يعرف العالم حاليًا نظامين اقتصاديين ومتنافسين في الوقت ذاته، وهما: رأسمالية المساهمين (Shareholder Capitalism) السائدة في العديد من الاقتصادات الغربية، ورأسمالية الدولة (State Capitalism) وهي بارزة في عدد من الأسواق الناشئة.
أدى كلاهما إلى تقدم اقتصادي هائل على مدى العقود القليلة الماضية، فقد جعلا عالمنا أكثر ازدهارًا من أي وقت مضى، ومع ذلك تسببا بنفس القدر من الضرر على أصعدة اجتماعية واقتصادية وبيئية، فقد زادت الفجوات الاجتماعية في الدخل والثروة والفرص، وبالتالي تضاعفت التوترات بين من يملكون ومن لا يملكون، ومن جهة أخرى، همشت الجانب الأخلاقي المهتم بالاستدامة وبالصحة والفائدة العامة والبيئة.
ونظرًا لأوجه القصور في كلا الحقلين، سعى العالم لإيجاد نظام عالمي جديد أفضل: رأسمالية أصحاب المصلحة (Stakeholder Capitalism). في هذا النظام، يوضع جميع أصحاب المصلحة في الاقتصاد والمجتمع على رأس قائمة الأولويات، وذلك بدءًا من العملاء والموظفين والشركاء وصولًا إلى المجتمع ككل، وتوسع الشركات أهدافها لما هو أكثر من مجرد أرباح قصيرة الأجل.
أصحاب المصلحة و حملة “أصحاب” الأسهم
ظهر الجدل حول دور ومسؤوليات الشركات الاجتماعية في محطات ونظريات مختلفة على مر العقود، وبدأت الكثير من الشركات وقادة الأعمال يدعون إلى تبني رأسمالية أصحاب المصلحة السائدة حاليًا في أوروبا والتي كانت القاعدة في السابق، حتى في الولايات المتحدة، يعتقد أنصار هذه الرأسمالية من أمثال الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، أن رأسمالية أصحاب المصلحة ينبغي أن تحتل الأولوية بدلًا عن المساهمين كمبدأ لحوكمة الشركات، وهي النظرية التي تناقض الفكرة التقليدية القائلة بأن الهدف النهائي والأسمى المطلوب من أي مدير تنفيذي لشركة ربحية هو تعظيم الربح والعوائد خدمة لمصالح حملة الأسهم، وبمعنى آخر خدمة لأصحاب الشركة.
وهو التوجه الاقتصادي الذي أصبح شائعًا من قبل الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل ميلتون فريدمان في السبعينيات، والذي اعتمد في طرحه على أن المدراء التنفيذيين يعملون لصالح الملاك (المساهمين) والمسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركة هي “استخدام مواردها والانخراط في أنشطة تهدف لزيادة أرباحها طالما بقيت ضمن قواعد اللعبة، أي تنخرط في منافسة مفتوحة وحرة بدون خداع أو احتيال” ضمن القانون.
ولكن بحسب مناهضي رأسمالية حملة الأسهم، فإن القطاع الخاص يتجاهل الأطراف الأخرى التي يقوم عليها النظام الاقتصادي والاجتماعي بالرغم من أنها ذات علاقة مباشرة مع الشركة ونشاطها التجاري، وعلى المدراء التنفيذيين عدم تجاهل هذه الحقيقة والعمل في المقابل على خدمة جميع أصحاب المصالح الرئيسيين مثل العملاء والموردين والموظفين والمجتمعات المحلية وطبعًا المساهمين. وبموجب هذا النظام، يتمثل غرض الشركة في إنشاء قيمة طويلة الأجل وليس زيادة الأرباح إلى أقصى حد أو تعزيز قيمة المساهمين على حساب أصحاب المصلحة الآخرين.
ينحاز إلى هذا الطرح جاك ويلش، الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك (من 1981 إلى 2001)، على الرغم من أنه كان يعتبر في وقت من الأوقات واحد من أبطال الفكر الرأسمالي الهادف لتعظيم ربحية حملة الأسهم، والذي قال في تقرير صحفي عام 2009 بعنوان “أغبى فكرة في العالم“، مبررًا انتقاده بأن “قيمة المساهم هي نتيجة وليست استراتيجية.. جمهورك الأساسي هم موظفوك وعملائك ومنتجاتك. يجب على المديرين والمستثمرين ألا يضعوا زيادات في أسعار الأسهم على أنها هدفهم الشامل.. يجب أن تترافق الأرباح قصيرة الأجل مع زيادة قيمة الشركة على المدى الطويل “.
