ترجمة وتحرير نون بوست
كيف يمكننا تلخيص سنة فيروس كوفيد-19 من منظور تاريخي واسع؟ يعتقد الكثير من الناس أن الخسائر الفادحة التي تسبب بها فيروس كورونا تُظهر عجز البشرية في مواجهة قوى الطبيعة. في الواقع، أظهرت سنة 2020 أن البشرية ليست عاجزة. لم تعد الأوبئة قوى طبيعية خارجة عن السيطرة. لقد حوّلها العلم إلى تحدٍّ يمكن احتواؤه. لماذا إذن كان هناك الكثير من الضحايا والمعاناة؟ بسبب القرارات السياسية الخاطئة.
في العصور السابقة، عندما واجه البشر وباء مثل الموت الأسود، لم يكن لديهم أي فكرة عن أسبابه أو كيفية علاجه. وعندما انتشرت إنفلونزا 1918، لم يتمكن أفضل العلماء في العالم من التعرف على الفيروس القاتل، وكانت العديد من الإجراءات لوقف انتشاره عديمة الجدوى، وفشلت محاولات تطوير لقاح فعال.
كان الأمر مختلفا تماما مع كوفيدـ19. بدأت أجراس الإنذار الأولى بشأن الوباء الجديد تقرع في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2019. وبحلول 10 كانون الثاني/ يناير 2020، لم يكن العلماء قد عرفوا الفيروس المسؤول عن الوباء فحسب، بل قاموا أيضا بالكشف عن جينومه ونشروا المعلومات على الإنترنت. في غضون بضعة أشهر، أصبحت الإجراءات الوقائية التي يمكن أن تبطئ وتوقف انتشار العدوى واضحة. في غضون أقل من سنة، تم تطوير العديد من اللقاحات الفعّالة بكميات كبيرة. في الحرب بين البشر ومسببات الأمراض، لم يكن البشر أبدا بمثل هذه القوة التي رأيناها في 2020.
الحياة تنتقل للعالم الافتراضي
إلى جانب الإنجازات غير المسبوقة للتكنولوجيا الحيوية، أظهرت سنة كورونا أيضا قوة تكنولوجيا المعلومات. نادرا ما تمكنت البشرية في العصور السابقة من إيقاف الأوبئة لأن البشر لم يتمكنوا من مراقبة سلاسل العدوى وقت حدوثها، ولأن التكلفة الاقتصادية لعمليات الإغلاق واسعة النطاق كانت باهظة. سنة 1918، كان بإمكانك عزل الأشخاص الذين أصيبوا بالأنفلونزا، لكن لم يكن بإمكانك تتبع حركة المصابين بالفيروس قبل ظهور الأعراض أو عندما لا تكون هناك أعراض أساسا. وإذا أجبرت جميع سكان بلد ما على البقاء في منازلهم لعدة أسابيع، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار اقتصادي واجتماعي وانتشار المجاعة.
في المقابل، سهّلت المراقبة الرقمية في سنة 2020 تتبع انتقال المرض وتحديد بؤر انتشاره، لذلك كان الحجر الصحي أكثر انتقائية وفعالية. والأهم من ذلك، أن الأتمتة والإنترنت جعلت عمليات الإغلاق واسعة النطاق قابلة للتطبيق، على الأقل في البلدان المتقدمة. ورغم أن ما حدث في بعض أجزاء العالم النامي ذكرنا بأوبئة الماضي، فإن الثورة الرقمية غيّرت كل شيء تقريبا في معظم أنحاء العالم المتقدم.
منذ آلاف السنين، اعتمد إنتاج الغذاء على العمالة البشرية، وعمل حوالي 90 بالمئة من سكان العالم في الزراعة. اليوم لم يعد هذا هو الحال في البلدان المتقدمة. في الولايات المتحدة، يعمل حوالي 1.5 بالمئة فقط من الناس في الزراعة، ولكن هذا العدد يكفي لتلبية حاجيات البلاد، وأيضا يجعل من الولايات المتحدة أكبر مُصدّر للأغذية في العالم. تتم جميع أعمال الزراعة تقريبا بواسطة آلات مضادة للأمراض. لذلك فإن عمليات الإغلاق ليس لها سوى تأثير ضئيل على الزراعة.
