غيّب الموت، صباح الجمعة 26 فبراير/شباط 2021، المؤرخ والفقيه القانوني المصري المستشار طارق البشري، عن عمر ناهز 88 عاما متأثرا بفيروس كورونا، فيما شيع جثمانه عقب صلاة الظهر من مسجد مصطفى محمود بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة)، وفق ما ذكرت وسائل إعلام محلية مصرية.
وشغل البشري منصب رئيس لجنة التعديلات الدستورية عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، حيث عُين من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يدير البلاد حينها بعد تنحي حسني مبارك، كما تولى كذلك منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقا.
يعد الفقيه الراحل أحد أبرز العلاقات في علم الفقه الدستوري المصري والعربي، ولا تزال فتاويه تمثل حتى اليوم مرجعًا للعاملين في الإدارة والقضاة والمشتغلين بالقانون بشكل عام، لما تميزت به من إحكام الصياغة ومرونة التعاطي بجانب مراعاتها للتطورات الراهنة وتأثيرها على الصياغات والأحكام الفقهية القانونية.
طالب بمشروع وطني سياسي يجمع أبناء الأمة للتخلص من ديكتاتورية مبارك، فكان من أوائل الداعمين لثورة يناير/ كانون الثاني 2011، وانتقد الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في العديد من المواقف، ثم دان ما حدث في 3 يوليو/تموز 2013 ووصفه بأنه “انقلاب مكتمل الأركان”.
لم يتحمل شلالات الدماء المتدفقة من ميداني رابعة العدوية والنهضة في أغسطس/آب 2013، على أيدي قوات الأمن، بشقيها الشرطي والعسكري، فآثر الابتعاد عن المشهد السياسي والاعتكاف في مكتبه بين بستان كتبه ومجلداته، فيما بات جسده عرضة للإعلام الداعم للثورة المضادة الذي شنً حملات تشويه في شخصه بسبب مواقفه السياسية الرافضة لللانقلاب، وظل بعيدًا عن الأضواء حتى وافته المنية اليوم…
الطريق إلى مشروع وطني متكامل
“عندما يفتقد النظام السياسي الحد الأدنى من اقتناع الناس بجدواه وثقتهم بأنه يكفل لهم حدًّا معقولا من تنظيم الحياة اليومية العادية برتابتها واطرادها، عندئذ يكون قد آذن بزوال، وهذا الإيذان لا يأتي فقط من نهوض الناس ضده أو احتجاجهم عليه، ولكنه يأتي أيضًا من سلوكه المتخبط ومن افتقاده المنطق والمعقولية في تصرفاته وقراراته”.. بهذه المقدمة تنبأ البشري في مؤلفه”مصر بين العصيان والتفكك” بحدوث ثورة تطيح بنظام مبارك.
المؤلف الصادر عام 2006 وهو عبارة عن عدة مقالات متفرقة، أوضح أن العصيان المدني عمل إيجابي يعكس إصرار المحكومين (الشعب) على نزع غطاء الشرعية تمامًا عن أي “حاكم فقد شرعيته فعلا” منذ زمن، داعيًا من خلاله إلى تدشين مشروع وطني متكامل يجمع تحت لواءه كافة ألوان الطيف السياسي في مصر.
رغم دعمه للتحول الديمقراطي الذي جاء بأول رئيس مدني في تاريخ مصر في 2012، إلا أنه انتقد في أكثر من موقف الرئيس محمد مرسي وإدارة الإخوان للبلاد
وتبلور هذا المشروع أكثر في كتابه “نحو تيار أساسي للأمة” الصادر عام 2011، وقصد بالتيار السياسي هنا كما جاء في مقدمة الكتاب “الإطار الجامع لقوى الجماعة والحاضن لها، وهو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، إنه ما يعبر عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة”.
وعن نضوج الفكرة في عقله قال: “وأنا بأقوم في الدراسات التاريخية كنت بألاحظ في فترات معينة من مراحل التاريخ أن الناس انقسموا شيعا وأحزابا حول عدد من الأهداف، بعضهم يهتم مثلا بالمسألة الوطنية، بعضهم يهتم مثلا بموضوع الديمقراطية، بعضهم يهتم بالتطور الاقتصادي وكل منهم أخذ هذه الفكرة فكرته الخاصة به ودافع عنها في مواجهة الآخرين رغم أنهم كان ممكن أن يتكاملوا وأنه إذا تكاملوا حيبقى المشترك بينهم كبيرا جدا والخصائص الذاتية والمتنوعة بالنسبة لهم حتبقى محدودة ويمكن تداركها وعمل حسابها في النهاية”.