كلا المعسكرين يتفقان على خمسة مبادئ أساسية
أولًا، يتفق أنصار الرأسماليتين على أن توليد قيمة طويلة الأجل للمساهمين أمر جيد، لأنه إذا كانت الشركات تخدم العملاء جيدًا وتنظم الموظفين بطرق تسمح لهم بالتعبير عن مواهبهم في خدمة العملاء، فستزدهر الشركة والمساهمون وسيكون المجتمع أفضل حالًا. ثانيًا، يتفق كلاهما أيضًا على أن كسب المال هو في النهاية شرط لبقاء الشركة.
ثالثًا، من الأمور المشتركة بين المدرستين أن التركيز على النتائج مهم لحماية المساهمين من تبديد المدراء للنقود على أشكال مختلفة من الإسراف التنفيذي، ورابعًا، يتفق كلاهما على أن قيمة المساهم هي مركزية في مهمة تقييم وضع وأداء الشركات.
أخيرًا، هناك إجماع على أن التركيز على قيمة المساهمين على المدى القصير ينطوي على مخاطر. وهكذا، كتبت مجلة الإيكونوميست أن التفكير في قيمة المساهمين أصبح “ترخيصًا للسلوك السيئ، بما في ذلك التقليل من الاستثمار، والأجور الباهظة للمدراء، واستخدام الروافع المالية العالية، والاستحواذات السخيفة، والخدع المحاسبية، والجنون لإعادة شراء الأسهم، والتي تصل قيمتها إلى 600 مليار دولار أمريكي سنويًا في أمريكا “.
وتقر المجلة البريطانية بأن هذه الأشياء تحدث، “لكن لا شيء له علاقة كبيرة بتعظيم قيمة المساهم”، معتبرةً أن التفكير في قيمة المساهم على المدى الطويل شيء مختلف تمامًا، وبالتالي، هناك بالفعل أرضية مشتركة بين مدرستي الرأسمالية.
رأسمالية أصحاب المصلحة هي تعهد بالقيام بأعمال تجارية في خدمة جميع أصحاب المصلحة، وليس فقط الأرباح والعوائد
كيف يمكن تطبيق رأسمالية أصحاب المصلحة على أرض الواقع؟
يمكن أن تكون رأسمالية أصحاب المصلحة إما أيديولوجية يتبناها القادة في الشركات الفردية أو نموذجًا تفرضه الحكومات من خلال القوانين واللوائح، وبشكل عام لا توجد مجموعة محددة من الأمور التي على الشركات أن تتعهد الالتزام بها.
وبحسب دراسة أجرتها منظمة بحثية مستقلة عام 2019 باستطلاع رأي لـ 4000 أمريكي حول القضايا التي يعتقدون أن الشركات الأمريكية يجب أن تعطيها الأولوية، وكانت الأولويات كالآتي:
- دفع أجور عادلة.
- تخفيض الفرق بين أجر الرئيس التنفيذي والعامل.
- ضمان السلامة في مكان العمل.
- الضغط من أجل معدلات ضريبية أعلى وتجنب الثغرات الضريبية.
- تقديم خدمة عملاء جيدة.
- الانخراط في ممارسات تسويقية صادقة.
- الاستثمار في المجتمعات المحلية.
- منع الضرر البيئي.
رأسمالية أصحاب المصلحة هي تعهد بالقيام بأعمال تجارية في خدمة جميع أصحاب المصلحة، وليس فقط الأرباح والعوائد، وذلك لا يعني أن المساهمون ليسوا مهمين، ولكن يشير إلى ضرورة أخذ الشركات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بالحسبان عند تحديد معايير النجاح الإدارية.
وكما ذكرنا، المفهوم نفسه ليس جديدًا، وهو مطبق إلى حد كبير في الدول الأوروبية التي تضع حكوماتها الكثير من المحددات والضوابط في وجه القطاع الخاص لتحافظ على نوع من أنواع التوازن بين المبادئ الرأسمالية والاشتراكية إن صح القول، ويبقى السؤال الأهم عن الدور الذي ستلعبه أزمة كورونا في توجيه بوصلة الاستثمار نحو المزيد من المسؤولية الاجتماعية والبيئية.