تخيل حقل قمح خلال ذروة انتشار الموت الأسود. إذا طلبت من عمال المزارع البقاء في المنزل وقت الحصاد، ستعم المجاعة. وإذا طلبت من عمال المزارع القدوم وحصد المحاصيل، فقد تنتشر بينهم العدوى. ما الذي ينبغي القيام به إذا؟
تخيل الآن حقل القمح ذاته في 2020. يمكن أن تحصد آلة واحدة موجهة بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي الحقل بأكمله بكفاءة أكبر بكثير، ودون أي مخاطر لانتشار المرض. في سنة 1349، كان المزارع العادي يحصد حوالي 5 بوشل (أداة قياس بريطانية للأحجام الجافة) يوميا، وفي 2014، سجلت الحصّادة رقما قياسيا بـ30 ألف بوشل في اليوم. لذلك، لم يكن لوباء كوفيدـ19 تأثير كبير على الإنتاج العالمي للمحاصيل الأساسية مثل القمح والذرة والأرز.
لتوفير الطعام، لا يكفي حصاد المحاصيل، بل تحتاج أيضا إلى نقلها عبر مسافات طويلة قد تصل إلى آلاف الكيلومترات. تاريخيا، كانت التجارة من الأسباب الرئيسية لانتشار الأوبئة. انتقلت مسببات الأمراض القاتلة حول العالم على متن السفن التجارية وقوافل المسافات الطويلة. على سبيل المثال، انتقل “الموت الأسود” من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط على طول طريق الحرير، ثم نقلته سفن جنوة التجارية بعد ذلك إلى أوروبا. شكلت التجارة تهديدا كبيرا لأن كل عربة كانت بحاجة إلى سائق، وكانت السفن والاستراحات المزدحمة بؤرا لانتشار العدوى.
في 2020، استمرت سلاسل التجارة العالمية في العمل بسلاسة إلى حد ما لأنها تضم عددا قليلا جدا من البشر. يمكن لسفينة حاويات مؤتمتة واحدة أن تنقل ما يفوق حمولة أسطول تجاري كامل لإحدى الممالك السابقة. سنة 1582، كانت القدرة الاستيعابية الإجمالية للأسطول التجاري الإنجليزي تبلغ 68 ألف طن، مع 16 ألف بحار على متن السفن. بينما اليوم، يمكن لسفينة الحاويات “أورينت أوفرسيز” التابعة لدولة هونغ كونغ، أن تحمل حوالي 200 ألف طن، مع طاقم لا يتجاوز 22 شخصا على متنها.
صحيح أن السفن السياحية والطائرات المليئة بالركاب لعبت دورا رئيسيا في انتشار كوفيدـ19، لكن السياحة والسفر ليسا ضروريين للتجارة. يمكن للسياح البقاء في منازلهم، ويمكن لرجال الأعمال إجراء الاجتماعات عبر تطبيق زوم، بينما تحافظ السفن والقطارات الآلية على حركة الاقتصاد العالمي. في مقابل التراجع الحاد للسياحة الدولية في 2020، انخفض حجم التجارة البحرية العالمية بنسبة 4 بالمائة فقط.
كان للأتمتة والرقمنة تأثير أكثر عمقًا على الخدمات. في 1918، لم يكن من المعقول أن تستمر المكاتب أو المدارس أو المحاكم أو الكنائس في العمل في حالة إغلاق. إذا كان الطلاب والمعلمون يلازمون منازلهم، فكيف يمكن أن تستمر الدراسة؟ اليوم نعرف الجواب.
صحيح أن عالم الإنترنت فيه الكثير من العيوب والمشكلات، وفي مقدمتها التأثيرات السلبية على الصحة النفسية، لكن فوائده مذهلة. في 1918، كانت البشرية تعيش في العالم المادي فقط، وعندما انتشرت الإنفلونزا، لم يكن للناس مكان آخر يلجؤون إليه. أما اليوم، فإننا نعيش في عالمين، مادي وافتراضي. عندما انتشر فيروس كورونا في العالم المادي، حوّل معظم الناس أنشطتهم اليومية إلى العالم الافتراضي، حيث لا يمكن للفيروس أن ينتشر.