وفي فصول الكتاب استعرض البشري العديد من المقومات التي يمكن من خلالها تنحية الخلافات بين التيارات السياسية والانطلاق من خلال قاعدة مشتركة من أجل تدشين كيان سياسي موحد، متنوع الرؤى، موحد الأهداف، يهدف إلى بناء نظام ديمقراطي مدني يلبي مطالب الجميع دون استثناء، وهو ما اعتبر حينها استقراء مبكر للثورة.
داعم للثورة ومنتقد لمرسي
كان الفقيه الراحل على رأس الشخصيات السياسة العامة المؤيدة لثورة يناير حين انطلقت فعالياتها الأولى في الخامس والعشرين من الشهر، وكانت مقالاته المنتشرة في العديد من الصحف المصرية تدعو للانتفاضة في وجه النظم الديكتاتورية التي أجهضت حلم الشعوب في دول متقدمة.
شارك البشري في صناعة القرار السياسي حين تم تعيينه من قبل المجلس العسكري رئيسًا للجنة التعديلات الدستورية المشكلة لإجراء بعض التعديلات على الدستور القديم بما يتماشى مع التطورات الثورية الينايرية حينها، فكان قبلة العديد من التيارات السياسية الراغبة في قراءة الموقف القانوني للمشهد السياسي في هذا الوقت.
رغم دعمه للتحول الديمقراطي الذي جاء بأول رئيس مدني في تاريخ مصر في 2012، إلا أنه انتقد في أكثر من موقف الرئيس محمد مرسي وإدارة الإخوان للبلاد، حيث اعترض على بعض مواد الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في ولاية مرسي، مؤكدًا بطلان جميع الإعلانات الدستورية التي أصدرها مرسي في 11 أغسطس و21 نوفمبر 2012، كما عارض عزل النائب العام المستشار عبد المجيد محمود – رغم أنه كان مطلبًا شعبيًا في ذلك الوقت- وتعيين المستشار طلعت عبد الله بدلًا منه.
كان إيمان البشري بالديمقراطية إيمانًا لا يزحزحه أي تغيرات في الأشخاص والأنظمة، فظل متمسكًا بمواقفه السياسية دون تغيير أو تعديل، وهو ما ظهر جليًا في الموقف من الانقلاب العسكري، والذي توقع البعض أن انتقاد الفقيه الراحل لبعض مواقف مرسي “شيك مسبوق الدفع” لتأييد أي خطوات ضده.
عملية الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، انقلاب عسكري صريح على دستور ديمقراطي أفرزته إرادة شعبية حقيقية
رافض للانقلاب
في رؤيته السياسية التقييمة لفترة حكم مرسي قال البشري “وقع الإخوان فى أخطاء، خاصة بعدما وصلوا إلى الحكم، ورأينا فصائل من التيار العلمانى تتربص بهم، وترفضهم من الأساس، واستغلت قوى الدولة الاستبدادية كل هذه العوامل، لإنهاء التجربة الديمقراطية القصيرة لهذه الثورة؛ ليعود الاستبداد كأشد ما يكون، ولا تستطيع تبرئة أحد مما جرى، الإخوان لم يقدروا الظروف السياسية؛ خاصة وأن هناك من عمل على إفشالهم والقوى المدنية تحالفت مع الاستبداد للإطاحة بالإخوان”.
في منتصف مايو/ أيار 2013، أي قبل الانقلاب العسكري بأسابيع قليلة، وصف البشري المشهد السياسي خلال ندوة شارك فيها في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، قائلا: “جميع الأحزاب والجبهات في مصر بعد الثورة تمارس عملا دعويا، وليس نشاطا سياسيا بالمفهوم العلمي الدقيق للعمل السياسي. ولذا لا يتوقفون عن محاولات إقحام جهتين، ينبغي أن يظلا دائما وأبدا بعيدين عن التسييس هما الجيش والقضاء في أتون الصراع السياسي ومعاركه الصغيرة” بحسب شهادة الكاتب الصحفي وائل قنديل، والذي رافقه خلال الندوة.
