ترجمة وتحرير نون بوست
لمدة شهرين تقريبا بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر، حاول دونالد ترامب تقويض نتائج العملية الديمقراطية والبقاء في السلطة. ومن المفارقات أن فشله حفّز حاكما سلطويا في النصف الآخر من العالم – شخص نجح مرارا حيث فشل ترامب – للمخاطرة بسيطرته على السلطة وإعادة ناخبيه إلى صناديق الاقتراع.
في 15 كانون الثاني/ يناير، أعلن محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية ستجرى في أيار/ مايو وتموز/ يوليو القادمين على التوالي. إذا أُجريت هذه الانتخابات – بعد العديد من المحاولات الفاشلة في الماضي – ستكون الأولى للسلطة الفلسطينية منذ 15 سنة.
لم يكن فوز جو بايدن العامل الوحيد المحفّز لهذه الخطوة، لكن من شبه المؤكد أنه كان الدافع الأساسي. منذ انتهاء فترة ولايته في سنة 2009، قاوم عباس، البالغ من العمر 85 سنة، المطالب الشعبية المستمرة بإجراء الانتخابات. ولكن بعد 4 سنوات مروّعة مرت على الفلسطينيين بسبب سياسات ترامب في المنطقة، يبدو رئيس السلطة الفلسطينية يائسا من نيل رضا البيت الأبيض الجديد.
ظاهريا، يبدو أن الانتخابات الفلسطينية خطوة مرحّب بها. كانت السنوات العشر الماضية فترة مضطربة للغاية في الحياة السياسية الفلسطينية. في سنة 2007، حدث شرخ جغرافي ومؤسسي أدى إلى تقسيم الحكم بين السلطة الفلسطينية بقيادة فتح في الضفة الغربية، وحماس في قطاع غزة. أدى هذا الانقسام إلى ركود سياسي واجتماعي عميق حيث يحكم الجانبان على نمط الأنظمة البوليسية التي تمارس القمع ولا تخضع للمحاسبة من الجماهير التي زاد غضبها من حالة الانقسام والأداء السياسي السيء والفشل في تحقيق الأهداف الوطنية.
ومع ذلك، هناك الكثير من المشككين في الانتخابات الحالية، حتى بين الأصوات المؤيدة للديمقراطية. بشكل عام، ينقسم هؤلاء إلى معسكرين: أولئك الذين يعتقدون أن النخب السياسية ليس لديها نية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وسوف تعمل فقط على استثمار العملية لإضفاء الشرعية على وجودها في السلطة وتلبية مطالب الدول المؤثرة؛ وهناك من يعتقد أنه بغض النظر عن نزاهة العملية، فإن إجراء انتخابات للسلطة الفلسطينية لا يؤدي إلا إلى تعزيز التركيبة السياسية التي تجاوزت الهدف من وجودها وأصبحت عبئا على الشعب الفلسطيني. يجادل كلا المعسكرين بأن الإصلاح المؤسسي، وخاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية شبه المنحلّة، أكثر أهمية من الانتخابات ويجب أن يكون له الأولوية القصوى.
في حين أن هذه الحجج لها ما يبررها، إلا أنها تفتقد إلى نقطة مهمة: لا يوجد مسار للإصلاح المنشود دون إزاحة العراقيل التي تحول دون تغيير السلطة الحالية. على الرغم من أن انتخابات السلطة الفلسطينية محدودة النطاق ولا يمكن أن تُنجز هذه المهمة، إلا أنها ببساطة السبيل الأيسر لكسر القبضة الاستبدادية على المؤسسات الفلسطينية وبدء عملية الإصلاح التي يمكن أن تنتشر إلى الخارج. بعبارة أخرى، لا يحتاج الإصلاح إلى برنامج فحسب، بل يحتاج إلى عامل قابل للتطبيق.
ذه الانتخابات تبقى جديرة بالاهتمام بسبب كل هذه العوامل. ورغم أن النخب السياسية الفلسطينية قد لا تكون جادة في نواياها الديمقراطية
انتخابات محددة؟
يسود القلق من أن انتخابات السلطة الفلسطينية لن تكون حرة ونزيهة. ما يقرب من نصف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلة لا يثقون بالعملية الانتخابية، وذلك وفقا لاستطلاعات الرأي الأخيرة. ويعود هذا التشاؤم إلى سنوات من التجارب المريرة، ليس بسبب الانتخابات السابقة في حد ذاتها، والتي كانت قليلة ولكنها مقبولة عموما، ولكن بسبب عدم الثقة في مشروع الحكم الذاتي.