أفراد شرطة على الخيول في هانوفر، ألمانيا، يطلبون من بعض الشباب مغادرة الحديقة.
بالطبع، لا يزال البشر كائنات واقعية، ولا يمكن تحويل كل شيء إلى العالم الرقمي. سلطت سنة كوفيد-19 الضوء على الدور الحاسم الذي تلعبه العديد من المهن منخفضة الأجر في الحفاظ على الحضارة الإنسانية: الممرضات وعمال الصرف الصحي وسائقو الشاحنات وعمال التوصيل. يقول المثل “لا تفصل بين الحضارة والبربرية إلا 3 وجبات”. وفي 2020، كان عمال التوصيل بمثابة خط الدفاع الأخير الذي حافظ على هذه الحضارة من الانهيار. أصبح هؤلاء شريان الحياة الأكثر أهمية في العالم المادي.
صمود الإنترنت
مع انتقال البشرية إلى الرقمنة وتحوّل معظم الأنشطة إلى الإنترنت، أصبحنا عرضة للكثير من المخاطر، لكن صمود شبكة الإنترنت في سنة كوفيد-19 كان رائعا. تخيّل إذا تحوّلنا جميعا في العالم الواقعي إلى المرور على جسر واحد، ستحدث بالتأكيد اختناقات مرورية، وقد ينهار الجسر. لكن في 2020، تحوّلت المدارس والمكاتب والكنائس إلى الإنترنت بين عشية وضحاها تقريبا، لكن الشبكة بقيت صامدة.
بعد سنة 2020، نعلم أن الحياة يمكن أن تستمر حتى عندما تكون دولة بأكملها في حالة إغلاق مادي. حاول الآن تخيل ما سيحدث إذا تعطلت بنيتنا التحتية الرقمية.
لقد جعلتنا تكنولوجيا المعلومات أكثر مرونة في مواجهة الفيروسات العضوية، ولكنها جعلتنا أيضا أكثر عرضة للبرامج الضارة والهجمات الإلكترونية. كثيرا ما يسأل الناس: “ما هو كوفيد القادم؟”. يتوقع كثيرون أنه سيكون الهجوم على البنية التحتية الرقمية.
استغرق الأمر عدة أشهر حتى انتشر فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم وأصاب ملايين البشر. قد تنهار بنيتنا التحتية الرقمية في يوم واحد. يمكن للمدارس والمكاتب أن تتحوّل بسرعة إلى الإنترنت، لكن كم من الوقت سنستغرقه في التأقلم مع البريد العادي عوض البريد الإلكتروني؟
ما هي أهم الأولويات؟
لقد كشفت سنة كوفيد-19 عن حدود قدراتنا العلمية والتكنولوجية. في الواقع، لا يمكن للعلم أن يعوّض السياسة. عندما نتخذ قرارات سياسية، نأخذ بعين الاعتبار المصالح والقيم، لكن بما أنه لا توجد طريقة علمية واضحة لتحديد طبيعة هذه المصالح والقيم، فلا يمكن أن نعرف على وجه الدقة ما هي القرارات السياسية الصائبة. على سبيل المثال، عند اتخاذ قرار بشأن فرض الإغلاق، لا يكفي أن نسأل: “كم عدد الأشخاص الذين سيمرضون بفيروس كوفيد-19 إذا لم نفرض الإغلاق؟”.
يجب أن نسأل أيضا: “كم عدد الأشخاص الذين سيصابون بالاكتئاب إذا فرضنا الإغلاق؟ كم من الناس سيعانون من سوء التغذية؟ كم عدد الذين سيتغيبون عن المدرسة أو يفقدون وظائفهم؟ كم عدد الذين سيتعرضون للضرب أو القتل من قبل أزواجهم؟”. حتى لو كانت جميع بياناتنا دقيقة وموثوقة، يجب أن نسأل دائمًا: “ما هي الأمور الأكثر أهمية؟ ومن يقرر ذلك؟ كيف نقيّم الإحصائيات؟” هذه مهمة سياسية وليست علمية. السياسيون هم من يجب أن يوازنوا بين الاعتبارات الطبية والاقتصادية والاجتماعية ويتخذوا سياسات شاملة.