وفي 4 يوليو/تموز 2013، بعد بيان الانقلاب على مرسي، صرًح البشري لصحيفة “الشروق” المصرية، قائلا إن “عملية الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، انقلاب عسكري صريح على دستور ديمقراطي أفرزته إرادة شعبية حقيقية”.
وتابع: “الحقيقة أن القوات المسلحة التي ساهمت مساهمة بناءة وتاريخية في تحقيق أهداف ثورة 25 يناير وإدارتها المرحلة الانتقالية حتى تسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب، هي اليوم بقيادتها الجديدة تنتكس على هذه الثورة، وتقيم نظامًا استبداديًّا من جديد”.
وبعد أقل من أسبوع على هذا المقال، كتب آخر في الصحيفة ذاتها، تحت عنوان “الصراع القائم الآن هو بين الديمقراطية والحكم والانقلاب العسكرى وليس بين الإخوان ومعارضيهم” والذي جاء فيه “نحن الآن لسنا إزاء معركة بين الإخوان المسلمين فى السلطة وبين غيرهم من معارضيهم، لأن هذه المعركة كانت يمكن أن تحسم فى ظل دستور 2012 بانتخابات مجلس النواب وما يفضى إليه من تشكيل وزارى يعكس حكم التأييد الشعبى الصحيح لكل فريق من الفرقاء المتصارعين وهو ما كان من شأنه دستوريا أن يقيد سلطات رئيس الجمهورية وفقا لنتجية الانتخابات، ولكننا إزاء معركة تتعلق بالديمقراطية وبالدستور، وهو ما انتكس بفعل قيادة القوات المسلحة فى الانقلاب الذى حدث أخيرا”.
حملة شيطنة وتشويه
فتح الموقف السياسي للبشري، الرافض للانقلاب والداعم للديمقراطية مهما كانت ثغراتها، النار عليه من قبل أنصار الثورة المضادة، حيث جيًش الإعلام الداعم للسيسي أذرعه للهجوم على الفقيه الدستوري وتشويه صورته والتشكيك في مواقفه.
الحملة المسعورة ضده تجاوزت الهجوم الإعلامي إلى التعتيم ومنع نشر أي أخبار عنه، فبات على قائمة الممنوعين من الكتابة في الصحف أو الظهور على الفضائيات، بل تعدى الأمر ذلك إلى العمل على محو مقولاته وأفكاره السياسية المنتقدة لنظام ما بعد الثالث من يوليو من أرشيف الصحف ومواقعها الإلكترونية.
اللافت للنظر أنه ورغم كل هذا كان يتمتع باحترام كافة التيارات السياسية، فمواقفه لم تكن يومًا موالاة لأحد ولا نفاقًا لنظام، فانتقد مبارك في عز جبروته، ورفض تعديلات مرسي الدستورية رغم ادعاء البعض بأنه محسوب على الإسلاميين، كما تصدى لتغول السيسي على الديمقراطية، وانتقد المؤسسة العسكرية وانخراطها في العمل السياسي.
ومنذ 2013 وحتى اليوم أثبت البشري أن مواقفه في إثبات انقلابية المؤسسة العسكرية على النظام المنتخب هي الأكثر وجاهة وصلابة ووضوحاً وثباتًا، كما هي الأكثر احترامًا لدى الجميع، مقارنة بالكثير من المتلونيين أصحاب الشعارات الذين سقطوا في مستنقع البرغماتية والميكيافيللية.
ولد البشري في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1933 في حي الحلمية بمدينة القاهرة، لأسرة عرف عن رجالها الاشتغال بالعلم الديني والقانون، فجده لأبيه سليم البشري، كان شيخ السادة المالكية بمصر- شياخة الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951.
تخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1953، عين بعدها بمجلس الدولة واستمر به حتى تقاعده سنة 1998 على منصب رئيس الجمعية العمومية للفتوى والتشريع، له العديد من المؤلفات أبرزها: “الحركة السياسية في مصر 1945-1952″، و”الديمقراطية ونظام 23 يوليو “1952، “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”، و”منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي”، بجانب المؤلفات سالفة الذكر والتي استقرأ فيها الثورة على مبارك مبكرًا.