تميز عهد عباس، على وجه الخصوص، باحتكار السلطة وقمع المعارضة، بما في ذلك المعارضة السياسية ووسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية والمجتمع المدني. في غزة، يمكن وصف فترة حكم حماس منذ استيلائها على السلطة في سنة 2007 بعبارات مماثلة. باختصار، هم سلطويون وليسوا ديمقراطيين ودوافعهم الأساسية لإجراء الانتخابات لا علاقة لها باستعادة العملية الديمقراطية. وكما يشير علاء الترتير في نقده للانتخابات، فإن هؤلاء القادة الفلسطينيين مهتمون فقط بـ “قشور” الديمقراطية، وليس جوهرها.
قد يضمن المراقبون الدوليون الشفافية في يوم الانتخابات، لكن الفترة التمهيدية ستكون أكثر أهمية في تحديد مدى نزاهتها. في الوقت الحالي، ليس من الواضح ما إذا كان المرشحون والأحزاب من خارج فتح وحماس قادرين على القيام بحملاتهم دون ضغوط. على الرغم من أن الفصائل السياسية وافقت مؤخرا في القاهرة على عدد من الخطوات التي تهدف إلى الحفاظ على الجدول الزمني للانتخابات ونتائجها، إلا أن سنوات من القمع أرهقت المعارضة السياسية وتركت الجهات الفاعلة الأخرى دون بنية تحتية أو وقت كاف لحشد قاعدة انتخابية.
علاوة على ذلك، اتخذ عباس بالفعل إجراءات استثنائية لتقويض استقلال القضاء، الذي سيكون مسؤولا عن الفصل في نتائج الانتخابات. لا تزال التقارير تتحدث عن اعتقالات ذات دوافع سياسية، حتى بعد الدعوة إلى إجراء الانتخابات الشهر الماضي. مثل هذه الصلاحيات ليست الامتياز الوحيد الذي تملكه القيادة الفلسطينية الاستبدادية. لعبت “إسرائيل” أيضا دورا مهما في عرقلة الديمقراطية الفلسطينية من خلال منع سكان القدس الشرقية من المشاركة في الانتخابات ومضايقة واعتقال المسؤولين المنتَخبين والمرشحين المحتملين.
كذلك، عمل المجتمع الدولي على إحباط العملية الديمقراطية في فلسطين، وذلك في المقام الأول من خلال رفضه قبول فوز حماس في انتخابات 2006، مما أدى في النهاية إلى الانشقاق الذي تسبب في انقسام السياسة الفلسطينية منذ ذلك الحين. كل هذه العوامل أثرت على ثقة الشعب الفلسطيني في العملية الديمقراطية.
مع ذلك، فإن هذه الانتخابات تبقى جديرة بالاهتمام بسبب كل هذه العوامل. ورغم أن النخب السياسية الفلسطينية قد لا تكون جادة في نواياها الديمقراطية، فإن التصويت المقبل يمثل فرصة لتفكيك – أو الأقل إضعاف – قبضتها على مؤسسات الحكم. لقد تجنب زعماء فتح وحماس الانتخابات في الماضي لأن صندوق الاقتراع هو آلية للمساءلة وتهديد لسيطرتهم. ورغم أن شروط الانتخابات النزيهة والعادلة ليست متوفرة بشكل كامل، إلا أنها لا تزال تمثل فرصة حقيقية لأصوات وأفكار جديدة للدخول في العملية السياسية، ولمشاركة الشباب المهمش في اتخاذ القرار.
في الواقع، انتعش النشاط السياسي منذ الإعلان عن الانتخابات. حتى المنافسة داخل الفصائل السياسية مثل فتح وحماس أصبحت واضحة للعيان مع ظهور المنافسة بين الأحزاب. من الواضح أن أسلوب عباس في القيادة أدى إلى انقسامات داخل حركة فتح وتهميش العديد من أصحاب النفوذ داخل الحركة. عزز ذلك سيطرة عباس على حزبه في السنوات الأخيرة، لكن هذا الأمر قد لا يكون في صالح فتح أثناء الانتخابات عندما تكون وحدة الفصائل أمرا بالغ الأهمية.