وبالمثل، يعمل المهندسون على إنشاء منصات رقمية جديدة من شأنها أن تساعدنا على مواصلة أنشطتنا في حالة الإغلاق، وتصميم أدوات مراقبة جديدة ستساعدنا على كسر حلقات العدوى. لكن الرقمنة والمراقبة تهددان خصوصيتنا وتمهّدان الطريق أمام إرساء أنظمة شمولية غير مسبوقة. في سنة 2020، اكتسبت المراقبة الجماعية شرعيةً أكبر وأصبحت أكثر شيوعًا. لا شك أن مكافحة الوباء أمر مهم للغاية، لكن هل يستحق ذلك القضاء على حريتنا في المقابل؟
إن إيجاد التوازن الصحيح بين المراقبة المفيدة وأسوأ كوابيسنا من مهمة السياسيين وليس المهندسين.
يمكن لثلاث قواعد أساسية أن تحمينا من الديكتاتوريات الرقمية، حتى في زمن الوباء:
أولا، عند جمع بيانات الأشخاص – خاصةً البيانات الحيوية – لا بد من توظيف هذه البيانات لمساعدتهم بدلًا من التلاعب بهم أو التحكم فيهم أو إلحاق الأذى بهم. فعلى سبيل المثال، يعرف طبيبي الشخصي الكثير من المعلومات عني، بعضها خاص للغاية. لكن ذلك لا يقلقني لأنني واثق من أنه يستخدم هذه البيانات لمصلحتي. مع ذلك، يجب على طبيبي ألا يبيع هذه البيانات إلى أي شركة أو حزب سياسي. وينطبق الأمر ذاته على أي “نظام مراقبة أوبئة” قد نؤسسه.
ثانيا، يجب أن تكون المراقبة دائما في كلا الاتجاهين، وإذا كانت تُطبّق فقط من الألف إلى الياء سيكون هذا هو الطريق السريع للديكتاتورية. لذلك، كلما تضاعفت الرقابة على الأفراد، توجّب في نفس الوقت تعزيز الرقابة على الحكومة والشركات الكبرى أيضًا.
لجأت الحكومات في الأزمة الحالية إلى التحفيز المالي، ولكن يجب أن تكون هذه العملية أكثر شفافية. وبصفتي مواطنا، فأنا أرغب في الإطلاع على هوية المستفيدين من هذه الأموال، ومن يتحكم فيها. وأريد أن أتأكد من أن هذه الأموال تذهب إلى الشركات التي تحتاجها حقًا بدلا من تقديمها لإحدى الشركات الكبرى التي لأصحابها علاقات مع أحد الوزراء. إذا قالت الحكومة إن إنشاء هذا النوع من نظام المراقبة في خضم الجائحة أمر معقد للغاية، فلا تصدّق ذلك. فما لم يكن البدء في مراقبة ما تفعله معقدًا، فإن ذلك يعني أن مراقبة ما تفعله الحكومة لن يكون صعبا أيضًا.
ثالثا، لا تقم أبدًا بتجميع الكثير من البيانات في أي مكان واحد – لا أثناء الوباء، ولا حتى بعد انتهائه، نظرا لأن احتكار البيانات يعتبر محركا للديكتاتورية. إذا جُمّعت البيانات الحيوية عن الأشخاص لوقف الوباء، فيجب أن يتم ذلك من قبل هيئة صحية مستقلة وليس من قبل الشرطة. بعد ذلك، ينبغي أن تظل هذه البيانات منفصلة عن البيانات الأخرى التابعة للوزارات الحكومية والشركات الكبرى. وهذا من شأنه بالتأكيد أن يخلق حالات الازدواجية وانعدام الكفاءة. ولكن انعدام الكفاءة ميزة وليس عيبا. هل تريد منع صعود الديكتاتورية الرقمية؟ أبقِ الأمور على الأقل غير فعالة بعض الشيء.
