس، كما أرسلت عدد من مقاتلي “فاغنر” لتدريب الجنود المحليين وضمان الأمن الشخصي للرئيس تواديرا.
ومع إعلان أهم الجماعات المسلحة تقدمها نحو العاصمة بانغي نهاية السنة الماضية، وصلت طائرة أو طائرتا شحن روسيتين إلى البلد وعلى متنهما “300 مدرب عسكري” (المصطلح الذي تستعمله موسكو لوصف مقاتلي الشركات الأمنية الخاصة) إضافي على الأقل.
وفي منتصف تشرين الأول/أكتوبر، جابت نحو عشرة مدرعات ترفع علمي روسيا وإفريقيا الوسطى شوارع بانغي بعد وصولها البلد قادمة من موسكو من أجل “تأمين” سلامة الانتخابات، ويتواجد “المدربون” الروس منذ عامين في قصر بيرنغو على مسافة نحو ستين كيلومترًا من العاصمة.
أما فرنسا التي أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 انتهاء العمليات العسكرية “سانغاريس” في إفريقيا الوسطى، فهي تدعم الجماعات المسلحة الموالية للرئيس السابق فرانسوا بوزيزيه، وإن كانت لا تعلن ذلك صراحة.
وكان من المفترض أن يكون الرئيس السابق هو المنافس الأقوى للرئيس الحالي في الانتخابات، لكن المحكمة العليا في البلاد منعت بوزيزيه من الترشح، لأنه مطلوب في عدد من التهم، بما في ذلك القتل والاعتقال التعسفي والتعذيب، وهو ما أثار غضبًا واسعًا لدى الفصائل المسلحة المعارضة للحكومة.
وتُتهم السلطات الفرنسية بالسعي دائما لزعزعة استقرار جمهورية إفريقيا الوسطى بهدف تعيين القادة الذين سيحافظون على مصالحها هناك، فلدى باريس الكثير من المصالح في هذا البلد الغني بالمعادن والثروات الباطنية.
وسبق أن ساعدت فرنسا حليفها بوزيزيه في مواجهة تمرّد عامي 1996 و1997، كما ساعدته في انقلاب مارس/ آذار 2003 بعد أن أصبح الإليزيه غير راضٍ عن مساعي رئيس البلاد آنذاك، أنجي فيليكس باتاسيه، لتقليل الاعتماد على فرنسا، فاختار اللجوء إليها.
وتسيطر قوات التحالف الوطنيين من أجل التغيير بحكم الواقع على معظم أراضي الجمهورية، بينما تسيطر حكومة الرئيس فوستين أرشانغ تواديرا بالكاد على ثلث مساحة البلاد.
أهداف الروس
هدف روسيا من وراء دعمها حكومة إفريقيا الوسطى الحصول على رخص استغلال مناجم الذهب والألماس والأحجار الكريمة لشركاتها، إلى جانب كسب نفوذ جديدة في القارة السمراء بعد تمددها في أماكن عدّة على غرار مدغشقر وموزمبيق والسودان وإريتريا.
تعتبر فرنسا كل مستعمراتها جزءا من تراب فرنسا إلى الآن، ولا تسمح لأي منها بالاستقلال الحقيقي
يسمح حضور روسيا في هذه الدولة بتوجيه ضربة للكبرياء الفرنسي في إطار الخلافات بين موسكو وباريس على الساحة الدولية، خاصة في سوريا وأوكرانيا، فروسيا تسعى لملئ الفراغ الذي تركته فرنسا، خاصة على المستوى العسكري.
وتسعى روسيا إلى الظهور كقوة إقليمية مهمة في إفريقيا، خاصة وأنها تقدّم الأسلحة بسخاء إلى حلفائها في القارة السمراء كما أنها عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ولها خبرة في مجالي المناجم والتنقيب عن النفط.
الأهداف الفرنسية
فيما تسعى فرنسا –التي تشعر بعدم الرضا تجاه النفوذ الروسي المتزايد في أحد بلدان إفريقيا الفرنكوفونية- إلى استعادة نفوذها في هذا البلد من خلال استبدال الرئيس الحالي الموالي لموسكو بآخر موالٍ لها.
وتأمل فرنسا في استعادة نفوذها هناك، عقب انسحابها من هناك في مايو/أيار 2016، وإعلانها نهاية عملية “سانغاريس” الفرنسية في البلاد، وكانت هذه العملية قد بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2013 لدعم القوة الأممية إثر مواجهات دامية بين ميلشيات مسيحية ومسلمة في البلاد.
تأمل فرنسا في الاستحواذ على ثروات إفريقيا الوسطى
يذكر أن فرنسا تمتلك العديد من الشركات التي تمتص الموارد الطبيعية في إفريقيا الوسطى، بما يعني أن لديها مصلحة استعمارية راسخة في الحفاظ على البلاد تحت قبضتها. ويعود الحضور الفرنسي في إفريقيا الوسطى إلى عهود الاستعمار المباشر، حين كانت منطقة أوبانغي-شاري، الواقعة في دولة إفريقيا الوسطى حاليا، جزءا من إفريقيا الاستوائية الفرنسية مع تشاد والغابون ومملكة الكونغو (الكونغو الفرنسية حينها)، بين عامَيْ 1910-1934.
ولا تنوِ باريس مطلقا التخلّي عن نفوذها في هذه الدولة الإفريقية، بوصفها واحدة من 14 دولة إفريقية لا تزال تحتفظ بالعملة الاستعمارية الفرنسية “الفرنك الإفريقي”، وتمتلك احتياطات وطنية في البنك المركزي الفرنسي، وتُورد نسبة كبيرة من حصيلتها من العُملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية.
تعتبر فرنسا كل مستعمراتها جزءا من ترابها إلى الآن، ولا تسمح لأي منها بالاستقلال الحقيقي، خاصة وأنها تتمتع بامتيازات وافرة لشركاتها، في مجالات عدة على غرار الطاقة والنقل والاتصالات، وتأمل في الاستحواذ على تجارة الذهب والألماس التي تشكل 80% من حجم اقتصاد البلاد، وانتزاع السيطرة والإشراف على آبار البترول واليورانيوم.