إن حماس بدورها في موقف ضعيف أيضًا. حقق الحزب الإسلامي فوزا ساحقًا في انتخابات 2006 لأنه خاضها على أسس نموذج الحكم الرشيد ومقاومة فساد حركة فتح، إلا أن هذه الأهداف لم تتحقق خلال سنوات حكمه. وقد أظهر استطلاع أجري مؤخرًا في كانون الأول/ ديسمبر أن كلا من قادة حماس ومحمود عباس لا يحظيان بشعبية كبيرة، حيث ترغب نسبة 61 بالمئة من الفلسطينيين بتنحي عباس، بينما ترى نسبة 31 بالمئة فقط أنه أفضل مرشحيّ حزبه. في المقابل، تحظى العديد من الشخصيات الأخرى، بما في ذلك الأسير مروان البرغوثي، بدعم أكبر بكثير.
في سابقة هي الأولى من نوعها، ستُنظم الانتخابات التشريعية وفقًا لنظام التمثيل النسبي الكامل في القوائم الحزبية – على غرار انتخابات البرلمان الإسرائيلي. ومن المرجح أن يمنع ذلك هيمنة حزب واحد على المجلس التشريعي ويدفع نحو تشكيل تحالفات بدلاً من ذلك. وبالفعل، تم تداول تقارير موثوقة حول إمكانية تشكيل فتح وحماس قائمةً مشتركة. ولكن حتى لو جعلهما ذلك أكبر كتلة انتخابية، فإن تحالفهما يظل مناورةً يائسة تدل على الخوف وعدم اليقين تجاه النتيجة المحتملة للانتخابات.
هل تضمن الانتخابات استمرارية الوضع الراهن؟
إلى جانب المخاوف المتعلقة بمدى نزاهة الانتخابات، تشير مخاوف أخرى إلى إمكانية إتاحة الانتخابات ذريعةً للمجتمع الدولي لمواصلة دعمه الغافل للسلطة الفلسطينية، واتفاقية أوسلو، وعملية السلام المحتضرة، مع التشدق بـ “حل الدولتين” عديم الجدوى. بعبارة أخرى، من المتوقع أن يستمر العالم في تجاهل واقع الدولة الواحدة الناجم عن سلطة “إسرائيل” النافذة على الأراضي المحتلة، والتي من المحتمل أن يدوم أجلها.
إن هذا القلق منتشر على نطاق واسع، ويعكس السبب الأساسي لخوف الشعب الفلسطيني على مستقبله، خاصة أن قادته على استعداد لرهن ذلك المستقبل من أجل البقاء في السلطة. يقتضي هذا الوضع طرح أسئلة مهمة من قبيل: ما هو المغزى من وجود سلطة فلسطينية اليوم إذا لم تكن تسعى نحو تأسيس دولة مستقلة؟ وهل تعيد الانتخابات تأكيد شرعية هذه المؤسسة في فترة يعتبر مستقبلها – على نحو واجب – موضع شك؟
رفض انتخابات السلطة الفلسطينية بتعلة أنها تحافظ على الوضع الراهن ليس سوى ضربًا من العبث، وموقفا يفتقر إلى نظرة واقعية حول كيفية التغلب على الوضع الراهن بطريقة تعالج ديناميكيات السلطة المعوقة
للأسف، ليس لهذه الأسئلة إجابات سهلة بالنظر إلى مدى تعقيد الوضع. لا يعيش الفلسطينيون في نظام استبدادي مقسّم فحسب، بل تحت احتلال عسكري يزداد تعقيدا في إطار العمل بموجب اتفاقية أوسلو وما تشمله من تقسيمات لمناطق السلطة الفلسطينية والسلطة العسكرية الإسرائيلية والشرائح البيروقراطية. أنشأت اتفاقية أوسلو سلطة فلسطينية لتكون كيان حكم مؤقت لا يستمر لما بعد السنوات الخمس المحددة لـ “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض على شروط السلام النهائية.
بعد مرور أكثر من عشرين سنة، لا تزال السلطة الفلسطينية قائمةّ بعيدًا عن العملية الدبلوماسية التي أوجدتها في الأساس. طيلة تلك السنوات، تمكنت السلطة الفلسطينية من استيعاب منظمة التحرير الفلسطينية رغم طبيعة حكمها المؤقتة والمحدودة، وأصبحت الكيان السياسي المركزي للحياة الفلسطينية. لم تكن هذه النتيجة متوقعة عند تأسيس السلطة الفلسطينية، لكنها ما زالت تلحق أضرارًا بالغة بالشعب الفلسطيني وقضيته.