إلى السياسيين
لم تحل النجاحات العلمية والتكنولوجية غير المسبوقة لسنة 2020 أزمة كوفيد-19، بل حوّلت الوباء من كارثة طبيعية إلى معضلة سياسية. عندما كانت حصيلة قتلى الطاعون الأسود بالملايين، لم يتوقع أحدٌ الكثير من الملوك والأباطرة. مات حوالي ثلث الإنجليز خلال الموجة الأولى من الطاعون الأسود، لكن هذا الوباء لم يتسبب في فقدان الملك إدوارد الثالث، ملك إنجلترا، عرشه.
من الواضح أن إنهاء الوباء أمر يتجاوز صلاحيات الحكام ويفوق قدرتهم، لذلك لم يلمهم أحد على الفشل في احتوائه. ولكن البشرية تمتلك اليوم الأدوات العلمية اللازمة لوقف انتشار فيروس كوفيد-19. وقد أثبتت العديد من الدول، بدءًا من فيتنام وصولا إلى أستراليا، أنه حتى في ظل غياب لقاح، يمكن للأدوات المتاحة وقف انتشار الوباء. هذه الأدوات مكلفة اقتصاديًا واجتماعيًا. بعبارة أخرى، صحيح أنه يمكننا التغلب على الفيروس، ولكننا لسنا متأكدين من أننا على استعداد لدفع التكلفة. لهذا السبب، فرضت الإنجازات العلمية مسؤولية هائلة على كاهل السياسيين.
لسوء الحظ، فشل الكثير من السياسيين في تحمل هذه المسؤولية. فعلى سبيل المثال، قلّل الرؤساء الشعبويون للولايات المتحدة والبرازيل من أهمية الخطر الذي يشكله الفيروس، ورفضوا الإصغاء إلى الخبراء وروّجوا لنظريات المؤامرة بدلا من ذلك. لم يتوصلوا إلى خطة عمل موحدة سليمة وأفسدوا محاولات سلطات الولايات لوقف الوباء. وقد أدى الإهمال وانعدام المسؤولية من إدارتي ترامب وبولسونارو إلى تسجيل مئات الآلاف من الوفيات التي كان من الممكن تجنبها.
في المملكة المتحدة، أولت الحكومة في البداية اهتمامًا أكبر لقضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدلًا من التركيز على أزمة فيروس كوفيد-19. وحتى مع كل سياساتها الانعزالية، فشلت إدارة بوريس جونسون في عزل بريطانيا عن أهم شيء بالفعل وهو الفيروس.
عانى الإسرائيليون بدورهم من سوء الإدارة السياسية. فعلى غرار تايوان ونيوزيلندا وقبرص، تعتبر إسرائيل أشبه بـ “دولة جزرية” بسبب حدودها المغلقة وامتلاكها بوابة دخول رئيسية واحدة فقط – وهو مطار بن غوريون الدولي. ومع ذلك، في ذروة تفشي الوباء، سمحت حكومة نتنياهو للمسافرين بالمرور عبر المطار دون الالتزام بالحجر الصحي أو حتى القيام بإجراءات الفحص اللازمة، وأهملت فرض السياسات الخاصة بالإغلاق.
باحثون في محطة اختبار فيروس كوفيد-19 في مركز المعارض في ساربروكن.
في وقت لاحق، كانت كل من إسرائيل والمملكة المتحدة على رأس قائمة البلدان المنتفعة باللقاحات، لكن سوء الإدارة في البداية كلفهما الكثير. ففي بريطانيا، أودى الوباء بحياة 120 ألف شخص، لتحتل بذلك المرتبة السادسة عالميا من حيث متوسط معدلات الوفيات. وتحتل إسرائيل المرتبة السابعة من حيث معدل حالات الإصابة المؤكدة. ومن أجل مواجهة الكارثة، لجأت الحكومة إلى إبرام صفقة “اللقاحات مقابل البيانات” مع شركة “فايزر” الأمريكية. وقد وافقت شركة “فايزر” على تزويد إسرائيل بما يكفي من اللقاحات لتطعيم جميع سكانها، مقابل تلقي كميات هائلة من البيانات القيّمة، مما أثار مخاوف بشأن الخصوصية واحتكار البيانات، وهذا خير دليل على أن بيانات المواطنين أصبحت الآن من بين أهم أصول الدولة.
كان أداء بعض البلدان أفضل بكثير من غيرها، بيد أن البشرية ككل فشلت حتى الآن في احتواء الوباء أو حتى وضع خطة عالمية لمكافحة الفيروس. كانت الأشهر الأولى من سنة 2020 أشبه بمشاهدة حادث بالتصوير البطيء، حيث مكّنت الاتصالات الحديثة الناس في جميع أنحاء العالم من رؤية الصور في الزمن الفعلي، في البداية من ووهان، ثم من إيطاليا، ثم من المزيد والمزيد من البلدان – ولكن لم تظهر في الأثناء أي قيادة عالمية لوقف الكارثة ومنعها من اجتياح أرجاء العالم. لطالما كانت الأدوات متاحة لكن في جل الأحيان، كانت الحكمة السياسية غائبة.
الأجانب يقدمون النجدة
من بين الأسباب التي تفسّر الفجوة بين النجاح العلمي والفشل السياسي أن العلماء تعاونوا عالميًا بينما ظلّ السياسيون في حالة خلاف. بالعمل تحت ضغوط كبيرة وحالة من عدم اليقين، تبادل العلماء في جميع أنحاء العالم المعلومات بكل حرية واعتمدوا على اكتشافات وأفكار بعضهم البعض. أجريت العديد من المشاريع البحثية الهامة من قبل فرق دولية. فعلى سبيل المثال، أجريت إحدى الدراسات الرئيسية التي أثبتت فعالية تدابير الإغلاق من قبل مجموعة من الباحثين الذين ينتمون لتسع مؤسسات مختلفة – واحدة في المملكة المتحدة، وثلاثٌ في الصين، وخمسٌ في الولايات المتحدة.
في المقابل، فشل السياسيون في تشكيل تحالف دولي لمكافحة الفيروس والاتفاق على خطة عالمية. بدلا من ذلك، تراشقت القوتان الرائدتان عالميًا – الولايات المتحدة والصين – التهم بشأن كتم المعلومات الحاسمة ونشر المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة، وحتى التسبب في نشر الفيروس عمدًا. ويبدو أن العديد من البلدان الأخرى عمدت إلى تزوير أو حجب البيانات المتعلقة بمدى تطور الجائحة أيضًا.
واحد من أصل حوالي 400 مركز تطعيم أنشئ في قاعة “فيست هول” في فرانكفورت، التي عادة ما تستضيف الحفلات الموسيقية.
لا يتجلى الافتقار إلى التعاون العالمي في حروب المعلومات فحسب، بل في النزاعات حيال المعدات الطبية المحدودة أيضًا. شهد العالم العديد من أمثلة التعاون والسخاء، بيد أنه لم تُبذل أي محاولة جادّة لتجميع جميع الموارد المتاحة وتوحيد الإنتاج العالمي وضمان التوزيع العادل للإمدادات. وعلى وجه الخصوص، تخلق “قومية اللقاحات” نوعًا جديدًا من مظاهر اللامساواة بين البلدان الغنية القادرة على تطعيم سكانها والبلدان الفقيرة التي لا تستطيع ذلك.
من المحزن أن نرى أن الكثيرين يعجزون عن إدراك حقيقة بسيطة في هذه الجائحة ألا وهي: طالما يستمر الفيروس في الانتشار في أي مكان في العالم، فلا يمكن لأي بلد أن يكون في مأمن منه بشكل تام. لنفترض أن إسرائيل أو المملكة المتحدة نجحت في القضاء على الفيروس داخل حدودها بينما يستمر الفيروس في الانتشار بين مئات الملايين من السكّان في دول مثل الهند أو البرازيل أو جنوب إفريقيا؛ قد تؤدي طفرة جديدة في بعض المدن البرازيلية النائية إلى إبطال فاعلية اللقاح، مما يسفر عن موجة جديدة من تفشي العدوى. في ظل الحالة الطارئة الحالية، من المرجح أن تطغى المصالح الوطنية على مطالبات العمل بمبدأ الإيثار. لكن التعاون العالمي في هذا الوضع ليس إيثارًا بل أساسًا لضمان المصلحة الوطنية.