قد يكون من المستحيل التراجع عن اتفاقية أوسلو وإعادة خمسة ملايين فلسطيني للعيش تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر هذا إلى جانب كونه غير مرغوب فيه. وينطبق ذلك أيضا على إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية دون فصلها أولاً عن السلطة الفلسطينية، ومنع مسؤولين مثل عباس من تولي قيادتهما في آنٍ واحد.
نظرًا للبنية الغامضة لمنظمة التحرير الفلسطينية والتشتت الجغرافي للفلسطينيين، تزداد قدرة عباس على التلاعب بتمثيل المجلس الوطني الفلسطيني مقارنة بانتخابات السلطة الفلسطينية. هذا ما حدث بالضبط في سنة 2018 عندما عقد عباس اجتماعًا للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله واستخدمه لجمع المزيد من الموالين لدعم استمرارية حكمه.
بناء على ذلك، إن رفض انتخابات السلطة الفلسطينية بتعلة أنها تحافظ على الوضع الراهن ليس سوى ضربًا من العبث، وموقفا يفتقر إلى نظرة واقعية حول كيفية التغلب على الوضع الراهن بطريقة تعالج ديناميكيات السلطة المعوقة، ودوافع ومصالح أولئك الذين يتولون زمام السيطرة المؤسسية. يتطلب التغيير استبدال معرقلي العملية السياسية في المناصب العليا بالإصلاحيين. ذلك ممكن الحدوث بثلاث طرق: من خلال الانتفاضة الشعبية أو الانقلاب؛ أو إقامة مؤسسات منافسة قادرة على سلب الولاية الشعبية؛ أو من خلال الانتخابات. ومن بين ما سبق، وحدها الانتخابات تشكل خيارًا مباشرًا وسريعًا وعمليًا.
لا شكّ أنه إذا لم تكن انتخابات السلطة الفلسطينية جزءًا من عملية شاملة للتنشيط السياسي والإصلاح فإنها ستكون ذات أثر محدود وستخاطر بتعزيز إطار سياسي أثبت عدم نجاعته. لكن من الصعب أيضا الجدال في أن السنوات الخمس عشرة الأخيرة – التي لم تشهد عملية انتخاب – لم تسفر إلا عن نتائج كارثية للمجتمع الفلسطيني؛ أو أن غياب انتخابات تضفي الشرعية على السلطة الفلسطينية قد يسّر الطريق نحو الإصلاح في منظمة التحرير الفلسطينية والتحول الاستراتيجي. في المقابل، يمكن إثبات نقيض ذلك بشكل مقنع: يكمن السبب وراء تمكّن فتح وحماس من إطالة أمد الوضع الراهن وتجاهل الإرادة الشعبية في غياب آلية للمساءلة، وعدم قدرة جهات فاعلة جديدة عن الدخول للساحة السياسية وتحدي أفكار الحركتين غير الفعالة.
بالنظر إلى مركزية السلطة الفلسطينية في الساحة السياسية الفلسطينية اليوم، فإنه من المرجح أن يكون للتغيير في قيادتها آثار مضاعفة. بينما تسمح منظمة التحرير الفلسطينية لعباس بإضفاء الشرعية على السلطة الفلسطينية، فإن السلطة تظل المصدر الحقيقي لقوته وتمويله. وإذا فقدت فتح وعباس السيطرة على السلطة الفلسطينية، فمن المحتمل جدًا أن يسعيا لتغيير ميزان القوى بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا شك أن ذلك قد يستغرق وقتًا وأكثر من دورة انتخابية واحدة، ولكنه قد يمهد الطريق لفترة أكثر ديناميكيةً في السياسة الفلسطينية.
على أي حال، إذا لم تكن الانتخابات حرةً ونزيهة، فيمكن عندئذٍ للشعب الفلسطيني الطعن في النتائج علنًا. تنظم الانتخابات من قبل العديد من الأنظمة المستبدة، إلا أن ذلك لا يعني شرعيتها بالضرورة. ربما تكون الانتخابات الشكلية حافزًا للعمل الجماعي، وإذا أُجبرت النخب السياسية على قمع الاضطرابات المدنية، ستكون هذه إشارة مهمة للمجتمع الدولي الذي تجرى الانتخابات لالتماس رضاه في المقام الأول. ومهما كانت نتائج الانتخابات، فإنها تتيح فرصة نادرة لتوحيد وتنشيط الكيان السياسي الخامل، مما قد يشكّل الخطوة الأولى نحو وضع الأمور في نصابها الصحيح في القيادة الفلسطينية المختلّة.
المصدر: بروكينغز