لقاح من أجل العالم أجمع
ستتردد أصداء الجدال حول ما حدث في سنة 2020 لسنوات عدة. لكن يجب على جميع الناس من مختلف التيارات السياسية الاتفاق على ثلاثة دروس رئيسية على الأقل. أولاً، ينبغي علينا حماية بنيتنا التحتية الرقمية التي كانت سبب نجاتنا خلال هذه الجائحة، إلا أنها قد تكون منبع كارثة أكثر سوءًا قريبًا. ثانيًا، لا بد أن تزيد جميع الدول من الاستثمار في النظم الصحية العامة. قد يبدو هذا أمرًا بديهيًا، لكن السياسيين والناخبين أحيانا يغفلون عن أكثر الدروس وضوحًا.
ثالثًا، علينا إرساء نظام عالمي قوي لمراقبة الأوبئة والوقاية منها. في الحرب الأزلية بين البشر ومسببات الأمراض، فإن الجسم البشري هو خط المواجهة الأول، وإذا تم اختراق هذا الخط في أي نقطة على هذا الكوكب، فإن ذلك سيعرّضنا جميعًا للخطر. حتى أغنى الناس في أكثر البلدان تقدمًا من مصلحتهم حماية أفقر الناس في أقل البلدان نموًا. إذا انتقل فيروس جديد من الخفافيش إلى شخص يعيش في قرية فقيرة في بعض الأدغال النائية، فقد يصل هذا الفيروس إلى شارع “وول ستريت” في غضون أيام معدودة.
مختبرات “بيوسينشيا”، حيث يتم تشخيص فحوص فيروس كورونا وتقييمها وأرشفتها.
يوجد حاليًا هيكل أساسي لهذا النظام العالمي لمكافحة الأوبئة مُمثلٌ في منظمة الصحة العالمية والعديد من المؤسسات الأخرى. لكن الميزانيات التي تدعم هذا النظام ضئيلة، وتكاد تفتقر للحسم السياسي. نحن بحاجة لمنح هذا النظام بعض النفوذ السياسي والكثير من المال، حتى لا يعتمد بشكل كامل على أهواء السياسيين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية.
كما ذُكر سابقًا، لا أعتقد أنه يجب تكليف خبراء غير منتخبين باتخاذ قرارات سياسية حاسمة، بل يجب أن يظل ذلك حكرا على السياسيين. لكن تأسيس نوع من الهيئة الصحية العالمية المستقلة سيشكّل منصةً مثاليةً لتجميع البيانات الطبية، ومراقبة المخاطر المحتملة، ونشر التحذيرات، وتسيير البحث والتطوير.
يخشى الكثيرون أن تكون جائحة كوفيد-19 بداية موجة من الأوبئة الجديدة. ولكن إذا طبقنا الدروس المذكورة أعلاه، فإن الصدمة الناتجة عن جائحة كوفيد-19 يمكن أن تجعل الأوبئة في المستقبل أقل شيوعًا. لا يمكن للبشرية أن تمنع نشوء مسببات الأمراض الجديدة، لأن ذلك جزءٌ من عملية تطورية طبيعية بدأت منذ مليارات السنين وستستمر في المستقبل، لكن الإنسانية اليوم تتمتع بالمعرفة وتمتلك الأدوات اللازمة لمنع مسبب مرض جديد من الانتشار والتحول إلى جائحة. إذا استمر فيروس كورونا في الانتشار وقتل الملايين في سنة 2021 أو إذا حلّت جائحة أكثر فتكًا بالبشرية في سنة 2030، فلن يكون سببها كارثة طبيعية لا يمكن السيطرة عليها أو عقابا إلهيا، بل سيكون ذلك نتيجة فشل بشري – وعلى وجه التحديد – فشلًا سياسيًا.
المصدر: فايننشال تايمز